الآيات 169-170

فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿169﴾ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴿170﴾

القراءة:

قرأ أبو بكر يمسكون بتسكين الميم والباقون بفتحها وتشديد السين وهما بمعنى واحد وفي الشواذ قراءة السلمي وادارسوا ما فيه أراد تدارسوا فأدغم.

اللغة:

قال الزجاج يقال للقرن الذي يجيء في إثر قرن خلف والخلف ما أخلف عليك بدلا مما ذهب منك قال الفراء يقال هو خلف صدق وخلف سوء قال لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

قال علي بن عيسى وقد يوضع أحدهما مكان الآخر قال حسان:

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا

لأولنا في طاعة الله تابع

والأغلب في الفتح أن يستعمل في المدح.

والعرض ما يعرض ويقل لبثه ومنه سمي العرض القائم بالجسم عرضا لأنه يعرض في الوجود ولا يجب له من اللبث ما يجب للأجسام والدرس تكرير الشيء ويقال درس الكتاب إذا كرر قراءته ودرس المنزل إذا تكرر عليه مرور الأمطار والرياح حتى انمحى أثره وأمسك ومسك وتمسك واستمسك بالشيء بمعنى واحد أي اعتصم به.

الإعراب:

﴿يأخذون عرض هذا الأدنى﴾ في موضع النصب على الحال من الضمير في ورثوا وقوله ﴿ورثوا الكتاب﴾ صفة لخلف ﴿ودرسوا ما فيه﴾ عطف على ورثوا وقوله ﴿ألم يؤخذ عليهم﴾ إلى قوله ﴿إلا الحق﴾ اعتراض بين ورثوا ودرسوا ولا يجوز الوقف من أول الآية إلا على قوله ﴿ما فيه﴾ وخبر ﴿الذين يمسكون﴾ قوله ﴿إنا لا نضيع أجر المصلحين﴾ منهم فحذف منهم لدلالة الكلام عليه كما في قوله السمن منوان بدرهم ويحتمل أن يكون التقدير لا نضيع أجرهم لأن المصلحين هم الذين يمسكون بالكتاب في المعنى ويجوز أن يكون الخبر محذوفا وتقديره نعطيهم أجرهم لأنا لا نضيع أجر المصلحين فاستغنى بذكر العلة عن ذكر المعلول.

المعنى:

ثم ذكر سبحانه الأخلاف بعد ذكر الأسلاف فقال ﴿فخلف من بعدهم خلف﴾ معناه فذهب أولئك وقام مقامهم قوم آخرون ﴿ورثوا الكتاب﴾ يعني التوراة فإن الميراث ما صار للباقي من جهة البادي ﴿يأخذون عرض هذا الأدنى﴾ معناه ما أشرف لهم من الدنيا أخذوه عن ابن عباس يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر وجميع متاع الدنيا عرض وقيل إنهم كانوا يرتشون ويحكمون بجور وقيل إنهم كانوا يرتشون ويحكمون بحق وكل ذلك عرض خسيس وأراد بقوله ﴿هذا الأدنى﴾ هذا العاجل وقيل أراد عرض هذا العالم الأدنى وهو الدار الفانية ﴿ويقولون سيغفر لنا﴾ وهذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما ويتمنون على الله المغفرة ﴿وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه﴾ أي وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه وهذا دليل على إصرارهم وأنهم تمنوا المغفرة مع الإصرار وقيل معناه وإن جاءهم حرام من الرشوة وغيرها بعد ذلك أخذوه واستحلوه ولم يرتدعوا عنه عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقيل معناه لا يشبعهم شيء عن الحسن ﴿ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق﴾ معناه ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في الأحكام القائلين سيغفر لنا إذا عوتبوا على ذلك الميثاق في التوراة أن لا يكذبوا على الله تعالى ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى (عليه السلام) في التوراة من الوعد والوعيد وغير ذلك وليس فيها ميعاد المغفرة مع الإصرار ﴿ودرسوا ما فيه﴾ أي وقرءوا ما فيه فهم ذاكرون لذلك وقيل إنه معطوف على قوله ﴿ورثوا الكتاب﴾ والمعنى فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ودرسوا ما فيه فضيعوه وتركوا العمل به ﴿والدار الآخرة خير للذين يتقون﴾ معناه ما أعده الله لأوليائه في الدار الآخرة من النعيم والثواب للعاملين بطاعته خير للذين يجتنبون معاصي الله ﴿أفلا تعقلون﴾ من قرأ بالياء فمعناه أفلا يعقل هذه الطائفة ومن قرأ بالتاء فمعناه قل لهم أفلا تعقلون إن الأمر على ما أخبر الله به ﴿والذين يمسكون بالكتاب﴾ أي يتمسكون به والكتاب التوراة أي لا يحرفونه ولا يكتمونه عن مجاهد وابن زيد وقيل الكتاب القرآن والمتمسك به أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن عطا ﴿وأقاموا الصلاة﴾ إنما خص الصلاة بالذكر لجلالة موقعها أو شدة تأكدها ﴿إنا لا نضيع أجر المصلحين﴾ أي لا نضيع جزاء عملهم ونثيبهم على ما يستحقونه.