الآيـة 74

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿74﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير وحده هاهنا عما يعملون بالياء والباقون بالتاء واختلفوا في قوله تعالى ﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ ﴿وما ربك بغافل عما تعملون﴾ قرأهما أبو جعفر وحده بالتاء في كل القرآن إلا في الأنعام وقرأ ابن عامر بالياء في كل القرآن وقرأ حمزة والكسائي الأول بالتاء والثاني بالياء في كل القرآن واختلف عن ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو.

الحجة:

قال أبو علي القول في ذلك أن ما كان قبله خطاب جعل بالتاء ليكون الخطاب معطوفا على خطاب كقوله ﴿ثم قست قلوبكم﴾ ثم قال ﴿عما تعملون﴾ بالتاء ولو كان بالياء على لفظ الغيبة أي وما الله بغافل عما يعمل هؤلاء أيها المسلمون لكان حسنا وإن كان الذي قبله غيبة حسن أن يجعل على لفظ الغيبة ويجوز فيه الخطاب أيضا ووجه ذلك أن يجمع بين الغيبة والخطاب فيغلب الخطاب على الغيبة كتغليب المذكر على المؤنث أ لا ترى أنهم قدموا الخطاب على الغيبة في باب الضمير وهو موضع ترد فيه الأشياء إلى أصولها نحو تك في نحو قوله (فلا تك ما أسأل ولا أغاما) فلما قدموا المخاطب على الغائب فقالوا أعطاكه ولم يقولوا أعطاهوك علم أنه أقدم في الرتبة فإذا كان الأمر على هذا فالخطاب في هذا النحو يعني به الغيب والمخاطبون فيغلب الخطاب على الغيبة ويجوز فيه وجه آخر وهو أن يراد به وقل لهم أيها النبي ما الله بغافل عما تعملون والله أعلم.

اللغة:

القسوة ذهاب اللين والرحمة من القلب يقال قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة والقسوة الصلابة في كل شيء ونقيضه الرقة والشدة القوة في الجسم والشدة صعوبة الأمر والشد العقد والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء والجدول والسري دون ذلك يقال نهر ونهر والفتح أفصح قال سبحانه في جنات ونهر وجمعه نهر وأنهار والتفجر التفعل من فجر الماء وذلك إذا أنزل خارجا من منبعه وكل سائل شخص خارجا من موضعه ومكانه فقد انفجر ماء كان أو دما أو غير ذلك قال عمر بن لجأ:

ولما أن قرنت إلى جرير

أبى ذو بطنه إلا انفجارا

أي خروجا وسيلانا وأصل يشقق يتشقق أدغمت التاء في الشين وهو أن ينقطع من غير أن يبين والغفلة السهو عن الشيء وهو ذهاب المعنى عن النفس بعد حضوره ويقال تغافلت على عمد أي عملت عمل الساهي.

المعنى والإعراب:

لما قدم سبحانه ذكر المعجزات القاهرة والأعلام الظاهرة بين ما فعلوا بعدها من العصيان والطغيان فقال عز اسمه ﴿ثم قست قلوبكم﴾ أي غلظت ويبست وعتت وقشت ﴿من بعد ذلك﴾ أي من بعد آيات الله كلها التي أظهرها على يد موسى (عليه السلام) وقيل أنه أراد بني أخي المقتول حين أنكروا قتله بعد أن سمعوه منه عند إحياء الله تعالى إياه أنه قتله فلان عن ابن عباس فيكون ذلك إشارة إلى الإحياء أي من بعد إحياء الميت لكم ببعض من أعضاء البقرة بعد أن تدارأتم فيه فأخبركم بقاتله والسبب الذي من أجله قتله وكان يجب ممن شاهد هذه الآية العجيبة والمعجزة الخارقة للعادة أن يخضع ويلين قلبه ويحتمل أن يكون ذلك إشارة أيضا إلى الآيات الآخر التي تقدمت كمسخ القردة والخنازير ورفع الجبل فوقهم وانبجاس الماء من الحجر وانفراق البحر وغير ذلك وإنما جاز أن يقول ذلك وأن كانوا جماعة ولم يقل ذلكم لأن الجماعة في معنى الجمع والفريق فلفظ الخطاب مفرد في معنى الجمع ولو قال ذلكم لجاز وقوله ﴿فهي كالحجارة﴾ شبه قلوبهم بالحجارة في الصلابة واليبس والغلظ والشدة وقد ورد الخبر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسي القلب وإن أبعد الناس من الله القاسي القلب ﴿أو أشد قسوة﴾ أي أو هي أشد قسوة ويجوز أن يكون عطفا على موضع الكاف وكأنه قال فهي مثل الحجارة أو أشد قسوة أي أشد صلابة لامتناعهم عن الإقرار اللازم بقيام حجته والعمل بالواجب من طاعته بعد مشاهدة الآيات وقيل في تأويل أو هاهنا وجوه (أحدها) ما ذكره الزجاج أن معناها الإباحة كقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فإن جالست أحدهما أو جمعت بينهما فأنت مصيب فيكون معنى الآية على هذا أن قلوبهم قاسية فإن شبهت قسوتها بالحجر أصبت وإن شبهتها بما هو أشد أصبت وإن شبهتها بهما جميعا أصبت كما مر نحو هذا في قوله سبحانه ﴿أو كصيب من السماء﴾ (وثانيها) أن يكون أو دخلت للتفصيل والتمييز فيكون معنى الآية إن قلوبهم قاسية فبعضها كالحجارة وبعضها أشد قسوة من الحجارة وقد يحتمل قوله تعالى ﴿أو كصيب من السماء﴾ هذا الوجه أيضا (وثالثها) أن يكون أو دخلت على سبيل الإبهام فيما يرجع إلى المخاطب وإن كان تعالى عالما بذلك غير شاك فيه فأخبر أن قسوة قلوب هؤلاء كالحجارة أو أشد قسوة والمعنى أنها كأحد هذين لا يخرج عنهما كما يقال أكلت بسرة أو تمرة وهو يعلم ما أكله على التفصيل إلا أنه أبهم على المخاطب وكما قال لبيد:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

أراد وهل أنا إلا من أحد هذين الجنسين فسبيلي أن أفنى كما فنيا وإنما حسن ذلك لأن غرضه الذي نحاه هو أن يخبر بكونه ممن يموت ويفنى ولم يخل بقصده الذي أجري إليه إجمال ما أجمل من كلامه فكذلك هنا الغرض الإخبار عن شدة قسوة قلوبهم وأنها مما لا يصغي إلى وعظ ولا يعرج على خير فسواء كانت كالحجارة أو أشد منها في أنه لا يحتاج إلى ذكر تفصيله (ورابعها) أن يكون أو بمعنى بل كما قال الله تعالى ﴿وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون﴾ ومعناه بل يزيدون وروي عن ابن عباس أنه قال كانوا مائة ألف وبعضا وأربعين ألف وأنشد الفراء:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى و صورتها أو أنت في العين أملح كما تكون أم المنقطعة في الاستفهام بمعنى بل يقول القائل أ ضربت عبد الله أم أنت متعنت أي بل أنت وقال الشاعر:

فو الله ما أدري أ سلمى تغولت

أم النوم أم كل إلى حبيب

معناه بل كل وقد طعن على هذا الجواب فقيل كيف يجوز أن يخاطبنا الله عز اسمه بلفظة بل وهي تقتضي الاستدراك والنقض للكلام الماضي والإضراب عنه وهذا غير سديد لأن الاستدراك أن أريد به الاستفادة أو التذكر لما لم يكن معلوما فلا يصح وإن أريد به الأخذ في الكلام الماضي واستئناف زيادة عليه فهو صحيح فالقائل إذا قال أعطيته ألفا بل ألفين لم ينقض الأول وكيف ينقضه والأول داخل في الثاني وإنما أراد عليه وإنما يكون ناقضا للثاني لو قال لقيت رجلا بل حمارا لأن الأول لا يدخل في الثاني على وجه وقوله تعالى ﴿أو أشد قسوة﴾ غير ناقض للأول لأنها لا تزيد على الحجارة إلا بأن يساويها وإنما تزيد عليها بعد المساواة (وخامسها) أن يكون بمعنى الواو كقوله تعالى ﴿أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم﴾ معناه وبيوت آبائكم قال جرير:

أثعلبة الفوارس أو رياحا

عدلت بهم طهية والخشابا

أراد ورياحا وقال أيضا:

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربه موسى على قدر

وقال توبة بن الحمير:

و قد زعمت ليلى بأني فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها

فإن قيل كيف يكون أو في الآية بمعنى الواو والواو للجمع والشيء إذا كان على صفة لم يجز أن يكون على خلافها أجيب عنه بأنه ليس يمتنع أن تكون قلوبهم كالحجارة في حالة وأشد من الحجارة في حالة أخرى فيصح المعنى ولا يتنافى وفائدة هذا الجواب أن قلوب هؤلاء مع قساوتها ربما لانت بعض اللين وكادت تصغي إلى الحق فتكون في هذا الحال كالحجارة التي ربما لانت وتكون في حال أخرى في نهاية البعد عن الخير فتكون أشد من الحجارة.

وجواب آخر وهو أن قلوبهم لا تكون أشد من الحجارة إلا بعد أن يكون فيها قسوة الحجارة لأن قولنا فلان أعلم من فلان إخبار بأنه زائد عليه في العلم الذي اشتركا فيه فلا بد من الاشتراك ثم الزيادة فلا تنافي هاهنا ثم فضل سبحانه الحجارة على القلب القاسي فقال ﴿وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار﴾ معناه أن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم القاسية فيتفجر منه أنهار الماء واستغنى بذكر الأنهار عن ذكر الماء وقيل المراد منه الحجر الذي كان ينفجر منه اثنتا عشرة عينا وقيل هو عام ﴿وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء﴾ يعني ومن الحجارة ما يخرج منه الماء فيكون عينا نابعة لا أنهارا جارية حتى يكون مخالفا للأول وقال الحسين بن علي المغربي الحجارة الأولى حجارة الجبال منها تتفجر الأنهار والثانية حجر موسى (عليه السلام) الذي كان يضربه فيخرج منه العيون فلا يكون تكرارا وقوله ﴿وإن منها لما يهبط من خشية الله﴾ الضمير في منها يرجع إلى الحجارة أي ومن الحجارة ما يهبط من خشية الله وعليه أكثر أهل التفسير وقيل يرجع إلى القلوب أي ومن القلوب ما يهبط من خشية الله أي تخشع وهي قلوب من آمن من أهل الكتاب فيكونون مستثنين من القاسية قلوبهم عن أبي مسلم ومن قال إن الضمير يرجع إلى الحجارة فإنهم اختلفوا في تأويله على وجوه (أحدها) ما روي عن مجاهد وابن جريج أن كل حجر تردى من رأس جبل فهو من خشية الله فمعناه أن الحجارة قد تصير إلى الحال التي ذكرها و لا تخشع ولا تلين لأنهم عارفون بصدق محمد ثم لا يؤمنون به فقلوبهم أقسى من الحجارة (وثانيها) ما قاله الزجاج إن الله تعالى أعطى بعض الجبال المعرفة فعقل طاعة الله نحو الجبل الذي تجلى الله عز وجل له حين كلم موسى فصار دكا وكما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية وإني لأعرفه الآن وهذا الوجه ضعيف لأن الجبل إذا كان جمادا فمحال أن يكون فيه معرفة الله وإن كان بنيته بنية الحي فإنه لا يكون جبلا وأما الخبر فإن صح فإن معناه أنه سبحانه أحياه فسلم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم أعاده حجرا ويكون معجزا له (عليه السلام) (وثالثها) أنه يدعو المتفكر فيه إلى خشية الله أو يوجب الخشية له بدلالته على صانعه لما يرى فيه من الدلالات والعجائب وأضاف الخشية إليه لأن التفكر فيه هو الداعي إلى الخشية كما قال جرير بن عطية:

وأعور من نبهان أما نهاره

فأعمى وأما ليلة فبصير

فجعل الصفة لليل والنهار وهو يريد صاحبه النبهاني الذي يهجوه بذلك من أجل أنه كان فيهما على ما وصفه به (ورابعها) أنه إنما ذكر ذلك على سبيل ضرب المثل أي كأنه يخشى الله سبحانه في المثل لانقياده لأمره ووجد منه ما لو وجد من حي عاقل لكان دليلا على خشية كقوله سبحانه ﴿فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض﴾ أي كأنه يريد لأنه ظهر فيه من الميل ما لو ظهر من حي لدل على إرادته الانقضاض ومثله قوله ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده﴾ وكما قال زيد الخيل:

بجمع تضل البلق في حجراته

ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

فجعل ما ظهر في الأكم من آثار الحوافر وقلة مدافعتها لها كما يدافع الحجر الصلد سجودا لها ولو كانت الأكم في صلابة الحديد حتى تمتنع على الحوافر لم يقل أنها تسجد للحوافر قال جرير:

لما أتى خبر الزبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشع أي كأنها كذلك

وقال جرير أيضا:

والشمس طالعة ليست بكاسفة

تبكي عليك نجوم الليل والقمرا

وكما قال سبحانه ﴿لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله﴾ أي لو كانت الجبال مما يخشع لشيء ما لرأيته خاشعا ويؤيد هذا الوجه قوله سبحانه ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس﴾.

و (خامسها) أن هبط يجوز أن يكون متعديا قال الشاعر:

ما راعني إلا جناح هابطا

على البيوت قوطه العلابطا

فاعمله بالقوط كما ترى ويكون على هبطت الشيء فهبط فمعناه يهبط غيره من خشية الله أي إذا رآه الإنسان خشع لطاعة خالقه إلا أنه حذف المفعول تخفيفا ولدلالة الكلام عليه ونسب الفعل إلى الحجر لأن طاعة رائية لخالقه سببها النظر إليه أي منها ما يهبط الناظر إليه أي يخضعه ويخشعه وقوله ﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ أيها المكذبون ب آياته الجاحدون نبوة نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقد ذكرناه قبل.