الآيات 42-44

إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿42﴾ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿43﴾ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ ﴿44﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعدوة بكسر العين والباقون بضمها وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير حيي بإظهار اليائين والباقون ﴿حي﴾ بالإدغام.

الحجة:

الكسر والضم في العدوة لغتان قال الراعي في الكسر:

وعينان حم م آقيهما

كما نظر العدوة الجؤذر وقال أوس بن حجر في الضم:

وفارس لا يحل الحي عدوته

ولو سراعا وما هموا بإقبال ومن أدغم حي فللزوم الحركة في الثاني فجرى مجرى ردوا إذا أخبروا عن جماعة قالوا حييوا فخففوا وقد جاء مدغما نحو حيوا قال:

عيوا بأمرهم كما

عيت ببيضتها الحمامة

ومن اختار الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه وهو يحيا فأجري الماضي على شاكلة المستقبل.

اللغة:

العدوة شفير الوادي وللوادي عدوتان وهما جانباه والجمع عدى وعدي والدنيا تأنيث الأدنى من دنوت والقصوى تأنيث الأقصى وما كان من النعوت على فعلى من بنات الواو فإن العرب تحوله إلى الياء نحو الدنيا والعليا استثقلوا الواو مع ضم الأول إلا أن أهل الحجاز قالوا القصوى فأظهروا الواو وهو نادر وغيرهم يقولون القصيا والأقصى الأبعد والقصا البعد وقصوت منه أقصو أي تباعدت والركب جمع راكب مثل شارب وشرب وصاحب وصحب والعلو قرار تحته قرار والسفل قرار فوقه قرار والنوم ضرب من السهو يزول معه معظم الحس والمنام موضع النوم كالمضطجع موضع الاضطجاع والقلة نقصان عن عدة كما أن الكثرة زيادة على عدة والفشل ضعف من فزع والفعل منه فشل يفشل والتنازع الاختلاف الذي يحاول كل واحد نزع صاحبه مما هو عليه والسلامة النجاة من الآفة وأسلم الإنسان دخل في السلامة وأسلمه إسلاما دفعه عن السلامة وسلمه إذا نجاه واستلم الحجر إذا طلب لمسه على السلامة والصدر الموضع الأجل يكون فيه القلب وصدر المجلس أجله لأنه موضع الرئيس والالتقاء اجتماع الاتصال لأن الاجتماع قد يكون في معنى من غير اتصال كاجتماع القوم في الدار وإن لم يكن هناك اتصال ويقال للعسكرين إذا تصافا التقيا لوقوع العين على العين.

الإعراب:

إنما نصب أسفل لأن تقديره بمكان أسفل أو في مكان أسفل فهو في موضع جر فهو غير منصرف ويجوز أن يكون منصوبا على الظرف على تقدير والركب مكانا أسفل منكم قال الزجاج ويجوز أن ترفع أسفل على أنك تريد والركب أسفل منكم أي أشد تسفلا.

المعنى:

ثم بين سبحانه نصرته للمسلمين ببدر فقال سبحانه ﴿إذ أنتم﴾ أيها المسلمون ﴿بالعدوة الدنيا﴾ قال ابن عباس يريد والله قدير على نصركم وأنتم أذلة إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة ﴿وهم﴾ يعني المشركين أصحاب النفير ﴿بالعدوة القصوى﴾ أي نزول بالشفير الأقصى من المدينة ﴿والركب﴾ يعني أبا سفيان وأصحابه وهم العير ﴿أسفل منكم﴾ أي في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر قال الكلبي كانوا على شط البحر بثلاثة أميال فذكر الله سبحانه مقاربة الفئتين من غير ميعاد وما كان المسلمون فيه من قلة الماء والرمل الذي تسوخ فيه الأرجل مع قلة العدد والعدة وما كان المشركون فيه من كثرة العدد والعدة ونزولهم على الماء والعير أسفل منهم وفيها أموالهم ثم مع هذا كله نصر المسلمين عليهم ليعلم أن النصر من عنده سبحانه ﴿ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد﴾ معناه لو تواعدتم أيها المسلمون للاجتماع في الموضع الذي اجتمعتم فيه ثم بلغكم كثرة عددهم مع قلة عددكم لتأخرتم فنقضتم الميعاد عن ابن إسحاق وقيل معناه لاختلفتم بما يعرض من العوائق والقواطع فذكر الميعاد لتأكيد أمره في الاتفاق ولو لا لطف الله مع ذلك لوقع على الاختلاف كما قال الشاعر:

جرت الرياح على محل ديارهم

فكأنهم كانوا على ميعاد ﴿ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا﴾ معناه ولكن قدر الله تعالى التقاءكم وجمع بينكم وبينهم على غير ميعاد منكم ليقضي الله أمرا كان كائنا لا محالة وهو إعزاز الدين وأهله وإذلال الشرك وأهله ومعنى ليقضي ليظهر قضاءه إذ الله تعالى قد قضى ما هو كائن ومعنى قوله ﴿مفعولا﴾ أي واجبا كونه لا محالة يقال للأمر الكائن لا محالة هذا أمر مفروغ منه وقيل معناه ليتم أمرا كان في علمه مفعولا لا محالة من إظهار الإسلام وإعلاء كلمته على عبدة الأصنام ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة﴾ أي فعل ذلك ليموت من مات منهم بعد قيام الحجة عليه بما رأى من المعجزات الباهرة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وفي حروبه وغيرها ويعيش من عاش منهم بعد قيام الحجة عليه وقيل إن البينة هي ما وعد الله من النصر للمؤمنين على الكافرين صار ذلك حجة على الناس في صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما أتاهم به من عند الله وقيل معناه ليهلك من ضل بعد قيام الحجة عليه فتكون حياة الكافر وبقاؤه هلاكا له ويحيا من اهتدى بعد قيام الحجة عليه فيكون بقاء من بقي على الإيمان حياة له وقوله ﴿عن بينة﴾ يعني بعد بيان ﴿وإن الله لسميع﴾ لأقوالهم ﴿عليم﴾ بما في ضمائرهم فهو يجازيهم بحسب ما يكون منهم ﴿إذ يريكهم الله﴾ العامل في إذ ما تقدم وتقديره أتاكم النصر إذ كنتم بشفير الوادي إذ يريكهم الله وقيل العامل فيه محذوف وتقديره واذكر يا محمد إذ يريكهم الله أي يريك الله يا محمد هؤلاء المشركين الذين قاتلوكم يوم بدر ﴿في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر﴾ معناه يريكهم الله في نومك قليلا لتخبر المؤمنين بذلك فيجترىء المؤمنون على قتالهم وهذا قول أكثر المفسرين وهذا جائز لأن الرؤيا في النوم هي تصور يتوهم معه الرؤية في اليقظة ولا يكون إدراكا ولا علما بل كثير مما يراه الإنسان في نومه يكون تعبيره بالعكس مما رآه كما يكون تعبير البكاء ضحكا قال الرماني ويجوز أن يري الله الشيء في المنام على خلاف ما هو به لأن الرؤيا في المنام تخيل للمعنى من غير قطع وإن جامعه قطع من الإنسان على المعنى وإنما ذلك على مثل ما يخيل السراب ماء من غير قطع على أنه ماء ولا يجوز أن يلهمه اعتقادا للشيء على خلاف ما هو به لأن ذلك يكون جهلا لا يجوز أن يفعله الله سبحانه والرؤيا على أربعة أقسام رؤيا من الله عز وجل ولها تأويل ورؤيا من وساوس الشيطان ورؤيا من غلبة الأخلاط ورؤيا من الأفكار وكلها أضغاث أحلام إلا الرؤيا من قبل الله تعالى التي هي إلهام في المنام ورؤيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) هذه كانت بشارة له وللمؤمنين بالغلبة وقال الحسن معنى قوله ﴿في منامك﴾ في موضع نومك أي في عينك التي تنام بها وليس من الرؤيا في النوم وهو قول البلخي وهذا بعيد لأنه خلاف الظاهر ﴿ولو أراكهم كثيرا﴾ على ما كانوا عليه لجبنتم عن قتالهم وضعفتم ولتنازعتم في أمر القتال فكان يقول بعضكم نقاتلهم وبعض آخر يخالفونهم ويقول بعضكم لبعض تقدم أنت في القتال ويتأخر هو بنفسه ﴿ولكن الله سلم﴾ أي سلم المؤمنين عن الفشل والتنازع واختلاف الكلمة واضطراب الأمر بلطفه لهم وإحسانه إليهم حتى بلغوا ما أرادوه من عدوهم ﴿إنه عليم بذات الصدور﴾ أي بما في قلوبكم يعلم أنكم لو علمتم كثرة عدوكم لرغبتم عن القتال ﴿وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا﴾ الكاف والميم كناية عن المؤمنين والهاء والميم كناية عن المشركين أضاف الرؤيا في النوم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأن رؤيا الأنبياء لا تكون إلا حقا وأضاف رؤية العين إليهم قلل الله المشركين في أعين المؤمنين ليشتد بذلك طمعهم فيهم وجرأتهم عليهم وقلل المؤمنين في أعين المشركين لئلا يتأهبوا لقتالهم ولا يكترثوا بهم فيظفر بهم المؤمنون وذلك قوله تعالى ﴿ويقللكم في أعينهم﴾ وقد وردت الرواية عن ابن مسعود قال قلت لرجل بجنبي أ تراهم سبعين رجلا فقال هم قريب من مائة وقد روي أن أبا جهل كان يقول خذوهم بالأيدي أخذا ولا تقاتلوهم ومتى قيل كيف قللهم الله في أعينهم مع رؤيتهم لهم قالوا فالقول إنه يجوز أن يكون ذلك لبعض الأسباب المانعة من الرؤية إما بغبار أو ما شاكله فتخيلوهم بأعينهم قليلا من غير رؤية عن الصحة لجميعهم وذلك لطف من ألطاف الله تعالى ﴿ليقضي الله أمرا كان مفعولا﴾ إنما كرره سبحانه مع ذكره في الآية الأولى لتكرر الفائدة لأن المعنى في الآية الأولى جمعكم من غير ميعاد ليقضي الله أمرا مفعولا من الالتقاء على تلك الصفة والمعنى هنا أنه قلل كل فريق في عين صاحبه ليقضي أمرا كان مفعولا من إعزاز الدين بجهادكم وقيل أراد بالأول الوعد بالنصرة يوم بدر وبالثاني الاستمرار على النصر وقيل إنما كرر للتأكيد وإنما قال كان مفعولا والمعنى يكون مفعولا في المستقبل لتحقيق كونه لا محالة حتى صار بمنزلة ما قد كان لعلمه سبحانه أنه كائن لا محالة ﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾ مر معناه.