الآيات 33-34
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ﴿33﴾ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴿34﴾
القراءة:
قرأ نافع ليحزنك بضم الياء وكسر الزاي والباقون ﴿يحزنك﴾ بفتح الياء وضم الزاي وقرأ نافع والكسائي والأعشى عن أبي بكر لا يكذبونك خفيف وهو قراءة علي (عليه السلام) والمروي عن جعفر الصادق (عليه السلام) والباقون ﴿يكذبونك﴾ بفتح الكاف والتشديد.
الحجة:
قال أبو علي قال سيبويه قالوا حزن الرجل وحزنته وزعم الخليل إنك حيث تقول حزنته لم ترد أن تقول جعلته حزينا كما أنك حيث قلت أدخلته أردت جعلته داخلا ولكنك أردت أن تقول جعلت فيه حزنا كما تقول كحلته جعلت فيه كحلا ودهنته جعلت فيه دهنا ولم ترد بفعلته هنا تعدي قوله حزن ولو أردت ذلك لقلت أحزنته وحجة نافع إنه أراد أن يعدي حزن فنقله بالهمزة والاستعمال في حزنته أكثر منه في أحزنته فإلى كثرة الاستعمال ذهب عامة القراء وأما قوله ﴿يكذبونك﴾ فمن ثقل فهو من فعلته إذا نسبته إلى الفعل مثل زنيته وفسقته نسبته إلى الزنا والفسق وقد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله قال ذو الرمة:
وأسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره وملاعبه
فيجوز على هذا أن يكون معنى القراءتين واحدا ويجوز أن يكون ﴿لا يكذبونك﴾ أي لا يصادفونك كاذبا كما تقول أحمدته إذا أصبته محمودا ويدل على الوجه الأول قول الكميت:
وطائفة قد أكفرتني بحبكم وطائفة قالت مسيء ومذنب
أي نسبتني إلى الكفر قال أحمد بن يحيى كان الكسائي يحكي عن العرب أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاءك بكذب وكذبته إذا أخبرت أنه كذاب.
المعنى:
ثم سلى سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) على تكذيبهم إياه بعد إقامة الحجة عليهم فقال ﴿قد نعلم﴾ نحن يا محمد ﴿إنه ليحزنك الذي يقولون﴾ أي ما يقولون إنك شاعر أو مجنون وأشباه ذلك ﴿فإنهم لا يكذبونك﴾ دخلت الفاء في أنهم لأن الكلام الأول يقتضيه كأنه قيل إذا كان قد يحزنك قولهم فاعلم أنهم لا يكذبونك واختلف في معناه على وجوه (أحدها) أن معناه لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا وهو قول أكثر المفسرين عن أبي صالح وقتادة والسدي وغيرهم قالوا يريد أنهم يعلمون أنك رسول الله ولكن يجحدون بعد المعرفة ويشهد لهذا الوجه ما روى سلام بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل فقيل له في ذلك فقال والله إني لأعلم إنه صادق ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف فأنزل الله هذه الآية وقال السدي التقى أخنس ابن شريق وأبو جهل بن هشام فقال له يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أ صادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا فقال أبو جهل ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنبوة فما ذا يكون لسائر قريش (وثانيها) أن المعنى لا يكذبونك بحجة ولا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان ويدل عليه ما روي عن علي (عليه السلام) إنه كان يقرأ ﴿لا يكذبونك﴾ ويقول إن المراد بها إنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك (وثالثها) أن المراد لا يصادفونك كاذبا تقول العرب قاتلناكم فما أجبناكم أي ما أصبناكم جبناء قال الأعشى:
أثوى وقصر ليلة ليزودا
فمضى وأخلف من قتيلة موعدا أراد صادف منها خلف الوعد وقال ذو الرمة:
تريك بياض لبتها ووجها
كقرن الشمس أفتق ثم زالا
أي وجد فتقا من السحاب ولا يختص هذا الوجه بالقراءة بالتخفيف دون التشديد لأن أفعلت وفعلت يجوزان في هذا الموضع وأفعلت هو الأصل فيه ثم يشدد تأكيدا مثل أكرمت وكرمت وأعظمت وعظمت إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه (ورابعها) أن المراد لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به لأنك كنت عندهم أمينا صدوقا وإنما يدفعون ما أتيت به ويقصدون التكذيب ب آيات الله ويقوي هذا الوجه قوله ﴿ولكن الظالمين ب آيات الله يجحدون﴾ وقوله ﴿وكذب به قومك وهو الحق﴾ ولم يقل وكذبك قومك وما روي أن أبا جهل قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما نتهمك ولا نكذبك ولكنا نتهم الذي جئت به ونكذبه (وخامسها) أن المراد أنهم لا يكذبونك بل يكذبونني فإن تكذيبك راجع إلي ولست مختصا به لأنك رسول الله فمن رد عليك فقد رد علي ومن كذبك فقد كذبني وذلك تسلية منه سبحانه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقوله ﴿ولكن الظالمين ب آيات الله يجحدون﴾ أي بالقرآن والمعجزات يجحدون بغير حجة سفها وجهلا وعنادا ودخلت الباء في ﴿ب آيات الله﴾ والجحد يتعدى بغير الجار والمجرور لأن معناه هنا التكذيب أي يكذبون ب آيات الله وقال أبو علي الباء تتعلق بالظالمين والمعنى ولكن الظالمين برد آيات الله أو إنكار آيات الله يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك ومثله قوله سبحانه وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها أي ظلموا بردها أو الكفر بها ثم زاد سبحانه في تسلية نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بقوله ﴿ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا﴾ أي صبروا على ما نالهم منهم من التكذيب والأذى في أداء الرسالة ﴿حتى أتاهم﴾ جاءهم ﴿نصرنا﴾ إياهم على المكذبين وهذا أمر منه سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالصبر على كفار قومه إلى أن يأتيه النصر كما صبرت الأنبياء ﴿ولا مبدل لكلمات الله﴾ معناه لا أحد يقدر على تكذيب خبر الله على الحقيقة ولا على إخلاف وعده وأن ما أخبر الله به أن يفعل بالكفار فلا بد من كونه لا محالة وما وعدك به من نصره فلا بد من حصوله لأنه لا يجوز الكذب في إخباره ولا الخلف في وعده وقال الكلبي وعكرمة يعني بكلمات الله الآيات التي وعد فيها نصر الأنبياء نحو قوله كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقوله إنهم لهم المنصورون ﴿ولقد جاءك من نبأ المرسلين﴾ أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ونصرناهم على قومهم قال الأخفش من هاهنا صلة مزيدة كما تقول أصابنا من مطر أي مطر وقال غيره من النحويين لا يجوز ذلك لأن من لا تزاد في الإيجاب وإنما تزاد في النفي ومن هنا للتبعيض وفاعل جاء مضمر يدل المذكور عليه وتقديره ولقد جاءك من نبأ المرسلين نبأ فيكون المعنى أنه أخبره (عليه السلام) ببعض أخبارهم على حسب ما علم من المصالح ويؤيد ذلك قوله ومنهم من لم نقصص عليك.