الآيـة 106

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿106﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر ما ننسخ بضم النون وكسر السين والباقون بفتحها وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ننساها بفتح النون والسين وإثبات الهمزة والباقون بضم النون وكسر السين بلا همز.

الحجة:

أما قراءة ابن عامر ننسخ فلا يخلو من أن يكون أفعل لغة في فعل نحو بدأ وأبدأ وحل من إحرامه وأحل أو تكون الهمزة للنقل نحو ضرب وأضربته ونسخ الكتاب وأنسخته الكتاب أو يكون المعنى في أنسخت الآية وجدتها منسوخة كقولهم أحمدت زيدا وأبخلته والوجه الصحيح هو الأول وهو أن يكون نسخ وأنسخ لغتين متفقتين في المعنى وإن اختلفتا في اللفظ وقول من فتح النون أبين وأوضح وأما ننساها فهي من النسإ وهو التأخير يقال نسأت الإبل عن الحوض أنساها نسا إذا أخرتها عنه وانتسأت أنا أي تأخرت ومنه قولهم أنسا الله أجلك ونسا في أجلك وأما القراءة الأخرى فمن النسيان الذي هو بمعنى السهو أو بمعنى الترك.

اللغة:

النسخ في اللغة إبطال شيء وإقامة آخر مقامه يقال نسخت الشمس الظل أي أذهبته وحلت محله وقال ابن دريد كل شيء خلف شيئا فقد انتسخه وانتسخ الشيب الشباب وتناسخ الورثة أن تموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون بعد القرون الماضية وأصل الباب الإبدال من الشيء غيره وقال علي بن عيسى النسخ الرفع لشيء قد كان يلزم العمل به إلى بدل منه كنسخ الشمس بالظل لأنه يصير بدلا منها في مكانها وهذا ليس بصحيح لأنه ينتقض بمن يلزمه الصلاة قائما فعجز عن القيام فإنه يسقط عنه القيام لعجزه ولا يسمى العجز ناسخا ولا القيام منسوخا وينتقض أيضا بمن يستبيح الشيء بحكم العقل وورد الشرع بخطره فإنه لا يقال إن الشرع نسخ حكم العقل ولا أن حكم العقل منسوخ وأولى ما يجد به النسخ أن يقال هو كل دليل شرعي دل على أن مثل الحكم الثابت بالنص الأول غير ثابت في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول مع تراخيه عنه والنسخ في القرآن على ضروب منها أن يرفع حكم الآية وتلاوتها كما روي عن أبي بكر أنه قال كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ومنها أن تثبت الآية في الخط ويرفع حكمها كقوله وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم الآية فهذه ثابتة اللفظ في الخط مرتفعة الحكم ومنها ما يرتفع اللفظ ويثبت الحكم ك آية الرجم فقد قيل أنها كانت منزلة فرفع لفظها وقد جاءت أخبار كثيرة بأن أشياء كانت في القرآن فنسخ تلاوتها فمنها ما روي عن أبي موسى أنهم كانوا يقرءون لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ثم رفع وعن أنس أن السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة قرأنا فيهم كتابا بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم إن ذلك رفع وقال أبو عبيدة معنى ننساها أي نمضيها فلا ننسخها قال طرفة:

أمون كالواح الأران نسأتها

على لا حب كأنه ظهر برجد أي أمضيتها وقال غيره نسأت الإبل في ظمئها أنساها نسا إذا زدتها في ظمئها يوما أو يومين وظمؤها منعها الماء ونسأت الماشية تنسأ نسا إذا سمنت وكل سمين ناسىء قال الزجاج وتأويله أن جلودها نسأت أي تأخرت عن عظامها وقال غيره إنما قيل ذلك لأنها تأخرت في المرعى حتى سمنت ويقال للعصا المنساة لأنها ينسأ بها أي يؤخر ما يساق عن مكانه ويدفع بها الإنسان عن نفسه الأذى ونسأت ناقتي إذا دفعتها في السير وأصل الباب التأخير.

الإعراب:

﴿ما ننسخ﴾ ما اسم ناب مناب أن وهو في موضع نصب بننسخ وإنما لزمه التقديم وإن كان مفعولا ومرتبة المفعول أن يكون بعد الفاعل لنيابته عن حرف الشرط الذي له صدر الكلام وننسخ مجزوم بالشرط وننس جزم لأنه معطوف عليه ونأت مجزوم لأنه جزاء ومن في قوله ﴿من آية﴾ للتبعيض وقيل هي مزيدة ولفظ ألم هاهنا لفظ الاستفهام ومعناه التقرير وتعلم مجزوم بلم لأن حرف الاستفهام لا يغير العامل عن عمله.

النظم:

لما قال سبحانه في الآية الأولى ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم دل بهذه الآية على أنه سبحانه لا يخليهم من إنزال خير إليهم بخلاف ما تمناه أعداؤهم فيهم وأنه أبدا ينزل عليهم ما هو أصلح لهم عن علي بن عيسى وقيل إنه سبحانه لما عاب اليهود بأشياء ورد عليهم ما راموا به الطعن في أمر نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكان مما طعنوا فيه أنه يقول بنسخ كل شريعة تقدمت شريعته فبين الله سبحانه جواز ذلك ردا عليهم عن أبي مسلم.

المعنى:

﴿ما ننسخ من آية﴾ قد ذكرنا حقيقة النسخ عند المحققين وقيل معناه ما نرفع من آية أو حكم آية وقيل معناه ما نبدل من آية عن ابن عباس ومن قرأ ﴿أو ننسها﴾ فمعناه على وجهين فإن لفظ النسي المنقول منه أنسى على ضربين (أحدهما) بمعنى النسيان الذي هو خلاف الذكر نحو قوله واذكر ربك إذا نسيت (والآخر) بمعنى الترك نحو قوله نسوا الله فنسيهم أي تركوا طاعة الله فترك رحمتهم أو ترك تخليصهم فالوجه الأول في الآية مروي عن قتادة وهو أن يكون محمولا على النسيان الذي هو مقابل الذكر ويجوز ذلك على الأمة بأن يؤمروا بترك قراءتها فينسونها على طول الأيام ولا يجوز ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأنه يؤدي إلى التنفير كذا ذكره الشيخ أبو جعفر رحمه الله في تفسيره وقد جوز جماعة من المحققين ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قالوا أنه لا يؤدي إلى التنفير لتعلقه بالمصلحة ويجوز أيضا أن ينسيهم الله تعالى ذلك على الحقيقة وإن كانوا جمعا كثيرا وجما غفيرا بأن يفعل النسيان في قلوب الجميع وإن كان ذلك خارقا للعادة ويكون معجزا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) واستدل من حمل الآية على النسيان الذي هو خلاف الذكر وجوز كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) مرادا به بقوله سبحانه سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله أي إلا ما شاء الله أن تنساه قال وإلى هذا ذهب الحسن فقال إن نبيكم أقرىء القرآن ثم نسيه وأنكر الزجاج هذا القول فقال إن الله تعالى قد أنبأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في قوله ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره بأنه لا يشاء أن يذهب بما أوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال أبو علي الفارسي هذا الذي احتج به على من ذهب إلى أن ننسها من النسيان لا يدل على فساد ما ذهبوا إليه وذلك أن قوله ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك إنما هو على ما لا يجوز عليه النسخ والتبديل من الأخبار وأقاصيص الأمم ونحو ذلك مما لا يجوز عليه التبديل والذي ينساه النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهو ما يجوز أن ينسخ من الأوامر والنواهي الموقوفة على المصلحة وفي الأوقات التي يكون ذلك فيها أصلح ويدل على أن ننسها من النسيان الذي هو خلاف الذكر قراءة من قرأ أو تنسها وهو قراءة سعد بن أبي وقاص وقراءة من قرأ أو ننسكها وهو المروي عن سالم مولى أبي حذيفة وقراءة من قرأ أو تنسها وهو المروي عن سعد بن مالك فالمفعول المراد المحذوف في قراءة من قرأ ﴿أو ننسها﴾ مظهر في قراءة من قرأ ننسكها ويبينه ما روي عن الضحاك أنه قرأ ننسها ويؤكد ذلك أيضا ما روي من قراءة ابن مسعود ما ننسك من آية أو ننسخها وبه قرأ الأعمش وروي عن مجاهد أنه قال قراءة أبي ما ننسخ من آية أو ننسك فهذا كله يثبت قراءة من جعل ننسها من النسيان ويؤكد ما روي عن قتادة أنه قال كانت الآية تنسخ بالآية وينسي الله نبيه من ذلك شيئا والوجه الثاني وهو أن المراد بالنسيان الترك في الآية مروي عن ابن عباس فعلى هذا يكون المراد بننسها نأمركم بتركها أي بترك العمل بها قال الزجاج إنما يقال في هذا نسيت إذا تركت ولا يقال فيه أنسيت تركت وإنما معنى ﴿أو ننسها﴾ أو نتركها أي نأمركم بتركها قال أبو علي من فسر أنسيت بتركت لا يكون مخطئا لأنك إذا أنسيت فقد نسيت ومن هذا قال علي بن عيسى إنما فسره المفسرون على ما يؤول إليه المعنى لأنه إذا أمر بتركها فقد تركها فإن قيل إذا كان نسخ الآية رفعها وتركها أن لا تنزل فما معنى ذلك ولم جمع بينهما قيل ليس معنى تركها ألا تنزل وقد غلط الزجاج في توهمه ذلك وإنما معناه إقرارها فلا ترفع كما قال ابن عباس نتركها فلا نبدلها وإضافة الترك إلى القديم سبحانه في نحو هذا اتساع كقوله تعالى وتركهم في ظلمات لا يبصرون وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض أي خليناهم وذاك وأما من قرأ أو ننساها على معنى التأخير فقيل فيه وجوه (أحدها) أن معناه أو نؤخرها فلا ننزلها وننزل بدلا منها مما يقوم مقامها في المصلحة أو يكون أصلح للعباد منها (وثانيها) أن معناه نؤخرها إلى وقت ثان ونأتي بدلا منها في الوقت المتقدم بما يقوم مقامها (وثالثها) أن يكون معنى التأخير أن ينزل القرآن فيعمل به ويتلى ثم يؤخر بعد ذلك بأن ينسخ فيرفع تلاوته البتة ويمحي فلا تنسأ ولا يعمل بتأويله مثل ما روي عن زر بن حبيش أن أبيا قال له كم تقرءون الأحزاب قال بضعا وسبعين آية قال قد قرأتها ونحن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أطول من سورة البقرة أورده أبو علي في كتاب الحجة (ورابعها) أن يؤخر العمل بالتأويل لأنه نسخ ويترك خطه مثبتا وتلاوته قرآن يتلى وهو ما حكي عن مجاهد يثبت خطها ويبدل حكمها والوجهان الأولان عليهما الاعتماد لأن الوجهين الأخيرين يرجع معناهما إلى معنى النسخ فلا يحسن إذ يكون في التقدير محصولة ما ننسخ من آية أو ننسخها وهذا لا يصح على أن الوجه الأول أيضا فيه ضعف لأنه لا فائدة في تأخير ما لم يعرفه العباد ولا علموه ولا سمعوه فالأقوى هو الوجه الثاني وقوله ﴿نأت بخير منها أو مثلها﴾ فيه قولان (أحدهما) نأت بخير منها لكم في التسهيل والتيسير كالأمر بالقتال الذي سهل على المسلمين بقوله الآن خفف الله عنكم أو مثلها في السهولة كالعبادة بالتوجه إلى الكعبة بعد أن كان إلى بيت المقدس عن ابن عباس (والثاني) نأت بخير منها في الوقت الثاني أي هي لكم في الوقت الثاني خير لكم من الأولى في الوقت الأول في باب المصلحة أو مثلها في ذلك عن الحسن وقوله ﴿ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ قيل هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقيل هو خطاب لجميع المكلفين والمراد أ لم تعلم أيها السامع أو أيها الإنسان إن الله تعالى قادر على آيات وسور مثل القرآن ينسخ بها ما أمر فيقوم في النفع مقام المنسوخ وعلى القول الأول معناه أ لم تعلم يا محمد أنه سبحانه قادر على نصرك والانتصار لك من أعدائك وقيل هو عام في كل شيء واستدل من زعم أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة المعلومة بهذه الآية قال أضاف الإتيان بخير منها إلى نفسه والسنة لا تضاف إليه حقيقة ثم قال بعد ذلك ﴿ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ فلا بد من أن يكون أراد ما يختص سبحانه بالقدرة عليه من القرآن المعجز والصحيح أن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة المقطوع عليها ومعنى خير منها أي أصلح لنا منها في ديننا وأنفع لنا بأن نستحق به مزيد الثواب فأما إضافة ذلك إليه تعالى فصحيحة لأن السنة إنما هي بوحيه تعالى وأمره فإضافتها إليه كإضافة كلامه وآخر الآية إنما يدل على أنه قادر على أن ينسخ الآية بما هو أصلح وأنفع سواء كان ذلك بقرآن أو سنة وفي هذه الآية دلالة على أن القرآن محدث وأنه غير الله تعالى لأن القديم لا يصح نسخه ولأنه أثبت له مثلا والله سبحانه قادر عليه وما كان داخلا تحت القدرة فهو فعل والفعل لا يكون إلا محدثا.