الآيـة 102

وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴿102﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ولكن الشياطين كفروا ولكن الله قتلهم ولكن الله رمى بتخفيف النون من لكن ورفع الاسم بعدها والباقون بالتشديد وروي في الشواذ على الملكين بكسر اللام عن ابن عباس والحسن.

الحجة:

قال أبو علي اعلم أن لكن لا نعلم شيئا على مثاله في الأسماء ولا في الأفعال وهي مثل إن في أنها مثقلة ثم تخفف إلا أن إن وأن إذا خففتا فقد ينصب بهما كما كان ينصب بهما مثقلتين وإن كان غير الأعمال أكثر ولم نعلم أن أحدا حكى النصب في لكن إذا خففت فيشبه إن والنصب لم يجيء في هذا الحرف مخففا ليكون ذلك دلالة على أن الأصل في هذه الحروف أن لا تعمل إذا خففت لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف ولكن وإن لم يشابه الفعل فإن فيه ما يشبه الفعل إذا فصلته كقولهم أراك منتفخا أريد أن تفخ مثل كتف فقدر منفصلا ثم خفف كذلك يقدر في لكن الانفصال فيشبه ليت وإن.

اللغة:

أتبعه أقتدي به وتتلو معناه تتبع لأن التالي تابع وقيل معناه تقرأ من تلوت كتاب الله أي قرأته قال الله تعالى هنالك تتلوا كل نفس ما أسلفت أي تتبع وقال حسان بن ثابت:

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله

ويتلو كتاب الله في كل مشهد

والسحر والكهانة والحيلة نظائر يقال سحره يسحره سحرا وقال صاحب العين السحر عمل يقرب إلى الشياطين ومن السحر الأخذة التي تأخذ العين حتى يظن أن الأمر كما ترى وليس الأمر كما ترى والجمع الأخذ فالسحر عمل خفي لخفاء سببه يصور الشيء بخلاف صورته ويقلبه عن جنسه في الظاهر ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى والسحر الغذاء قال امرؤ القيس:

أرانا موضعين لحتم غيب

ونسحر بالطعام وبالشراب والسحر أيضا الرئة يقال للجبان انتفخ سحره والفتنة والامتحان والاختبار نظائر يقال فتنته فتنة وأفتنه قال أعشى همدان فجاء باللغتين:

لقد فتنتني وهي بالأمس أفتنت

سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم

وفتنت الذهب في النار إذا اختبرته فيها لتعلم أ خالص هو أم مشوب فقيل لكل ما أحميته في النار فتنة وفتنت الخبزة في النار أنضجتها ومنه قوله يوم هم على النار يفتنون أي يشوون وتعلم قد تكون بمعنى اعلم كما قيل علمت وأعلمت بمعنى وكذلك فهمت وأفهمت قال كعب بن زهير:

تعلم رسول الله أنك مدركي

وأن وعيدا منك كالأخذ باليد

وقيل إن بينهما فرقا فمعنى تعلم تسبب إلى ما به تعلم من النظر في الأدلة وليس في اعلم هذا المعنى فقد يقال ذلك لما يعلم بلا تأمل كقولك اعلم أن الفعل يدل على الفاعل وأن ما لم يسبق المحدث محدث وتقول في الأول تعلم النحو والفقه والمرء تأنيثه المرأة ويقال مرة بلا ألف والضرر والألم والأذى نظائر والضر نقيض النفع يقال ضره يضره ضرا وأضر به إضرارا واضطره إليه اضطرارا قال صاحب العين الضر والضر لغتان فإذا ضممت إليه النفع فتحت الضاد والضرير الذاهب البصر من الناس يقال رجل ضرير بين الضرارة وفي الحديث لا ضرر ولا ضرار وضريرا الوادي جانباه وكل شيء دنا منك حتى يزحمك فقد أضر بك وأصل الباب الانتقاص والأذن في اللغة على ثلاثة أقسام (أحدها) بمعنى العلم كقوله فأذنوا بحرب من الله أي فاعلموا وقال الحطيئة:

ألا يا هند إن جددت وصلا

وإلا فأذنيني بانصرام و(الثاني) بمعنى الإباحة والإطلاق كقوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن والثالث بمعنى الأمر كقوله نزله على قلبك بإذن الله والنفع والمنفعة واللذة نظائر وحد النفع هو كل ما يكون به الحيوان ملتذا أما لأنه لذة أو يؤدي إلى لذة وحد الضرر كل ما يكون به الحيوان ألما أما لأنه ألم أو يؤدي إلى ألم والخلاق النصيب من الخير قال أمية بن أبي الصلت:

يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم

إلا سرابيل من قطر وأغلال.

الإعراب:

قوله ﴿ما تتلوا﴾ فيه وجهان أحدهما أن تكون تتلوا بمعنى تلت وإنما جاز ذلك لما عام من اتصال الكلام بعهد سليمان فيمن قال إن المراد على عهد ملك سليمان أو في زمن ملك سليمان أو بملك سليمان فيمن لم يقدر حذف المضاف فدل ذلك على إن مثال المضارع أريد به الماضي قال سيبويه قد تقع يفعل في موضع فعل كقول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمة قلت لا يعنيني

والوجه الآخر أن يكون يفعل على بابه لا يريد به فعل ولكنه حكاية حاول وإن كان ماضيا كقوله وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم فيسومونكم حكاية للحال في الوقت الذي كانت فيه وإن كان آل فرعون منقرضين في وقت هذا الخطاب ومن هذا ما أنشده ابن الأعرابي:

جارية في رمضان الماضي

تقطع الحديث بالإيماض وقوله ﴿وما أنزل﴾ ذكر في ما ثلاثة أقوال (أحدها) أنه بمعنى الذي وأنزل صلته وموضعه نصب بكونه معطوفا على السحر وقيل أنه معطوف على قوله ﴿ما تتلوا الشياطين﴾ و(ثانيها) أنه بمعنى أيضا وموضعه جر ويكون معطوفا بالواو على ملك سليمان و(ثالثها) أنه بمعنى الجحد والنفي وتقديره وما كفر سليمان ولم ينزل الله السحر على الملكين وبابل اسم بلد لا ينصرف للتعريف والتأنيث وقوله فيتعلمون﴾ لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون الفعل معطوفا بالفاء على فعل قبله أو يكون خبر مبتدأ محذوف والفعل الذي قبله لا يخلو إما أن يكون كفروا من قوله ﴿ولكن الشياطين كفروا﴾ فيجوز أن يكون فيتعلمون معطوفا عليه لأن كفروا في موضع رفع بكونه خبر لكن فعطف عليه بالمرفوع وهو قول سيبويه فأما يعلمون فيجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من كفروا أي كفروا في حال تعليمهم ويجوز أن يكون بدلا من كفروا لأن تعليم الشياطين كفر في المعنى وإذا كان كذلك جاز البدل فيه إذا كان إياه في المعنى كما كان مضاعفة العذاب لما كان لقي الآثام في قوله ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب جاز إبداله منه وإما أن يكون الفعل الذي عطف عليه يتعلمون قوله ﴿يعلمون﴾ وهو قول الفراء وأنكر الزجاج هذا القول قال لأن قوله ﴿منهما﴾ دليل على التعلم من الملكين خاصة قال أبو علي فهذا يدخل على قول سيبويه أيضا كما يدخل على قول الفراء لأنهما جميعا قالا بعطفه على فعل الشياطين قال وهذا الاعتراض ساقط من جهتين إحداهما أن التعلم وإن كان من الملكين خاصة فلا يمتنع أن يكون قوله ﴿فيتعلمون﴾ عطف على كفروا وعلى يعلمون وإن كان متعلقا بهما وكان الضمير في منهما راجعا إلى الملكين فإن قلت كيف يجوز هذا وهل يسوغ أن يقدر هذا التقدير ويلزمك أن يكون النظم ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما فتضمر الملكين قبل ذكرهما والإضمار قبل الذكر غير جائز وإن لزمك في هذا القول الإضمار قبل الذكر وكان ذلك غير جائز لزم أن لا تجيز العطف على واحد من الفعلين اللذين هما كفروا ويعلمون بل تعطفه على فعل مذكور بعد ذكر الملكين كما ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج فإنه عطف على ما يوجبه معنى الكلام عند قوله ﴿فلا تكفر﴾ أي فيأبون فيتعلمون أو على يعلمان من قوله ﴿ما يعلمان من أحد﴾ لأنهما فعلان مذكوران بعد الملكين فالجواب أما النظم فإنه على ما ذكرته وهو صحيح وأما الإضمار قبل الذكر فإن منهما في قوله ﴿فيتعلمون منهما﴾ إذا كان ضميرا عائدا إلى الملكين فإن إضمارهما بعد تقدم ذكرهما وذلك سائغ ونظيره قوله تعالى وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات لما تقدم ذكره أضمر اسمه ولو قال ابتلى ربه إبراهيم لم يجز لكونه إضمار قبل الذكر وهذا بين جدا فالاعتراض بذلك على سيبويه والفراء ساقط وأما الجهة الأخرى التي يسقط منها ذلك فهي أنه قد قيل في قوله تعالى ﴿وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر﴾ ثلاثة أقوال يأتي شرحها في المعنى قولان منها تعلم السحر فيهما من الملكين وقول منها تعلمه من الشياطين فيكون نظم الكلام على هذا ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما ﴿وما أنزل على الملكين ببابل﴾ أي لم ينزل ﴿وما يعلمان من أحد﴾ أي وما يعلم هاروت وماروت من أحد فمنهما على هذا القول لا يرجع إلى الملكين إنما يرجع إلى هاروت وماروت اللذين هما الشياطين في المعنى فأما حمل الكلام على التثنية والشياطين جمع فسائغ يجوز أن يحمل على المعنى فيجمع وعلى لفظ هاروت وماروت فيثنى ونظيره قوله وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ثم قال فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى ويجوز أن يكون يتعلمون معطوفا على يعلمان من قوله ﴿وما يعلمان من أحد﴾ فيكون الضمير الذي في يتعلمون لأحد إلا أنه جمعه لما حمل على المعنى كقوله تعالى فما منكم من أحد عنه حاجزين فأما جواز عطفه على ما ذكره الزجاج من قوله وقيل إن يتعلمون عطف على ما يوجبه معنى الكلام لأن المعنى إنما نحن فتنة فلا تكفر فيأبون فيتعلمون وهذا قول حسن فهو قول الفراء قال أبو علي وهو عندي جائز لأنه من المضمر الذي فهم للدلالة عليه وأما كونه خبرا للمبتدأ المحذوف فعلى أن تقديره فهم يتعلمون منهما وذلك غير ممتنع وقد قيل في قوله منهما أن الضمير عائد إلى السحر والكفر قاله أبو مسلم قال لأنه تقدم الدليل عليها في قوله ﴿كفروا﴾ وهذا كقوله سبحانه سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى أي يتجنب الذكرى وقوله ﴿ولقد علموا لمن اشتراه﴾ قال الزجاج دخول اللام على قد على جهة القسم والتوكيد وقال النحويون في قوله ﴿لمن اشتراه﴾ قولين جعل بعضهم من بمعنى الشرط وجعل الجواب ﴿ما له في الآخرة من خلاق﴾ وهذا ليس بموضع شرط وجزاء ولكن المعنى ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق كما تقول والله لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل انتهى كلام الزجاج وأقول فموضع من رفع بالابتداء وموضع ﴿ما له في الآخرة من خلاق﴾ رفع على أنه خبر المبتدأ وهذا قول سيبويه فاللام في قوله ﴿لمن اشتراه﴾ لام الابتداء دون القسم لأن هذه اللام قد تكون تأكيدا لغير القسم واللام مع الجملة التي بعدها في موضع نصب بعلموا كما أن الاستفهام كذلك في نحو علمت أ زيد في الدار أم عمرو وهذا هو المسمى تعليقا قال أبو علي قول من قال إن من جزاء بعيد لأنه إذا كان جزاءا فاللام في لمن اشتراه سبب دخوله القسم كالتي في قوله ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ولئن شئنا لنذهبن فيقتضي ذلك قسما والقسم الذي يقتضيه قوله ﴿لمن اشتراه﴾ إذا حملت من على أنه جزاء لا يخلو من أن يكون علموا لأن العلم والظن قد يقامان مقام القسم كما في قوله:

ولقد علمت لتأتين منيتي

إن المنايا لا تطيش سهامها وقوله وظنوا ما لهم من محيص أو يكون مضمرا بين قوله ﴿علموا﴾ وقوله ﴿لمن اشتراه﴾ ويبعد أن يكون علموا قسما وقوله ﴿لمن اشتراه﴾ جوابه هنا لأنه في هذا الموضع محلوف عليه مقسم والمقسم عليه لا يكون قسما لأنه يلزم من هذا أن يدخل قسم على قسم لأن في أول الكلام قسما وهو المضمر الجالب للأم في لقد فهذا هو القسم الأول والثاني هو الذي يدخل عليه هذا القسم الأول المضمر وهو قد علموا إذا أجبته باللام فيمن جعله ابتداء وبالنفي فيمن جعل من جزاءا ودخول القسم على القسم يبعد عند سيبويه ولا يسوغ فمن أجل هذا بعد عنده أن يكون علموا هنا بمنزلة القسم وأن يجاب بجوابه فقال سيبويه والخليل لا يقوى أن تقول وحقك وحق زيد لأفعلن والواو الثاني واو قسم لا يجوز إلا مستكرها لأنه لا يجوز هذا في محلوف عليه إلا أن يضم الآخر إلى الأول ويحلف بهما على المحلوف عليه ولهذا جعل هو والخليل الحرف في قوله والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى للعطف دون القسم فلهذا حمل اللام في لمن اشتراه على أنها لام ابتداء دون قسم وليست كاللام الأخرى في أنها تقتضي قسما لا محالة في نحو قولهم لعمرك لأفعلن كذا فلا يلزم على تأوله دخول قسم على قسم ويبعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بين قوله ﴿ولقد علموا﴾ وبين ﴿لمن اشتراه﴾ لأن علموا يقتضي مفعوليه وإذا وقع قسم بينه وبين مفعوليه لم يجب وكان لغوا كما أنه في نحو قولك زيد والله منطلق وإن تأتني والله أتيتك لغو لا جواب له ولأنه لو أجيب للزم اعتماد علمت عليه فصار القسم في موضع نصب لوقوعه موقع مفعولي علمت وذلك يمتنع لأنك لو جعلته في موضع مفعوليه لأخرجته عما وضع له لأنه إذا وضع ليؤكد به غيره فلو جعلته في موضع المفعولين لأخرجته عن أن يكون تأكيدا لغيره ولجعلته قائما بنفسه ولو جاز أن يكون في موضع مفعولي علمت لجاز أن يوصل به ويوصف به النكرة وهذا ممتنع فمعلوم إذا أن القسم بعد علمت لا يلزم أن يكون له جواب فإضمار القسم بعد علموا غير جائز لأنه ليس يجوز إلا أن يكون له جواب يدل عليه إذا حذف كما يدل ليفعلن ونحوه من الجواب على القسم والمحذوف فإذا لم يجز أن يكون له جواب لم يجز حذفه وإرادته فقد بعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بعد علمت فلما كان علموا مقسما عليه في هذا الموضع فإذا جعلت من بغير معنى الذي لزمك أن يكون علمت قسما ويكون قوله ﴿ما لهم في الآخرة من خلاق﴾ وجوابه وكان دخول القسم على القسم غير سائغ عند سيبويه وحمل اللام في لمن على أنه لام الابتداء ومن بمعنى الذي لئلا يلزم ما لا يستحسنه ولا يستجيزه من دخول قسم على قسم فمذهب سيبويه في هذا هو البين.

المعنى:

ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أنه نبذ فريق من اليهود كتاب الله الذي في أيديهم وراء ظهورهم فقال ﴿و اتبعوا ما تتلوا الشياطين﴾ واختلف في المعنى بقوله ﴿واتبعوا﴾ على ثلاثة أقوال (أحدها) أنهم اليهود الذين كانوا على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الربيع وابن إسحاق والسدي (وثانيها) أنهم اليهود الذين كانوا في زمن سليمان عن ابن عباس وابن جريج (وثالثها) أن المراد به الجميع لأن متبعي السحر لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى أن بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وروي عن الربيع أن اليهود سألوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) زمانا عن التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوا عنه فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل علينا منا وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به فأنزل الله تعالى ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين﴾ الآية أي اقتدوا بما كانت تتلو الشياطين أي تتبع وتعمل به عن ابن عباس وقيل معناه تقرأ عن عطا وقتادة وقيل معناه تكذب عن أبي مسلم يقال تلا عليه إذا كذب قال سبحانه وتعالى ويقولون على الله الكذب أ تقولون على الله ما لا تعلمون فإذا صدق قيل تلا عنه وإذا أبهم جاز الأمران واختلف في قوله ﴿الشياطين﴾ فقيل هم شياطين الجن لأنه المستفاد من إطلاق هذه اللفظة وقيل هم شياطين الإنس المتمردون في الضلالة كما قال جرير:

أيام يدعونني الشيطان من غزلي

وكن يهوينني إذ كنت شيطانا وقيل هم شياطين الجن والإنس وقوله ﴿على ملك سليمان﴾ قيل معناه في ملك سليمان كقول أبي النجم:

فهي على الأفق كعين الأحول

أي في الأفق ثم إن هذا يحتمل معنيين (أحدهما) في عهد ملك سليمان (والثاني) في نفس ملك سليمان كما يقال فلان يطعن في ملك فلان وفي نفس فلان وقيل معناه على عهد ملك سليمان وقال أبو مسلم معناه ما كانت تكذب الشياطين على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين وأما قوله ﴿وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ بين بهذا أن ما كانت تتلوه الشياطين وتأثره وترويه كان كفرا إذ برأ سليمان (عليه السلام) منه ولم يبين سبحانه بقوله ﴿ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾ أنها أي شيء كانت تتلو الشياطين ثم لم يبين بقوله سبحانه ﴿وما كفر سليمان﴾ أن ذلك الكفر أي نوع من أنواع الكفر حتى قال ﴿ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر﴾ فبين سبحانه أن ذلك الكفر كان من نوع السحر فإن اليهود أضافوا إلى سليمان السحر وزعموا أن ملكه كان به فبرأه الله منه وهو قول ابن عباس وابن جبير وقتادة واختلف في السبب الذي لأجله أضافت اليهود السحر إلى سليمان (عليه السلام) فقيل إن سليمان كان قد جمع كتب السحرة ووضعها في خزانته وقيل كتمها تحت كرسيه لئلا يطلع عليها الناس ولا يعلموا بها فلما مات سليمان استخرجت السحرة تلك الكتب وقالوا إنما تم ملك سليمان بالسحر وبه سخر الإنس والجن والطير وزينوا السحر في أعين الناس بالنسبة إلى سليمان (عليه السلام) وشاع ذلك في اليهود وقبلوه لعداوتهم لسليمان عن السدي وروي العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال لما هلك سليمان وضع إبليس السحر ثم كتبه في كتاب واطواه وكتب على ظهره هذا ما وضع آصف بن برخيا من ملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليقل كذا وكذا ثم دفنه تحت السرير ثم استثاره لهم فقال الكافرون ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا وقال المؤمنون هو عبد الله ونبيه فقال الله في كتابه ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين﴾ الآية وفي قوله ﴿ولكن الشياطين كفروا﴾ ثلاثة أقوال (أحدها) أنهم كفروا بما استخرجوه من السحر و(ثانيها) أنهم كفروا بما نسبوا إلى سليمان من السحر (وثالثها) أنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر وفي قوله ﴿يعلمون الناس السحر﴾ قولان (أحدهما) أنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه (والثاني) أنهم دلوهم على استخراجه من تحت الكرسي فتعلموه وقوله ﴿و ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت﴾ فيه وجوه.

(أحدها) أن المراد أن الشياطين يعلمون الناس السحر والذي أنزل على الملكين وإنما أنزل على الملكين وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال فيه ليعرفا ذلك ويعرفاه الناس فيجتنبوه غير أن الشياطين لما عرفوه استعملوه وإن كان المؤمنون إذا عرفوه اجتنبوه وانتفعوا بالاطلاع على كيفيته (وثانيها) أن يكون المراد على ما ذكرناه قبل من أن معناه واتبعوا ما كذبت به الشياطين على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين أي معهما وعلى ألسنتهما كما قال سبحانه ما وعدتنا على رسلك أي معهم وعلى ألسنتهم (وثالثها) أن يكون ما بمعنى النفي والمراد وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ويكون قوله ببابل هاروت وماروت من المؤخر الذي معناه التقديم ويكون في هذا التأويل هاروت وماروت رجلين من جملة الناس ويكون الملكان اللذان نفى عنهما السحر جبرئيل وميكائيل (عليهما السلام) لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تدعي أن الله عز وجل أنزل السحر على لسان جبرائيل وميكائيل على سليمان فأكذبهم الله في ذلك ويجوز أن يكون هاروت وماروت يرجعان إلى الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا ويسوغ ذلك كما ساغ في قوله وكنا لحكمهم شاهدين يعني لحكم داود وسليمان ويكون على هذا قوله ﴿وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة﴾ راجعا إلى هاروت وماروت ومعنى قولهما إنما نحن فتنة ﴿فلا تكفر﴾ يكون علي طريق الاستهزاء والتماجن لا على سبيل النصيحة والتحذير ويجوز على هذا التأويل أيضا الذي يتضمن النفي والجحد أن يكون هاروت وماروت اسمين للملكين ونفى عنهما إنزال السحر ويكون قوله ﴿وما يعلمان﴾ راجعا إلى قبيلتين من الجن والإنس أو إلى شياطين الجن والإنس فيحسن التثنية لهذا وروي هذا التأويل في حمل ما على النفي عن ابن عباس وغيره من المفسرين وحكي عنه أيضا أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام ويقول متى كان العلجان ملكين إنما كانا ملكين وعلى هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله ﴿وما يعلمان من أحد﴾ إليهما ويمكن على هذه القراءة في الآية وجه آخر وإن لم يحمل قوله ﴿وما أنزل على الملكين﴾ على الجحد والنفي وهو أن يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين وتدعيه على ملك سليمان واتبعوا ما أنزل على الملكين من السحر ولا يكون الإنزال مضافا إلى الله تعالى وإن أطلق لأنه جل وعز لا ينزل السحر بل يكون أنزله إليهما بعض الضلال ويكون معنى أنزل وإن كان من الأرض حمل إليهما لا من السماء أنه أتي به من نجود البلاد وأعاليها فإن من هبط من النجد إلى الغور يقال نزل واختلف في بابل فقيل هي بابل العراق لأنه تبلبلت بها الألسن عن ابن مسعود وقيل هي بابل دماوند عن السدي وقيل هي نصيبين إلى رأس العين وهاروت وماروت قيل هما رجلان على ما تقدم بيانه وقيل هما ملكان من الملائكة أهبطهما الله إلى الأرض على صورة الإنس لئلا ينفر الناس منهما إذا كانا على صورة الملائكة واختلف في سبب هبوطهما فقيل إن الله أهبطهما ليأمرا بالدين وينهيا عن السحر ويفرقا بينه وبين المعجز لأن السحر كان كثيرا في ذلك الوقت ثم اختلف في ذلك فقال قوم كانا يعلمان الناس كيفية السحر وينهيان عن فعله ليكون النهي بعد العلم فإن من لا يعرف الشيء لا يمكنه اجتنابه وقال آخرون لم يكن لهما تعليم السحر لما في ذلك من الإغراء بفعله وإنما اهبطا لمجرد النهي إذ كان السحر فاشيا وقيل أيضا في سبب هبوطهما إن الملائكة تعجبت من معاصي بني آدم مع كثرة نعم الله عليهم فقال طائفة منهم يا ربنا أ ما تغضب مما يعمل خلقك في أرضك ومما يفترون عليك من الكذب والزور ويرتكبونه من المعاصي وقد نهيتهم عنها وهم في قبضتك وتحت قدرتك فأحب الله سبحانه أن يعرفهم ما من به عليهم من عجيب خلقهم وما طبعهم عليه من الطاعة وعصمهم به من الذنوب فقال لهم اندبوا منكم ملكين حتى أهبطهما إلى الأرض واجعل فيهما من طبائع المطعم والمشرب والشهوة والحرص والأمل مثل ما جعلت في ولد آدم ثم اختبرهما في الطاعة لي قال فندبوا لذلك هاروت وماروت وكانا من أشد الملائكة قولا في العيب لولد آدم واستجرار عتب الله عليهم قال فأوحى الله إليهما أن اهبطا إلى الأرض فقد جعلت فيكما من طبائع المطعم والمشرب والشهوة والحرص والأمل مثل ما جعلت في ولد آدم وأنظر أن لا تشركا بي شيئا ولا تقتلا النفس التي حرم الله قتلها ولا تزنيا ولا تشربا الخمر ثم أهبطهما إلى الأرض على صورة البشر ولباسهم فرفع لهما بناء مشرف فأقبلا نحوه فإذا امرأة جميلة حسناء أقبلت نحوهما فوقعت في قلوبهما موقعا شديدا ثم إنهما ذكرا ما نهيا عنه من الزنا فمضيا ثم حركتهما الشهوة فرجعا إليها فراوداها عن نفسها فقالت إن لي دينا أدين به ولست أقدر في ديني على أن أجيبكما إلى ما تريدان إلا أن تدخلا في ديني فقالا وما دينك فقالت لي إله من عبده وسجد له كان لي السبيل إلى أن أجيبه إلى كل ما سألني قالا وما إلهك قالت هذا الصنم قال فائتمرا بينهما فغلبتهما الشهوة التي جعلت فيهما فقالا لها نجيبك إلى ما سألت قالت فدونكما فاشربا الخمر فإنه قربان لكما عنده وبه تصلان إلى ما تريدان فقالا هذه ثلاث خصال قد نهانا ربنا عنها الشرك والزنا وشرب الخمر فائتموا بينهما ثم قالا لها ما أعظم البلية بك قد أجبناك قال فشربا الخمر وسجدا للصنم ثم راوداها عن نفسها فلما تهيأت لهما دخل عليهما سائل يسأل فلما رأياه فزعا منه فقال لهما إنكما لمريبان قد خلوتما بهذه المرأة الحسناء إنكما لرجلا سوء وخرج عنهما فقالت لهما بادرا إلى هذا الرجل فاقتلاه قبل أن يفضحكما ويفضحني ثم دونكما فاقضيا حاجتكما وأنتما مطمئنان آمنان قال فقاما إلى الرجل فأدركاه فقتلاه ثم رجعا إليها فلم يرياها وبدت لهما سوآتهما ونزع عنهما رياشهما وسقط في أيديهما فأوحى الله تعالى إليهما إنما أهبطتكما إلى الأرض ساعة من نهار فعصيتماني بأربع معاص قد نهيتكما عنها وتقدمت إليكما فيها فلم تراقباني ولم تستحيا مني وقد كنتما أشد من ينقم على أهل الأرض من المعاصي فاختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة قال فاختارا عذاب الدنيا فكانا يعلمان الناس السحر بأرض بابل ثم لما علما الناس رفعا من الأرض إلى الهواء فهما معذبان منكسان معلقان في الهواء إلى يوم القيامة هذا الخبر رواه العياشي مرفوعا إلى أبي جعفر الباقر (عليه السلام) ومن قال بعصمة الملائكة (عليهم السلام) لم يجز هذا الوجه وقوله ﴿وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر﴾ يعني الملكين ما يعلمان أحدا والعرب تستعمل لفظة علم بمعنى أعلم أي لا يعرفان صفات السحر وكيفيته حتى يقلا أي الأبعد أن يقولا إنما فتنة أي محنة لأن الفتنة بمعنى المحنة والاختبار والابتلاء وإنما كانا محنة من حيث ألقيا إلى المكلفين أمرا لينزجروا عنه ويمتنعوا من مواقعته وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه فقالا لمن يطلعانه على ذلك لا تكفر باستعماله ولا تعدل عن الغرض في إلقائه إليك فإنه إنما ألقي إليك لتجتنبه لا لتفعله ولا يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفرا ومعصية كما أن من عرف الزنا لم يأثم بأنه عرفه وإنما يأثم بالعمل وقيل إن المراد به نفي تعليمهما السحر والتقدير ولا يعلمان أحدا السحر فيقولان إنما نحن فتنة فعلى هذا يكون تعليم السحر من الشياطين والنهي عنه من الملكين وقوله ﴿فلا تكفر﴾ يعني به أحد ثلاثة أشياء (أحدها) فلا تكفر بالعمل بالسحر (والثاني) فلا تكفر بتعلم السحر ويكون مما امتحن الله عز وجل بالملكين الناس في ذلك الوقت وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر فيكون بتعلمه كافرا وبتركه التعلم مؤمنا لأن السحر كان قد كثر وهذا ممكن أن يمتحن الله به كما امتحن بالنهر في قوله فمن شرب منه فليس مني (والثالث) فلا نكفر بكليهما وقوله ﴿فيتعلمون منهما﴾ أي من هاروت وماروت وقيل من السحر والكفر وقيل أراد بدلا مما علماهم ويكون المعنى أنهم يعدلون عما علمهم الملكان من النهي عن السحر إلى فعله واستعماله كما يقال ليت لنا من كذا وكذا أي بدلا منه وكقول الشاعر:

جمعت من الخيرات وطبا وعلبة

وصرا لإخلاف المزممة البزل

ومن كل أخلاق الكرام نميمة

وسعيا على الجار المجاور بالمحل.

وقوله ﴿ما يفرقون به بين المرء وزوجه﴾ فيه وجوه (أحدها) أنهم يوجدون أحدهما على صاحبه ويبغضونه إليه فيؤدي ذلك إلى الفرقة عن قتادة (وثانيها) أنه يغوون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك بالله تعالى فيكون بذلك قد فارق زوجة الآخر المؤمن المقيم على دينه فيفرق بينهما اختلاف النحلة وتباين الملة (وثالثها) أنهم يسعون بين الزوجين بالنميمة والوشاية حتى يؤول أمرهما إلى الفرقة والمباينة وقوله ﴿وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله﴾ أي لا يلحقون بغيرهم ضررا إلا بعلم الله فيكون على وجه التهديد وقيل معناه إلا بتخلية الله عن الحسن قال من شاء الله منعه فلا يضره السحر ومن شاء خلى بينه وبينه فيضره وقوله ﴿ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم﴾ معناه يضرهم في الآخرة ولا ينفعهم وإن كان ينفعهم في الدنيا لأنهم لما قصدوا بتعلمه أن يفعلوه ويرتكبوه لا أن يجتنبوه صار ذلك بسوء اختيارهم ضررا عليهم وقوله ﴿ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق﴾ يعني اليهود الذين نبذوا كتاب وراء ظهورهم علموا لمن استبدل السحر بدين الله فالهاء في اشتراه كناية عن السحر عن قتادة وجماعة من المفسرين فما له في الآخرة من نصيب وقوله ﴿ولبئس ما شروا به أنفسهم﴾ يعني بئس ما باعوا به حظ أنفسهم حيث اختاروا التكسب بالسحر وقوله ﴿لو كانوا يعلمون﴾ بعد قوله ﴿ولقد علموا﴾ ذكر فيه وجوه (أحدها) أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا أو يكون الذين علموا الشياطين أو الذين خبر تعالى عنهم بأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم والذين لم يعلموا هم الذين تعلموا السحر (وثانيها) أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا إلا أنهم علموا شيئا ولم يعلموا غيره فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لا نصيب لمن اشترى ذلك ورضيه لنفسه على الجملة ولم يعلموا كنه ما يصيرون إليه من العقاب الدائم (ثالثها) أن تكون الفائدة في نفي العلم بعد إثباته أنهم لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا كما قال كعب بن زهير يصف ذئبا وغرابا تبعاه ليصيبا من زاده:

إذا حضراني قلت لو تعلمانه

ألم تعلما أني من الزاد مرمل فنفى عنهما العلم ثم أثبته والمعنى في نفيه العلم عنهما أنها لم يعملا بما علماه فكأنهما لم يعلماه وفي هذه الآية دلالة على أن الأفعال تختلف باختلاف المقاصد ولذلك كان تعلم السحر لإزالة الشبهة والتحرز منه واجتنابه إيمانا ولتصديقه واستعماله كفرا واختلف في ماهية السحر على أقوال فقيل أنه ضرب من التخييل وصنعة من لطيف الصنائع وقد أمر الله تعالى بالتعوذ منه وجعل التحرز بكتابه وقاية منه وأنزل فيه سورة الفلق وهو قول الشيخ المفيد أبي عبد الله من أصحابنا وقيل أنه خدع ومخاريق وتمويهات لا حقيقة لها يخيل إلى المسحور أن لها حقيقة وقيل أنه يمكن الساحر أن يقلب الإنسان حمارا ويقلبه من صورة إلى صورة وينشىء الحيوان على وجه الاختراع وهذا لا يجوز ومن صدق به فهو لا يعرف النبوة ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع ولو أن الساحر والمعزم قدرا على نفع أو ضر وعلما الغيب لقدرا على إزالة الممالك واستخراج الكنوز من معادنها والغلبة على البلدان بقتل الملوك من غير أن ينالهم مكروه وضرر فلما رأيناهم أسوء الناس حالا وأكثرهم مكيدة واحتيالا علمنا أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك فأما ما روي من الأخبار أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سحر فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله وأنه لم يفعله ما فعله فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها وقد قال الله سبحانه وتعالى حكاية عن الكفار إن تتبعون إلا رجلا مسحورا فلو كان للسحر عمل فيه لكان الكفار صادقين في مقالهم حاشا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من كل صفة نقص تنفر عن قبول قوله فإنه حجة الله على خليقته وصفوته على بريته.