الآيات 59-61

وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴿59﴾ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴿60﴾ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العليمُ ﴿61﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأبو جعفر وحمزة وحفص ﴿ولا يحسبن﴾ بالياء والباقون بالتاء وقرأ ابن عامر إنهم لا يعجزون بالفتح والباقون ﴿إنهم﴾ بالكسر وقرأ رويس عن يعقوب ترهبون بالتشديد والباقون ﴿ترهبون﴾ بالتخفيف وقرأ أبو بكر للسلم بكسر السين والباقون بفتح السين.

الحجة:

من قرأ لا تحسبن بالتاء فالذين كفروا المفعول الأول وسبقوا جملة في موضع نصب بكونها المفعول الثاني ومن قرأ ﴿يحسبن﴾ بالياء فلا يخلو من أن يكون جعل الذين كفروا الفاعل وهذا لا يجوز لأن يحسبن لا بد له من مفعولين ولكنه محمول على أحد ثلاثة أشياء إما أن يكون فاعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتقديره ولا يحسبن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الذين كفروا سبقوا وإما أن يكون تقديره على حذف إن كأنه قال لا يحسبن الذين كفروا إن سبقوا فحذفت إن كما حذفتها في تأويل سيبويه في قوله أ فغير الله تأمروني أعبد كأنه قال أ فغير عبادته تأمروني قال الزجاج ويقوي هذا الوجه أنها في حرف ابن مسعود أنهم سبقوا وإذا كانت كذلك فهو بمنزلة قولك حسبت أن أقوم وحسبت أقوم على حذف أن وإذا وجهته على هذا فقد سد أن سبقوا مسد المفعولين كما أن قوله الم أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا كذلك وإما أن يكون أضمر المفعول الأول وتقديره ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا أو إياهم سبقوا ومن قرأ ﴿إنهم لا يعجزون﴾ بكسر الألف يكون على الاستئناف كما أن قوله ساء ما يحكمون منقطع من الجملة التي قبلها التي هي أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ومن قرأ أنهم لا يعجزون جعله متعلقا بالجملة الأولى وتقديره لا تحسبنهم سبقوا لأنهم لا يفوتون ومن قرأ ترهبون فلأن رهب يرهب رهبة يعدى تارة بالهمزة وتارة بالتشديد فيقال رهبته وأرهبته وأما السلم والسلم فلغتان ومعناهما الصلح.

اللغة:

السبق تقدم الشيء على طالب اللحوق به والإعجاز إيجاد ما يعجز عنه والعجز معنى عند أبي علي الجبائي وأبي القاسم البلخي وليس بمعنى عند أبي هاشم وأصحابه بل هو عدم القدرة وذهب إليه المرتضى والأعداد اتخاذ الشيء لغيره مما يحتاج إليه في أمره والاستطاعة معنى ينطاع بها الجوارح للفعل مع انتفاع المنع والرباط شد أيسر من العقد يقال ربطه يربطه ربطا ورابطه مرابطة ورباطا والإرهاب إزعاج النفس بالخوف والجنوح الميل ومنه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد شقيه ولا جناح عليه أي لا ميل إلى مأثم.

الإعراب:

﴿لا يعجزون﴾ فتح النون هو القراءة ويجوز كسرها على معنى لا يعجزونني ويحذف النون الأولى لاجتماع النونين كما قال الشاعر:

تراه كالثغام يعل مسكا

يسوء الغاليات إذا فليني يريد فلينني ﴿وآخرين من دونهم﴾ منصوب على تقدير وترهبون آخرين ويجوز أن يكون على تقدير وأعدوا لهم الآخرين فيكون مجرورا عطفا على الهاء والميم.

المعنى:

لما تقدم الأمر بقتال الكفار عقبه سبحانه بوعد النصر والأمر بالإعداد لقتالهم فقال ﴿ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا﴾ معناه ولا تحسبن يا محمد أعداءك الكافرين قد سبقوا أمر الله وأعجزوه وأنهم قد فاتوك فإن الله سبحانه يظفرك بهم كما وعدك ويظهرك عليهم والسبق والفوت بمعنى واحد وقيل معناه لا تحسبن من أفلت من هذه الحرب إنه قد يسبق إلى الحياة عن الزجاج والخطاب للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد به غيره وقيل إنه إنما قاله تطييبا لقلبه في الهاربين كما طيب قلبه في المقتولين والمأسورين وعلى القراءة بالياء فالمعنى لا يحسبن الكافرون أنفسهم سابقين أو لا يحسبن الكافرون أنهم سابقون ﴿إنهم لا يعجزون﴾ أي لا يعجزون الله ولا يفوتونه حتى لا يبعثهم الله يوم القيامة عن الحسن وقيل معناه لا يعجزونك عن الجبائي ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾ هذا أمر منه سبحانه بأن يعدوا السلاح قبل لقاء العدو ومعناه وأعدوا للمشركين ما قدرتم عليه مما يتقوى به على القتال من الرجال وآلات الحرب وروى عقبة بن عامر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن القوة الرمي وعلى هذا فيكون معناه أنه من القوة وقيل إن القوة اتفاق الكلمة والثقة بالله تعالى والرغبة في ثوابه وقيل القوة الحصون عن عكرمة ﴿ومن رباط الخيل﴾ أي ومن ربطها واقتنائها للغزو وهي من أقوى عدد الجهاد وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ارتبطوا الخيل فإن ظهورها لكم عز وأجوافها كنز وقيل إن القوة ذكور الخيل والرباط والإناث منها عن الحسن وعكرمة ﴿ترهبون به﴾ أي تخوفون بما تعدونه لهم ﴿عدو الله وعدوكم﴾ يعني مشركي مكة وكفار العرب ﴿وآخرين من دونهم﴾ أي وترهبون كفارا آخرين دون هؤلاء واختلفوا في الآخرين فقيل أنهم بنو قريظة عن مجاهد وقيل هم أهل فارس عن السدي وقيل هم المنافقون لا يعلم المسلمون أنهم أعداؤهم وهم أعداؤهم عن الحسن وابن زيد ﴿لا تعلمونهم﴾ معناه لا تعرفونهم لأنهم يصلون ويصومون ويقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله ويختلطون بالمؤمنين ﴿الله يعلمهم﴾ أي يعرفهم لأنه المطلع على الأسرار وقيل هم الجن وهو اختيار الطبري قال لأن الأعداء دخل فيه جميع المتظاهرين بالعداوة فلم يبق إلا من لا يشاهد ﴿وما تنفقوا من شيء في سبيل الله﴾ أي في الجهاد وفي طاعة الله ﴿يوف إليكم﴾ أي يوفر عليكم ثوابه في الآخرة ﴿وأنتم لا تظلمون﴾ أي لا تنقصون شيئا منه ﴿وإن جنحوا للسلم﴾ أي مالوا إلى الصلح وترك الحرب ﴿فاجنح لها﴾ أي مل إليها واقبلها منهم وإنما أنث لأن السلم بمعنى المسالمة ﴿وتوكل على الله﴾ أي فوض أمرك إلى الله ﴿إنه هو السميع العليم﴾ لا تخفى عليه خافية وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله﴾ الآية عن الحسن وقتادة وقيل إنها ليست بمنسوخة لأنها في الموادعة لأهل الكتاب والأخرى لعباد الأوثان وهذا هو الصحيح لأن قوله ﴿اقتلوا المشركين﴾ والآية الأخرى نزلتا في سنة تسع في سورة براءة وصالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وفد نجران بعدها.