الآيـة 124

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴿124﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر إبراهام هاهنا وفي مواضع من القرآن والباقون ﴿إبراهيم﴾ وقرأ حمزة وحفص عهدي بإرسال الياء والباقون بفتحها.

الحجة:

في إبراهيم خمس لغات إبراهيم وإبراهام وإبراهم فحذفت الألف استخفافا قال الشاعر:

عذت بما عاذ به إبراهم وإبراهم

قال أمية:

مع إبراهم التقي وموسى

وأبرهم قال:

نحن آل الله في كعبته

لم يزل ذاك على عهد أبرهم والوجه في هذه التغييرات ما تقدم ذكره من قولهم إن العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه وتلعبت بحروفه فتغيرها وأما قوله ﴿عهدي﴾ فإنما فتح هذه الياء إذا تحرك ما قبلها لأن أصل هذه الياء الحركة فإنها بإزاء الكاف للمخاطب فكما فتحت الكاف كذلك تفتح الياء ومن أسكنها فإنه يحتج بأن الفتحة مع الياء قد كرهت في الكلام كما كرهت الحركتان الأخريان فيها أ لا ترى أنهم قد أسكنوها في حال السعة إذا لزم تحريكها بالفتحة كما أسكنوها إذا لزم تحريكها بالحركتين الأخريين وذلك قولهم قالي قلا وبادي وبدا ومعديكرب فالياء في هذه المواضع في موضع الفتحة التي في آخر الاسمين نحو حضرموت وقد أسكنت كما أسكنت في الجر والرفع.

اللغة:

الابتلاء الاختبار والتمام والكمال والوفاء نظائر وضد التمام النقصان يقال تم تماما وأتمه وتممه تتميما وتتمة والتم الشيء التام ولكل حاملة تمام بفتح التاء وكسرها وبدر تمام وليل تمام بالكسر والذرية والنسل والولد نظائر وبعض العرب يكسر منها الذال فيقول ذرية وروي أنه قراءة زيد بن ثابت وبعضهم فتحها فقال ذرية وفي أصل الكلمة أربعة مذاهب من الذرء ومن الذر والذرو والذري فإن جعلته من الذرء فوزنه فعلية كمريق ثم ألزمت التخفيف أو البدل كنبي في أكثر اللغة والبرية وإن أخذته من الذر فوزنه فعلية كقمرية أو فعيلة نحو ذريرة فلما كثرت الراءات أبدلت الأخيرة ياء وأدغم الياء الأولى فيها نحو سرية فيمن أخذها من السر وهو النكاح أو فعولة نحو ذرورة فأبدلوا الراء الأخيرة لما ذكرنا فصار ذروية ثم أدغم فصار ذرية وإن أخذته من الذرو أو الذري فوزنه فعولة أو فعيلة وفيه كلام كثير يطول به الكتاب ذكره ابن جني في المحتسب والنيل واللحاق والإدراك نظائر والنيل والنوال ما نلته من معروف إنسان وأناله معروفه ونوله أعطاه قال طرفة:

إن تنوله فقد تمنعه

وتريه النجم يجري بالظهر

وقولهم نولك أن تفعل كذا معناه حقك أن تفعل.

الإعراب:

اللام في قوله ﴿للناس﴾ تتعلق بمحذوف تقديره إماما استقر للناس فهو صفة لإمام فلما قدمه انتصب على الحال ويجوز أن تتعلق بجاعلك وقوله ﴿إماما﴾ مفعول ثان لجعل ﴿ومن ذريتي﴾ تتعلق بمحذوف تقديره واجعل من ذريتي.

المعنى:

﴿و﴾ اذكروا ﴿إذ ابتلى إبراهيم ربه﴾ أي اختبر وهو مجاز وحقيقته أنه أمر إبراهيم ربه وكلفه وسمي ذلك اختبار لأن ما يستعمل الأمر منا في مثل ذلك يجري على جهة الاختبار والامتحان فأجرى على أمره اسم أمور العباد على طريق الاتساع وأيضا فإن الله تعالى لما عامل عباده معاملة المبتلي المختبر إذ لا يجازيهم على ما يعلمه منهم أنهم سيفعلونه قبل أن يقع ذلك الفعل منهم كما لا يجازى المختبر للغير ما لم يقع الفعل منه سمي أمره ابتلاء وحقيقة الابتلاء تشديد التكليف وقوله ﴿بكلمات﴾ فيه خلاف فروي عن الصادق أنه ما ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل أبي العرب فأتمها إبراهيم وعزم عليها وسلم لأمر الله فلما عزم الله ثوابا له لما صدق وعمل بما أمره الله ﴿إني جاعلك للناس إماما﴾ ثم أنزل عليه الحنيفية وهي الطهارة وهي عشرة أشياء خمسة منها في الرأس وخمسة منها في البدن فأما التي في الرأس فأخذ الشارب وإعفاء اللحى وطم الشعر والسواك والخلال وأما التي في البدن فحلق الشعر من البدن والختان وتقليم الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة وهو قوله واتبع ملة إبراهيم حنيفا ذكره علي بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره وقال قتادة وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس أنها عشر خصال كانت فرضا في شرعه سنة في شريعتنا المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك في الرأس والختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء في البدن وفي الرواية الأخرى عن ابن عباس أنه ابتلاه بثلاثين خصلة من شرائع الإسلام لم يبتل أحدا بها فأقامها كلها إبراهيم فأتمهن فكتب له البراءة فقال وإبراهيم الذي وفى وهي عشر في سورة براءة التائبون العابدون إلى آخرها وعشر في الأحزاب إن المسلمين والمسلمات إلى آخرها وعشر في سورة المؤمنين قد أفلح المؤمنون إلى قوله أولئك هم الوارثون وروي وعشر في سورة سأل سائل إلى قوله والذين هم على صلاتهم يحافظون فجعلها أربعين وفي رواية ثالثة عن ابن عباس أنه أمره بمناسك الحج وقال الحسن ابتلاه الله بالكوكب والقمر والشمس والختان وبذبح ابنه وبالنار وبالهجرة فكلهن وفى الله فيهن وقال مجاهد ابتلاه الله بالآيات التي بعدها وهي قوله ﴿إني جاعلك للناس إماما﴾ إلى آخر القصة وقال أبو علي الجبائي أراد بذلك كلما كلفه من الطاعات العقلية والشرعية والآية محتملة لجميع هذه الأقاويل التي ذكرناها وكان سعيد بن المسيب يقول كان إبراهيم أول الناس أضاف الضيف وأول الناس اختتن وأول الناس قص شاربه واستحد وأول الناس رأى الشيب فلما رآه قال يا رب ما هذا قال هذا الوقار قال يا رب فزدني وقارا وهذا أيضا قد رواه السكوني عن أبي عبد الله ولم يذكر أول من قص شاربه واستحد وزاد فيه وأول من قاتل في سبيل الله إبراهيم وأول من أخرج الخمس إبراهيم وأول من اتخذ النعلين إبراهيم وأول من اتخذ الرايات إبراهيم وروى الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله في كتاب النبوة بإسناده مرفوعا إلى المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال سألته عن قول الله عز وجل ﴿وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات﴾ ما هذه الكلمات قال هي الكلمات التي تلقاها آدم (عليه السلام) من ربه فتاب عليه وهو أنه قال يا رب أسألك بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم فقلت له يا ابن رسول الله فما يعني بقوله ﴿فأتمهن﴾ قال أتمهن إلى القائم اثني عشر إماما تسعة من ولد الحسين (عليهم السلام) قال المفضل فقلت له يا ابن رسول الله فأخبرني عن كلمة الله عز وجل وجعلها كلمة باقية في عقبه قال يعني بذلك الإمامة جعلها الله في عقب الحسين إلى يوم القيامة فقلت له يا ابن رسول الله فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن (عليه السلام) وهما جميعا ولدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وسبطاه وسيدا شباب أهل الجنة فقال إن موسى وهارون نبيان مرسلان أخوان فجعل الله النبوة في صلب هارون دون صلب موسى ولم يكن لأحد أن يقول لم فعل الله ذلك وأن الإمامة خلافة الله عز وجل ليس لأحد أن يقول لم جعلها الله في صلب الحسين دون صلب الحسن لأن الله عز وجل هو الحكيم في أفعاله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقال الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله ولقوله تعالى ﴿وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات﴾ وجه آخر فإن الابتلاء على ضربين (أحدهما) مستحيل على الله تعالى (والآخر) جائز فالمستحيل هو أن يختبره ليعلم ما تكشف الأيام عنه وهذا ما لا يصح لأنه سبحانه علام الغيوب والآخر أن يبتليه حتى يصبر فيما يبتليه به فيكون ما يعطيه من العطاء على سبيل الاستحقاق ولينظر إليه الناظر فيقتدي به فيعلم من حكمة الله عز وجل أنه لم تكن أسباب الإمامة إلا إلى الكافي المستقل بها الذي كشفت الأيام عنه فأما الكلمات سوى ما ذكرناه فمنها اليقين وذلك قوله عز وجل وليكون من الموقنين ومنها المعرفة بالتوحيد والتنزيه عن التشبيه حين نظر إلى الكوكب والقمر والشمس ومنها الشجاعة بدلالة قوله فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم ومقاومته وهو واحد ألوفا من أعداء الله تعالى ومنها الحلم وقد تضمنه قوله عز وجل إن إبراهيم لحليم أواه منيب ومنها السخاء ويدل عليه قوله هل أتيك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ثم العزلة عن العشيرة وقد تضمنه قوله وأعتزلكم وما تدعون من دون الله ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان ذلك في قوله يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر الآيات ثم دفع السيئة بالحسنة في جواب قول أبيه لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي أنه كان بي حفيا ثم التوكل وبيان ذلك في قوله الذي خلقني فهو يهدين الآيات ثم المحنة في النفس حين جعل في المنجنيق وقذف به في النار ثم المحنة في الولد حين أمر بذبح ابنه إسماعيل ثم المحنة في الأهل حين خلص الله حرمته من عبادة القبطي في الخبر المشهور ثم الصبر على سوء خلق سارة ثم استقصاره النفس في الطاعة بقوله ولا تخزني يوم يبعثون ثم الزلفة في قوله ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا الآية ثم الجمع لشروط الطاعات في قوله إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي إلى قوله وأنا أول المسلمين ثم استجابه الله دعوته حين قال رب أرني كيف تحيي الموتى الآية ثم اصطفاه الله سبحانه إياه في الدنيا ثم شهادته له في العاقبة أنه من الصالحين في قوله ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم اقتداء من بعده من الأنبياء به في قوله ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين الآية وفي قوله ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا انتهى كلام الشيخ أبي جعفر رحمه الله وقوله ﴿فأتمهن﴾ معناه وفى بهن في قول الحسن وعمل بهن على التمام في قول قتادة والضمير في أتمهن عائد إلى الله تعالى في قول أبي القاسم البلخي وهو اختيار الحسين بن علي المغربي قال البلخي والكلمات هي الإمامة على ما قاله مجاهد قال لأن الكلام متصل ولم يفصل بين قوله ﴿إني جاعلك للناس إماما﴾ وبين ما تقدمه بواو العطف وأتمهن الله بأن أوجب بها الإمامة بطاعته واضطلاعه بما ابتلاه وقوله ﴿قال إني جاعلك للناس إماما﴾ معناه قال الله تعالى (إني جاعلك إماما يقتدى بك في أفعالك وأقوالك) لأن المستفاد من لفظ الإمام أمران (أحدهما) أنه المقتدى به في أفعاله وأقواله (والثاني) أنه الذي يقوم بتدبير الأمة وسياستها والقيام بأمورها وتأديب جناتها وتولية ولاتها وإقامة الحدود على مستحقيها ومحاربة من يكيدها ويعاديها فعلى الوجه الأول لا يكون نبي من الأنبياء إلا وهو إمام وعلى الوجه الثاني لا يجب في كل نبي أن يكون إماما إذ يجوز أن لا يكون مأمورا بتأديب الجناة ومحاربة العداة والدفاع عن حوزة الدين ومجاهدة الكافرين فلما ابتلى الله سبحانه إبراهيم بالكلمات فأتمهن جعله إماما للأنام جزاء له على ذلك والدليل عليه أن قوله ﴿جاعلك﴾ عمل في قوله ﴿إماما﴾ واسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل ولو قلت أنا ضارب زيدا أمس لم يجز فوجب أن يكون المراد أنه جعله إماما إما في الحال أو في الاستقبال والنبوة كانت حاصلة له قبل ذلك وقوله ﴿قال ومن ذريتي﴾ أي واجعل من ذريتي من يوشح بالإمامة ويوشح بهذه الكرامة وقيل إنما قال ذلك على جهة التعرف ليعلم هل يكون في عقبه أئمة يقتدى بهم والأولى أن يكون ذلك على وجه السؤال من الله تعالى أن يجعلهم كذلك وقوله ﴿قال لا ينال عهدي الظالمين﴾ قال مجاهد العهد الإمامة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) أي لا يكون الظالم إماما للناس فهذا يدل على أنه يجوز أن يعطي ذلك بعض ولده إذا لم يكن ظالما لأنه لو لم يرد أن يجعل أحدا منهم إماما للناس لوجب أن يقول في الجواب لا أو لا ينال عهدي ذريتك وقال الحسن معناه أن الظالمين ليس لهم عند الله عهد يعطيهم به خيرا وإن كانوا قد يعاهدون في الدنيا فيوفى لهم وقد كان يجوز في العربية أن يقال لا ينال عهدي الظالمون لأن ما نالك فقد نلته وقد روي ذلك في قراءة ابن مسعود واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوما عن القبائح لأن الله سبحانه نفي أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه وإما لغيره فإن قيل إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه فإذا تاب لا يسمى ظالما فيصح أن يناله فالجواب أن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما فإذا نفي أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد.