الآيات 172-174
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴿172﴾ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴿173﴾ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿174﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وأهل الكوفة ﴿ذريتهم﴾ على التوحيد والباقون ذرياتهم على الجمع وقرأ أبو عمرو أن يقولوا أو يقولوا بالياء والباقون بالتاء.
الحجة:
قال أبو علي الذرية قد يكون جمعا وقد يكون واحدا فمما جاء فيه جمعا قوله ﴿وكنا ذرية من بعدهم﴾ وذرية من حملنا مع نوح فمن أفرد جعله جمعا فاستغنى عن جمعه لوقوعه على الجمع ومما جاء فيه واحدا قوله رب هب لي من لدنك ذرية طيبة ثم قال إن الله يبشرك بيحيى وهذا مثل قوله رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب وأما قراءة أبي عمرو أن يقولوا بالياء فلأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة ومن قرأ بالتاء فلأنه جرى في الكلام خطاب أيضا فقال ﴿ألست بربكم﴾ وكلا الوجهين حسن لأن الغيب هم المخاطبون في المعنى.
الإعراب:
﴿من ظهورهم﴾ بدل من قوله ﴿من بني آدم﴾ والمعنى أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم وقد ذكرنا الذرية وما قيل في تقدير وزنها واشتقاقها فيما تقدم وقوله ﴿أن تقولوا﴾ تقديره كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا وقد مضى الكلام في أمثاله.
المعنى:
ثم ذكر سبحانه ما أخذ على الخلق من المواثيق بعقولهم عقيب ما ذكره من المواثيق التي في الكتب جمعا بين دلائل السمع والعقل وإبلاغا في إقامة الحجة فقال ﴿وإذ أخذ ربك﴾ أي واذكر لهم يا محمد إذ أخرج ربك ﴿من بني آدم من ظهورهم﴾ أي من ظهور بني آدم ﴿ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى﴾ اختلف العلماء من العام والخاص في معنى هذه الآية وفي هذا الإخراج والإشهاد على وجوه (أحدها) أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من صلبه كهيئة الذر فعرضهم على آدم وقال إني آخذ على ذريتك ميثاقهم أن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئا وعلي أرزاقهم ثم قال لهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أنك ربنا فقال للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا وقيل إن الله تعالى جعلهم فهماء عقلاء يسمعون خطابه ويفهمونه ثم ردهم إلى صلب آدم والناس محبوسون بأجمعهم حتى يخرج كل من أخرجه الله في ذلك الوقت وكل من ثبت على الإسلام فهو على الفطرة الأولى ومن كفر وجحد فقد تغير عن الفطرة الأولى عن جماعة من المفسرين ورووا في ذلك آثارا بعضها مرفوعة وبعضها موقوفة يجعلونها تأويلا للآية ورد المحققون هذا التأويل وقالوا إنه مما يشهد ظاهر القرآن بخلافه لأنه تعالى قال ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم﴾ ولم يقل من آدم وقال ﴿من ظهورهم﴾ ولم يقل من ظهره وقال ﴿ذريتهم﴾ ولم يقل ذريته ثم أخبر تعالى بأنه فعل ذلك لئلا يقولوا إنهم كانوا عن ذلك غافلين أو يعتذروا بشرك آبائهم وإنهم نشأوا على دينهم وهذا يقتضي أن يكون لهم آباء مشركون فلا يتناول الظاهر ولد آدم لصلبه وأيضا فإن هذه الذرية المستخرجة من صلب آدم لا يخلو إما أن جعلهم الله عقلاء أو لم يجعلهم كذلك فإن لم يجعلهم عقلاء فلا يصح أن يعرفوا التوحيد وأن يفهموا خطاب الله تعالى وإن جعلهم عقلاء وأخذ عليهم الميثاق فيجب أن يتذكروا ذلك ولا ينسوه لأن أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه إلا أن يكون ذاكرا له فيجب أن نذكر نحن الميثاق ولأنه لا يجوز أن ينسى الجمع الكثير والجم الغفير من العقلاء شيئا كانوا عرفوه وميزوه حتى لا يذكره واحد منهم وإن طال العهد أ لا ترى أن أهل الآخرة يعرفون كثيرا من أحوال الدنيا حتى يقول أهل الجنة لأهل النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ولو جاز أن ينسوا ذلك مع هذا الكثرة لجاز أن يكون الله تعالى قد كلف الخلق فيما مضى ثم أعادهم إما ليثيبهم وإما ليعاقبهم ونسوا ذلك وذلك يؤدي إلى التجاهل وإلى صحة مذهب التناسخية وحكي عن علي بن عيسى عن أبي بكر بن الإخشيد أنه جوز أن يكون خبر الذر صحيحا غير أنه قال ليس تأويل الآية على ذلك ويكون فائدته أنه إنما فعل ذلك ليجروا على الأعراق الكريمة في شكر النعمة والإقرار لله تعالى بالربوبية كما روي أنهم ولدوا على الفطرة وحكى أبو الهذيل في كتاب الحجة أن الحسن البصري وأصحابه كانوا يذهبون إلى أن نعيم الأطفال في الجنة ثواب عن الإيمان في الذر (وثانيها) أن المراد بالآية أن الله سبحانه أخرج بني آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام أمهاتهم ثم رقاهم درجة بعد درجة وعلقة ثم مضغة ثم أنشأ كلا منهم بشرا سويا ثم حيا مكلفا وأراهم آثار صنعه ومكنهم من معرفة دلائله حتى كأنه أشهدهم وقال لهم أ لست بربكم فقالوا بلى هذا يكون معنى أشهدهم على أنفسهم دلهم بخلقه على توحيده وإنما أشهدهم على أنفسهم بذلك لما جعل في عقولهم من الأدلة الدالة على وحدانيته وركب فيهم من عجائب خلقه وغرائب صنعته وفي غيرهم فكأنه سبحانه بمنزلة المشهد لهم على أنفسهم فكانوا في مشاهدة ذلك وظهوره فيهم على الوجه الذي أراده الله وتعذر امتناعهم منه بمنزلة المعترف المقر وإن لم يكن هناك إشهاد صورة وحقيقة ونظير ذلك قوله تعالى فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وإن لم يكن منه سبحانه قول ولا منهما جواب ومثله قوله تعالى شاهدين على أنفسهم بالكفر ومعلوم أن الكفار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم لكنه لما ظهر منهم ظهورا لا يتمكنون من دفعه فكأنهم اعترفوا به ومثله في الشعر:
وقالت له العينان سمعا وطاعة
وحدرتا كالدر لما يثقب
وكما يقول القائل جوارحي تشهد بنعمتك وكما روي عن بعض الخطباء من قوله سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وأينع ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا ومثله كثير في كلام العرب وأشعارهم ونظمهم ونثرهم وهو قول الرماني وأبي مسلم وابن الإخشيد (وثالثها) أنه تعالى إنما عنى بذلك جماعة من ذرية آدم خلقهم وأكمل عقولهم وقررهم على ألسن رسله (عليهم السلام) بمعرفته وبما يجب من طاعته فأقروا بذلك وأشهدهم على أنفسهم به لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو يقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل فقلدناهم في ذلك فنبه سبحانه على أنه لا يعاقب من له عذر رحمة منه لخلقه وكرما وهذا يكون في قوم خاص من بني آدم ولا يدخل جميعهم فيه لأن المؤمن لا يدخل فيه لأنه بين أن هؤلاء المأخوذ ميثاقهم كان لهم سلف في الشرك ولأن ولد آدم لصلبه لم يؤخذوا من ظهور بني آدم فقد خرجوا من ذلك وهذا اختيار الجبائي والقاضي وقوله ﴿شهدنا﴾ حكاية عن قول الملائكة أنهم يقولون ذلك أي شهدنا لئلا تقولوا ذكره الأزهري عن بعضهم وقال إن قوله ﴿قالوا بلى﴾ تمام الكلام وهذا خلاف الظاهر وما عليه المفسرون لأن الكل قالوا شهدنا من قول من قال بلى وإن اختلفوا في كيفية الشهادة على أن الملائكة لم يجر لها ذكر في الآية فيبعد أن يكون إخبارا عنهم ﴿أن تقولوا يوم القيامة﴾ معناه لئلا يقولوا إذا صاروا إلى العذاب يوم القيامة ﴿إنا كنا عن هذا غافلين﴾ لم نتنبه عليه ولم تقم لنا حجة به ولم تكمل عقولنا فنفكر فيه ﴿أو تقولوا﴾ أي أو تقول قوم منهم ﴿إنما أشرك آباؤنا من قبل﴾ حين بلغوا وعقلوا ﴿وكنا ذرية من بعدهم﴾ أي أطفالا لا نعقل ولا نصلح للفكرة والنظر والتدبر وعلى التأويل الأخير فمعناه أني إنما قررتكم بهذا لتواظبوا على طاعتي وتشكروا نعمتي ولا تقولوا يوم القيامة إنا كنا غافلين عما أخذ الله من الميثاق على لسان الأنبياء وتقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل فنشؤنا على شركهم احتجاجا بالتقليد وتعويلا عليه أي فقد قطعت حجتكم هذه بما قررتكم به من معرفتي وأشهدتكم على أنفسكم بإقراركم بمعرفتكم إياي ﴿أفتهلكنا بما فعل المبطلون﴾ ومعناه ولأن لا تقولوا أفتهلكنا بما فعل آباؤنا من الشرك وتقديره إنا لا نهلككم بما فعلوه وإنما نهلككم بفعلكم أنتم ﴿وكذلك نفصل الآيات﴾ معناه إنا كما بينا لكم هذه الآيات كذلك نفصلها للعباد ونبينها لهم وتفضيل الآيات تمييزها ليتمكن من الاستدلال بكل واحدة منها ﴿ولعلهم يرجعون﴾ أي ليرجعوا إلى الحق من الباطل.