الآيات 118-120

فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ﴿118﴾ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ﴿119﴾ وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ﴿120﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة غير حفص ﴿فصل لكم﴾ بالفتح ما حرم بالضم وقرأ أهل المدينة وحفص ويعقوب وسهل ﴿فصل لكم ما حرم﴾ كليهما بالفتح وقرأ الباقون فصل لكم ما حرم بالضم فيهما وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ليضلون بفتح الياء هنا وفي يونس ليضلوا عن سبيلك وفي إبراهيم ليضلوا عن سبيله وفي الحج ليضل عن سبيل الله وفي لقمان والزمر في المواضع الستة وقرأ أهل الكوفة بضم الياء في هذه المواضع وقرأ الباقون هنا وفي سورة يونس بفتح الياء وفي الأربعة بعد هذين الموضعين بضم الياء.

الحجة:

حجة من ضم الفاء من فصل والحاء من حرم قوله حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فهذا تفصيل هذا العام المجمل بقوله حرم وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فمفصلا يدل على فصل وحجة من قرأ فصل وحرم بفتح الفاء والحاء قوله قد فصلنا الآيات وقوله أتل ما حرم ربكم وقوله الذين يشهدون أن الله حرم هذا وحجة من ضم الياء من يضلون ويضلوا أنه يدل على أن الموصوف بذلك في الضلالة أذهب ومن الهدى أبعد ألا ترى أن كل مضل ضال وليس كل ضال مضلا لأن الضلال قد يكون مقصورا على نفسه لا يتعداه إلى سواه ومن قرأ بفتح الياء فإنه يريد أنهم يضلون في أنفسهم من غير أن يضلوا غيرهم من أتباعهم بامتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه وغير ذلك أي يضلون باتباع أهوائهم.

الإعراب واللغة:

﴿وذروا﴾ الواو للعطف وإنما استعمل منه الأمر والمستقبل ولا يستعمل وذر ولا واذر أشعروا بذلك كراهية الابتداء بالواو حتى لم يزيدوها هناك أصلا مع زيادتهم أخواتها واستغنوا فيها بترك وتارك وهذا كما استعملوا الماضي دون المستقبل واسم الفاعل في عسى والظاهر الكائن على وجه يمكن إدراكه والباطن هو الكائن على وجه يتعذر إدراكه والكسب ما يفعل لاجتلاب النفع أو دفع الضرر وإنما يوصف به العبد دون الله تعالى لاستحالة النفع والضرر عليه سبحانه والكواسب الجوارح من الطير لأنها تكسب ما تنتفع به وقد بينا أن معنى الاقتراف الاكتساب.

المعنى:

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الكلام فقال ﴿فكلوا﴾ ثم اختلف في ذلك فقيل إنه لما ذكر المهتدين فكأنه قال ومن الهداية أن تحلوا ما أحل الله وتحرموا ما حرم الله فكلوا وقيل إن المشركين لما قالوا للمسلمين أتأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلوا ما قتل ربكم فكأنه قال سبحانه لهم أعرضوا عن جهلكم فكلوا والمراد به الإباحة وإن كانت الصيغة صيغة الأمر ﴿مما ذكر اسم الله عليه﴾ يعني ذكر اسم الله عند ذبحه دون الميتة وما ذكر عليه اسم الأصنام والذكر هو قول بسم الله وقيل هو كل اسم يختص الله تعالى به أو صفة تختصه كقول باسم الرحمان أو باسم القديم أو باسم القادر لنفسه أو العالم لنفسه وما يجري مجراه والأول مجمع على جوازه والظاهر يقتضي جواز غيره لقوله سبحانه ﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى﴾ ﴿إن كنتم ب آياته مؤمنين﴾ بأن عرفتم ورسوله وصحة ما أتاكم به من عند الله فكلوا ما أحل دون ما حرم وفي هذه الآية دلالة على وجوب التسمية على الذبيحة وعلى أن ذبائح الكفار لا يجوز أكلها لأنهم لا يسمون الله تعالى عليها ومن سمى منهم لا يعتقد وجوب ذلك حقيقة ولأنه يعتقد أن الذي يسميه وهو الذي أبد شرع موسى أو عيسى فإذا لا يذكرون الله تعالى حقيقة ﴿وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه﴾ قد ذكرنا إعرابه في سورة البقرة عند قوله وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وتقديره أي شيء لكم في أن لا تأكلوا فيكون ما للاستفهام وهو اختيار الزجاج وغيره من البصريين ومعناه ما الذي يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عند ذبحه وقيل معناه ليس لكم أن لا تأكلوا فيكون ما للنفي ﴿وقد فصل لكم﴾ أي بين لكم ﴿وما حرم عليكم﴾ قيل هو ما ذكر في سورة المائدة من قوله ﴿حرمت عليكم الميتة والدم﴾ الآية واعترض على هذا بأن سورة المائدة نزلت بعد الأنعام بمدة فلا يصح أن يقال أنه فصل إلا أن يحمل على أنه بين على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبعد ذلك نزل به القرآن وقيل إنه ما فصل في هذه السورة في قوله قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما الآية ﴿إلا ما اضطررتم إليه﴾ معناه إلا ما خفتم على نفوسكم الهلاك من الجوع إذا تركتم التناول منه فحينئذ يجوز لكم تناوله وإن كان مما حرمه الله واختلف في مقدار ما يسوغ تناوله عند الاضطرار فعندنا لا يجوز أن يتناول إلا ما يمسك به الرمق وقال قوم يجوز أن يشبع المضطر منها وأن يحمل منها معه حتى يجد ما يأكل وقال الجبائي في هذه الآية دلالة على أن ما يكره على أكله من هذه الأجناس يجوز أكله لأن المكره يخاف على نفسه مثل المضطر ﴿وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم﴾ أي باتباع أهوائهم ومن قرأ بالضم أراد أنهم يضلون أشياعهم فحذف المفعول به وفي أمثاله كثرة وإنما جعل النكرة اسم أن لأن الكلام إذا طال احتمل ذلك ودل بعضه على بعض ﴿بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين﴾ المتجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام ﴿وذروا ظاهر الإثم وباطنه﴾ أمر سبحانه بترك الإثم مع قيام الدلالة على كونه إثما ونهى عن ارتكابه سرا وعلانية وهو قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وقيل أراد بالظاهر أفعال الجوارح وبالباطن أفعال القلوب عن الجبائي وقيل الظاهر من الإثم هو الزنا والباطن هو اتخاذ الأخدان عن السدي والضحاك وقيل ظاهر الإثم امرأة الأب وباطنه الزنا عن سعيد بن جبير وقيل إن أهل الجاهلية كانت ترى أن الزنا إذا أظهر كان فيه إثم وإذا استسر به صاحبه لم يكن إثما ذكره الضحاك والأصح القول الأول لأنه يعم الجميع ﴿إن الذين يكسبون الإثم﴾ أي يعملون المعاصي التي فيها الآثام ويرتكبون القبائح ﴿سيجزون﴾ أي سيعاقبون ﴿بما كانوا يقترفون﴾ بما كانوا يكسبون ويرتكبون.