الآيـة 90

بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿90﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو أن ينزل خفيفة كل القرآن إلا في الأنعام أن ينزل آية فإنه شددها وقرأ ابن كثير بالتخفيف كل القرآن إلا في سبحان وننزل من القرآن وحتى تنزل فإنه شددها وقرأ حمزة والكسائي كل القرآن بالتشديد إلا في الم وحم عسق ينزل الغيث فإنهما قرءاها بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد كل القرآن واتفقوا في الحجر وما ننزله أنه مشدد.

الحجة:

نزل فعل غير متعد ويعدى بالإضراب الثلاثة وهي النقل بالهمزة وتضعيف العين وحرف الجر فأنزل ونزل لغتان ومما عدي بالحرف قوله تعالى نزل به الروح الأمين فيمن رفع الروح وقد كثر مجيء التنزيل في القرآن فهذا يقوي نزل ولم يعلم فيه الإنزال وكثر فيه مجيء أنزل.

اللغة:

بئس ونعم فعلان ماضيان أصلهما على وزن فعل وفيها أربع لغات نعم وبئس مثل حمد ونعم وبئس بسكون العين ونعم وبئس بكسر الفاء والعين ونعم وبئس واشتروا افتعلوا من الشراء وأكثر الكلام شريت بمعنى بعت واشتريت بمعنى ابتعت قال يزيد الحميري:

وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامة

وربما استعمل اشتريت بمعنى بعت وشريت بمعنى ابتعت والأكثر ما تقدم والبغي أصله الفساد مأخوذ من قولهم بغى الجرح إذا فسد وقيل أصله الطلب لأن الباغي يطلب التطاول الذي ليس له ذلك وسميت الزانية بغيا لأنها تطلب والإهانة الإذلال.

الإعراب:

قال الزجاج بئس إذا وقعت على ما جعلت معها ما بمنزلة اسم منكور و إنما كان ذلك في نعم وبئس لأنهما لا يعملان في اسم علم إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس أو اسم فيه ألف ولام يدل على جنس وإنما كانت كذلك لأن نعم مستوفية لجميع المدح وبئس مستوفية لجميع الذم فإذا قلت نعم الرجل زيد فقد قلت استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه وكذا إذا قلت بئس الرجل زيد دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه فلم يجز إذ كان يستوفي مدح الأجناس أن يعمل من غير لفظ جنس فإذا كان معها اسم جنس بغير ألف ولام فهو نصب أبدا وإذا كانت فيه ألف ولام فهو رفع أبدا نحو نعم الرجل زيد ونعم الرجل زيد ونعم رجلا زيد وإنما نصبت رجلا للتمييز وفي نعم اسم مضمر على شريطة التفسير ولذلك كانت ما في نعم بغير صلة لأن الصلة توضح وتخصص والقصد في نعم أن يليها اسم منكور أو اسم جنس فقوله ﴿بئسما اشتروا به أنفسهم﴾ تقديره بئس شيئا اشتروا به أنفسهم قال أبو علي قوله ولذلك كانت ما في نعم بغير صلة يدل على أن ما إذا كانت موصولة لم يجز عنده أن تكون فاعلة نعم وبئس وذلك عندنا لا يمتنع وجهة جوازه أن ما اسم مبهم يقع على الكثرة ولا يخصص واحدا بعينه كما أن أسماء الأجناس تكون للكثرة وذلك في نحو قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فالقصد به هنا الكثرة وإن كان في اللفظ مفردا بدلالة قوله ويقولون هؤلاء وتكون معرفة ونكرة كما أن أسماء الأجناس تكون معرفة ونكرة وقد أجاز أبو العباس المبرد في الذي أن تلي نعم وبئس إذا كان عاما غير مخصوص كما في قوله والذي جاء بالصدق وإذا جاز في الذي كان في ما أجوز فقوله ﴿بئسما اشتروا به أنفسهم﴾ يجوز عندي أن تكون ما موصولة وموضعها رفع بكونها فاعلة لبئس ويجوز أن تكون منكورة فتكون اشتروا صفة غير صلة ويدل على صحة ما رأيته قول الشاعر:

وكيف أرهب أمرا أو أراع له

وقد زكات إلى بشر بن مروان

فنعم مزكا من ضاقت مذاهبه

ونعم من هو في سر وإعلان أ لا ترى أنه جعل مزكا فاعل نعم لما كان مضافا إلى من وهي تكون عامة غير معينة وأما قوله ﴿أن يكفروا بما أنزل الله﴾ فموضعه رفع وهو المخصوص بالذم فإن شئت رفعته على أنه مبتدأ مؤخر وإن شئت على أنه خبر مبتدإ محذوف أي هذا الشيء المذموم كفرهم بما أنزل الله وقوله ﴿بغيا﴾ نصب بأنه مفعول له كقول حاتم:

وأغفر عوراء الكريم ادخاره

وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

المعنى أغفر عوراءه لادخاره وأعرض عن الشتم للتكرم وموضع أن الثانية نصب على حذف حرف الجر يعني بغيا لأن ينزل الله أي من أجل أن ينزل الله.

المعنى:

ثم ذم الله سبحانه اليهود بإيثارهم الدنيا على الدين فقال ﴿بئسما اشتروا به أنفسهم﴾ أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم أو بئس الشيء باعوا به أنفسهم ﴿أن يكفروا﴾ أي كفرهم ﴿بما أنزل الله﴾ يعني القرآن ودين الإسلام المنزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فإذا سأل كيف باعت اليهود أنفسها بالكفر فالجواب أن البيع والشراء إزالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه ثم يستعمل ذلك في كل معتاض من عمله عوضا خيرا كان أو شرا فاليهود لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهلكوا خاطبهم الله بما كانوا يعرفونه فقال بئس الشيء رضوا به عوضا من ثواب الله وما أعده لهم لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل الله على نبيه النار وما أعد لهم بكفرهم ونظير ذلك الآيات في سورة النساء من قوله أ لم تر الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت إلى قوله وآتيناهم ملكا عظيما وقوله ﴿بغيا﴾ أي حسدا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا كان من ولد إسماعيل وكانت الرسل قبل من بني إسرائيل وقيل طلبا لشيء ليس لهم ثم فسر ذلك بقوله ﴿إن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده﴾ وهو الوحي والنبوة وقوله ﴿فباءوا بغضب على غضب﴾ معناه رحبت اليهود من بني إسرائيل بعد ما كانوا عليه من الانتصار بمحمد والاستفتاح به والإخبار بأنه نبي مبعوث مرتدين ناكصين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم وقال مؤرج معنى ﴿باءو بغضب﴾ استوجبوا اللعنة بلغة جرهم ولا يقال باء مفردة حتى يقال إما بخير وإما بشر وقال أبو عبيدة ﴿فباءوا بغضب﴾ احتملوه وأقروا به وأصل البوء التقرير والاستقرار وقوله ﴿على غضب﴾ فيه أقوال (أحدها) أن الغضب الأول حين غيروا التوراة قبل مبعث النبي والغضب الثاني حين كفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن عطاء وغيره (وثانيها) أن الغضب الأول حين عبدوا العجل والثاني حين كفروا بمحمد عن السدي (وثالثها) أن الأول حين كفروا بعيسى (عليه السلام) والثاني حين كفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الحسن وعكرمة وقتادة و(رابعها) أن ذلك على التوكيد والمبالغة إذ كان الغضب لازما لهم فيتكرر عليهم عن أبي مسلم والأصم ﴿وللكافرين عذاب مهين﴾ معناه للجاحدين بنبوة محمد عذاب مهين من الله إما في الدنيا وإما في الآخرة والمهين هو الذي يذل صاحبه ويخزيه ويلبسه الهوان وقيل المهين الذي لا ينتقل منه إلى إعزاز وإكرام وقد يكون غير مهين إذا كان تحميصا وتكفيرا ينتقل بعده إلى إعزاز تعظيم فعلى هذا من ينتقل من عذاب النار إلى الجنة لا يكون عذابه مهينا.