الآيات 59-60
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿59﴾ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿60﴾
اللغة:
المفاتح جمع مفتح فالمفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح قال الفراء في قوله إن مفاتحه لتنوء بالعصبة يعني خزائنه والتوفي قبض الشيء على التمام يقال توفيت الشيء واستوفيته بمعنى والجرح العمل بالجارحة والاجتراح الاكتساب.
الإعراب:
﴿ولا حبة﴾ تقديره ولا تسقط من حبة ثابتة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس وقوله ﴿إلا في كتاب مبين﴾ الجار والمجرور في موضع الرفع لأنه خبر الابتداء تقديره إلا هو في كتاب مبين ولا بد من هذا التقدير لأنه لو لم يكن محمولا على هذا لوجب أن لا يعلمها في كتاب مبين وهو سبحانه يعلم ذلك في كتاب مبين والاستثناء منقطع.
المعنى:
لما ذكر سبحانه أنه أعلم بالظالمين بين عقيبه أنه لا يخفى عليه شيء من الغيب ويعلم أسرار العالمين فقال ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو﴾ معناه وعنده خزائن الغيب الذي فيه علم العذاب المستعجل به وغير ذلك لا يعلمها أحد إلا هو أو من أعلمه به وعلمه إياه وقيل معناه وعنده مقدورات الغيب يفتح بها على من يشاء من عباده بإعلامه به وتعليمه إياه وتيسيره السبيل إليه ونصبه الأدلة له ويغلق عمن يشاء بأن لا ينصب الأدلة له وقال الزجاج يريد عنده الوصلة إلى علم الغيب وكل ما لا يعلم إذا استعلم يقال فيه افتح علي وقال ابن عمر مفاتح الغيب خمس ثم قرأ إن الله عنده علم الساعة الآية وقال ابن عباس معناه وعنده خزائن الغيب من الأرزاق والأعمار وتأويل الآية إن الله تعالى عالم بكل شيء من مبتدآت الأمور وعواقبها فهو يعجل ما تعجيله أصوب وأصلح ويؤخر ما تأخيره أصوب وأصلح وأنه الذي يفتح باب العلم لمن يريد من الأنبياء والأولياء لأنه لا يعلم الغيب سواه ولا يقدر أحد أن يفتح باب العلم به للعباد إلا الله ﴿ويعلم ما في البر والبحر﴾ من حيوان وغيره وقال مجاهد البر القفار والبحر كل قرية فيها ماء ﴿وما تسقط من ورقة إلا يعلمها﴾ قال الزجاج المعنى أنه يعلمها ساقطة وثابتة وأنت تقول ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه فليس تأويله إلا وأنا أعرفه في حال مجيئه فقط وقيل يعلم ما سقط من ورق الأشجار وما بقي ويعلم كم انقلبت ظهرا لبطن عند سقوطها ﴿ولا حبة في ظلمات الأرض﴾ معناه وما تسقط من حبة من باطن الأرض إلا يعلمها وكنى بالظلمة عن باطن الأرض لأنه لا تدرك كما لا يدرك ما حصل في الظلمة وقال ابن عباس يعني تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع أو تحت حجر أو شيء ﴿ولا رطب ولا يابس﴾ قد جمع الأشياء كلها في قوله ﴿ولا رطب ولا يابس﴾ لأن الأجسام كلها لا تخلو من أحد هذين وهو بمنزلة قولك ولا مجتمع ولا مفترق لأن الأجسام لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو متفرقة وقيل يريد ما ينبت ما لا ينبت عن ابن عباس وعنه أيضا أن الرطب الماء واليابس البادية وقيل الرطب الحي واليابس الميت وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال الورقة السقط الحبة الولد وظلمات الأرض الأرحام والرطب ما يحيا واليابس ما يغيض ﴿إلا في كتاب﴾ معناه وهو مكتوب في كتاب ﴿مبين﴾ أي في اللوح المحفوظ ولم يكتبها في اللوح المحفوظ ليحفظها ويدرسها فإنه كان عالما بها قبل أن كتبها ولكن ليعارض الملائكة الحوادث على ممر الأيام بالمكتوب فيه فيجدونها موافقة للمكتوب فيه فيزدادون علما ويقينا بصفات الله تعالى وأيضا فإن المكلف إذا علم أن أعماله مكتوبة في اللوح المحفوظ تطالعها الملائكة قويت دواعيه إلى الأفعال الحسنة وترك القبائح وقال الحسن هذا توكيد في الزجر عن المعاصي والحث على البر لأن هذه الأشياء التي لا ثواب فيها ولا عقاب إذا كانت محصاة عنده محفوظة فالأعمال التي فيها الثواب والعقاب أولى بالحفظ وقيل إن قوله ﴿في كتاب مبين﴾ معناه أنه محفوظ غير منسي ولا مغفول عنه كما يقول القائل لغيره ما تصنعه عندي مسطور مكتوب وإنما يريد بذلك أنه حافظ له يريد مكافاته عليه وأنشد:
إن لسلمى عندنا ديوانا
عن البلخي قال الجرجاني صاحب النظم تم الكلام عند قوله ﴿ولا يابس﴾ ثم استأنف خبرا آخر بقوله ﴿إلا في كتاب مبين﴾ يعني وهو في كتاب مبين أيضا لأنك لو جعلت قوله ﴿إلا في كتاب مبين﴾ متصلا بالكلام الأول لفسد المعنى ولما نبه سبحانه بهذه الآية على أنه عالم لذاته من حيث أنه لو كان عالما بعلم لوجب أحد ثلاثة أشياء كلها فاسدة إما أن يكون له علوم غير متناهية وإما أن يكون معلوماته متناهية أو يتعلق علم واحد بمعلومات غير متناهية وكلها باطل بالدليل نبه في الآية التي تليها على أنه قادر لذاته من حيث أنه قادر على الإحياء والإماتة فقال ﴿وهو الذي يتوفاكم بالليل﴾ أي يقبض أرواحكم عن التصرف عن ابن عباس وغيره واختاره علي بن عيسى وقيل معناه يقبضكم بالنوم كما يقبضكم بالموت فيكون كقوله ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها﴾ الآية عن الزجاج والجبائي ﴿ويعلم ما جرحتم بالنهار﴾ أي ما كسبتم من الأعمال على التفصيل بالنهار على كثرته وكثرتكم وفيه إشارة إلى رحمته حيث يعلم مخالفتهم إياه ثم لا يعاجلهم بعقوبة ولا يمنعهم فضله ورحمته ﴿ثم يبعثكم فيه﴾ أي ينبهكم من نومكم في النهار عن الزجاج والجبائي جعل انتباههم من النوم بعثا ﴿ليقضي أجل مسمى﴾ معناه لتستوفوا آجالكم وترتيب الآية وهو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم في النهار على علم بما تجترحون بالنهار ليقضي أجل مسمى فاللام تتصل بقوله ﴿ثم يبعثكم فيه﴾ إلا أنه قدم ما من أجله بعثنا بالنهار لأنه أهم والعناية به أشد عن علي بن عيسى ومعنى القضاء فصل الأمر على تمام ومعنى قضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت وفي هذا حجة على النشأة الثانية لأن منزلتها بعد الأولى كمنزلة اليقظة بعد النوم في أن من قدر على أحدهما فهو قادر على الآخر ﴿ثم إليه مرجعكم﴾ يريد إذا تمت المدة المضروبة لكل نفس نقله إلى الدار الآخرة ومعنى إليه إلى حكمه وجزائه وإلى موضع ليس لأحد سواه فيه أمر ﴿ثم ينبئكم﴾ يخبركم ﴿بما كنتم تعملون﴾ أي بما غفلتم عنه من أعمالكم وفي هذه الآية دلالة على البعث والإعادة نبه الله سبحانه على ذلك بالنوم واليقظة فإن كلا منهما لا يقدر عليه غيره تعالى فأما ما يصح إعادته من الأشياء فالصحيح من مذهب أهل العدل فيه أن يكون الشيء من فعل القديم سبحانه القادر لذاته وأن يكون مما يبقى وأن لا يكون مما يتولد عن سبب.