الآية- 94

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿94﴾

القراءة:

قرأ أهل المدينة والكسائي وحفص ﴿بينكم﴾ بالنصب والباقون بالرفع.

الحجة:

قال أبو علي استعمل هذا الاسم على ضربين (أحدهما) أن يكون اسما متصرفا كالافتراق (والآخر) أن يكون ظرفا والمرفوع في قراءة من قرأ لقد تقطع بينكم هو الذي كان ظرفا ثم استعمل اسما والدليل على جواز كونه اسما قوله ومن بيننا وبينك حجاب وهذا فراق بيني وبينك فلما استعمل اسما في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو تقطع في قول من رفع والذي يدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا أنه لا يخلو من أن يكون الذي كان ظرفا اتسع فيه أو يكون الذي هو مصدر فلا يجوز أن يكون المصدر لأن تقديره يكون لقد تقطع افتراقكم وهذا خلاف المعنى المراد لأن المراد لقد تقطع وصلكم وما كنتم تتألفون عليه فإن قلت كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل وأصله الافتراق والتمايز قيل إنه لما استعمل مع الشيئين المتلابسين في نحو بيني وبينه شركة وبيني وبينه رحم وصداقة صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمنزلة الوصلة وعلى خلاف الفرقة فلهذا قد جاء لقد تقطع بينكم بمعنى تقطع وصلكم فأما من نصب ﴿بينكم﴾ ففيه مذهبان (أحدهما) أنه أضمر الفاعل في الفعل ودل عليه ما تقدم من قوله ﴿وما نرى معكم شفعاءكم﴾ لأن هذا يدل على التقاطع وذلك المضمر هو الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم بينكم وقد حكى سيبويه أنهم قالوا إذا كان غدا فأتني وأضمر ما كانوا فيه من رخاء وبلاء لدلالة الحال عليه والمذهب الآخر أنه انتصب على شيء يراه أبو الحسن فإنه يذهب إلى أن معناه معنى المرفوع فلما جرى في كلامهم منصوبا ظرفا تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام وكذلك يقول في قوله يوم القيامة يفصل بينكم وقوله وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك ودون في موضع رفع عنده وإن كان منصوب اللفظ كما يقال منا الصالح ومنا الطالح.

اللغة:

فرادى جمع فرد وفريد وفرد والعرب تقول فرادى وفراد فلا يصرفونها تشبيها بثلاث ورباع قال الشاعر:

ترى النعرات البيض تحت لبانه

فراد ومثنى أصعقتها صواهله وقال النابغة:

من وحش وجرة موشي أكارعه

طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد ومثل الفرادى الردافى والقرابى والتخويل الإعطاء وأصله تمليك الخول كما أن التمويل هو تمليك الأموال وخوله الله أعطاه مالا وفلان خولي مال وخال مال وخائل مال إذ كان يصلح المال وهم خول فلان أي أتباعه الواحد خائل والزعم قد يكون حقا وقد يكون باطلا قال الشاعر:

يقول هلكنا إن هلكت وإنما

على الله أرزاق العباد كما زعم والبين مصدر بأن يبين إذا فارق قال الشاعر:

بأن الخليط برامتين فودعوا

أو كلما ظعنوا لبين تجزع

قال أبو زيد بأن الحي بينونة وبينا إذا ظعنوا وتباينوا أي تفرقوا بعد أن كانوا جميعا.

الإعراب:

﴿فرادى﴾ نصب على الحال و﴿ ما خولناكم﴾ موصول وصلة في موضع نصب بأنه مفعول ﴿تركتم﴾.

النزول:

نزلت في النضر بن الحرث بن كلدة حين قال سوف يشفع لي اللات والعزى عن عكرمة.

المعنى:

ثم بين سبحانه تمام ما يقال لهم على سبيل التوبيخ فقال ﴿ولقد جئتمونا﴾ قيل هذا من كلام الله تعالى يخاطب به عباده إما عند الموت أو عند البعث وقيل هو من كلام الملائكة يؤدونه عن الله إلى الذين يقبضون أرواحهم ﴿فرادى﴾ أي وحدانا لا مال لكم ولا خول ولا ولد ولا حشم عن الجبائي وقيل واحدا واحدا على حدة عن الحسن وقيل كل واحد منهم منفردا من شريكه في الغي وشقيقه عن الزجاج ﴿كما خلقناكم أول مرة﴾ أي كما خلقناكم في بطون أمهاتكم فلا ناصر لكم ولا معين عن الجبائي وقيل معناه ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال تحشرون حفاة عراة غرلا والغرل هم القلف وروي أن عائشة قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حين سمعت ذلك واسوأتاه أ ينظر بعضهم إلى سوأة بعض من الرجال والنساء فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ويشغل بعضهم عن بعض وقال الزجاج معناه كما بدأناكم أول مرة أي يكون بعثكم كخلقكم ﴿وتركتم ما خولناكم﴾ معناه ملكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به من الأموال ﴿وراء ظهوركم﴾ أي خلف ظهوركم في الدنيا والمراد تركتم الأموال وحملتم من الذنوب الأحمال واستمتع غيركم بما خلفتم وحوسبتم عليه فيا لها من حسرة ﴿وما نرى معكم شفعاءكم﴾ أي ليس معكم من كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم عند الله يوم القيامة وهي الأصنام ﴿الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء﴾ معناه زعمتم أنهم شركاؤنا فيكم وشفعاؤكم يريد وما نفعكم عبادة الأوثان التي كنتم تقولون إنها فيكم شركاء وإنها تشفع لكم عند الله تعالى وهذا عام في كل من عبد غير الله واعتمد غيره يرجو خيره ويخاف ضيره في مخالفة الله تعالى ﴿لقد تقطع بينكم﴾ أي وصلكم وجمعكم ومن قرأ بالنصب فمعناه لقد تقطع الأمر بينكم أو تقطع وصلكم بينكم ﴿وضل عنكم ما كنتم تزعمون﴾ أي ضاع وتلاشي ولا تدرون أين ذهب من جعلتم شفعاءكم من آلهتكم ولم تنفعكم عبادتها وقيل معناه ما تزعمون من عدم البعث والجزاء قد حث الله سبحانه في هذه الآية على اقتناء الطاعات التي بها ينال الفوز وتدرك النجاة دون اقتناء المال الذي لا شك في تركه وعدم الانتفاع به بعد الممات.