الآيات 67-71

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿67﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴿68﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴿69﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴿70﴾ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴿71﴾

القراءة:

قرأ حمزة وإسماعيل عن نافع وعباس عن أبي عمرو هزءا وكفوءا بالتخفيف والهمز في كل القرآن وقرأ حفص عن عاصم بضم الزاي والفاء غير مهموز وقرأ يعقوب ﴿هزوا﴾ بضم الزاي كفوا بسكون الفاء والباقون بالتثقيل والهمز.

الحجة:

قال أبو الحسن زعم عيسى أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه نحو العسر واليسر والحلم ومما يقوي هذه الحكاية أن ما كان على فعل من الجموع مثل كتب ورسل قد استمر فيه الوجهان حتى جاء ذلك في المعتل العين الواوي نحو سوك الأسحل قال:

وفي الأكف اللامعات سور

وحكى أبو زيد قول قوم وأما فعل في جمع أفعل نحو أحمر وحمر فكأنهم ألزموه الإسكان للفصل بين الجمعين وقد جاء فيه التحريك في الشعر فإذا كان الأمر على هذا وجب أن يكون ذلك مستمرا في نحو الكفء والهزء فإذا خفف الهمزة وثقل العين لزم أن تقلب الهمزة واوا فيقول هزوا ولم يكن له كفوا أحد وإن خفف فأسكن العين قال هزوا فأبقى الواو التي انقلبت عن الهمزة لانضمام ما قبلها وإن لم تكن ضمة العين في اللفظ لأنها مرادة في المعنى كما قالوا لقضو الرجل فأبقوا الواو ولم يردوا اللام التي هي ياء من قضيت لأن الضمة مرادة في المعنى وكذلك قالوا رضي زيد فيمن قال علم زيد فلم يردوا الواو التي هي لام لزوال الكسرة لأنها مقدرة مرادة وإن كانت محذوفة من اللفظ وكذلك تقول هزوا وكفوا فتثبت الواو وإن كنت حذفت الضمة الموجبة لاجتلابها وإذا كان الأمر على هذا فقراءة من قرأ بالضم وتحقيق الهمز في الجواز والحسن كقراءة من قرأ بالإسكان وقلب الهمزة واوا لأنه تخفيف قياسي وقد روى أبو زيد عن أبي عمرو أنه خير بين التخفيف والتثقيل.

اللغة:

البقرة اسم للمؤنث من هذا الجنس واسم الذكر منه الثور وهذا يخالف صيغة المذكر منه صيغة الأنثى كالحمل والناقة والرجل والمرأة والجدي والعناق وأصل البقر الشق يقال بقرت بطنه أي شققته وسمي البقر بقرا لأن من شأنه شق الأرض بالكراب والهزء اللعب والسخرية يقال هزأت به هزءا ومهزأة وأعوذ بالله ألجأ إلى الله عوذا وعياذا وحقيقة العياذ استدفاع ما يخاف من شره بما يطمع ذلك منه والجهل نقيض العلم وقيل هو نقيض الحلم والصحيح أنه اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به كما أن العلم اعتقاد الشيء على ما هو والتبيين التعريف وأصله من البين وهو الفراق فكل من بين شيئا فقد ميزه عما يلتبس به حتى يعرفه غيره قال سيبويه أبان الشيء وأبنته وبين وبينته واستبان واستبنته والمعنى واحد والفارض الكبيرة المسنة يقال فرضت البقرة تفرض فروضا إذا أسنت قال الشاعر:

لعمري قد أعطيت جارك فارضا

تساق إليه ما تقوم على رجل

وقيل إن الفارض التي ولدت بطونا كثيرة فيتسع لذلك جوفها لأن معنى الفارض في اللغة الواسع الضخم وهو قول بعض المتأخرين واستشهد بقول الراجز:

يا رب ذي ضغن علي فارض

له قروء كقروء الحائض

ويقال لحيته فارضة أي عظيمة والبكر الصغيرة التي لم تحمل والبكر من بني آدم ومن البهائم ما لم يفتحله الفحل والبكر من كل شيء أوله والبكر التي ولدت واحدا وبكرها أول أولادها قال:

يا بكر بكرين ويا خلب الكبد

أصبحت مني كذراع من عضد

وضربة بكر أي قاطعة لا تنثني وحدث ابن عائشة عن أبيه عن جده قال كانت ضربات علي بن أبي طالب (عليه السلام) أبكارا كان إذا اعتلى قد وإذا اعترض قط ذكره ابن فارس في مجمل اللغة والبكر بفتح الباء الفتي من الإبل والعوان دون المسنة وفوق الصغيرة وهي النصف التي ولدت بطنا أو بطنين قال الفراء يقال من العوان عونت المرأة تعوينا إذا بلغت ثلاثين سنة ومنه قيل للحرب عوان إذا لم يكن أول حرب بين القوم وكانوا قد قاتلوا قبله وبين اسم يستعمل على ضربين مصدر وظرف قال أبو علي وهما عندي وجميع بابهما يرجعان إلى أصل واحد وهو الافتراق والانكشاف وسيأتيك بيانه في الأعراب إن شاء الله واللون عرض يتعاقب على الجوهر تعاقب المتضاد وهو عبارة عما إذا وجد حصلت به الجواهر على هيئة مخصوصة لولاه لما حصلت على تلك الهيأة ولا يدخل تحت مقدور العباد فاقع لونها أي شديدة الصفرة يقال أصفر فاقع وأحمر ناصع وأخضر ناضر وأحمر قانىء وأبيض يقق ولهق ولهاق وأسود حالك وحلوك وحلكوك وغربيب ودجوجي فهذه كلها صفات مبالغة في الألوان وقيل إنه أراد بصفراء هاهنا سوداء شديدة السواد كما يقال صفراء أي سوداء وقال الشاعر:

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هن صفر أولادها كالزبيب

والأول أصح فإن الإبل إن وصفت به فلا يوصف البقر به وأيضا فإن السواد لا يوصف بالفقوع وإنما يوصف بالحلوكة وغيرها على ما ذكرناه والبقر جمع بقرة وكذلك الباقر جمع كالجامل جمع جمل قال الأعشى:

وما ذنبه إن عافت الماء باقر

وما إن تعاف الماء إلا ليضربا

وقال آخر:

لهم جامل لا يهدأ الليل سامره

أي جمال ونحو هذا عندهم اسم مفرد مصوغ للكثرة كاسم الجنس ومثله العبيد والكليب والضئين في جمع عبد وكلب وضان وقوله لا ذلول يقال للدابة قد ذللها الركوب والعمل دابة ذلول بين الذل بكسر الذال ويقال في مثله من بني آدم رجل ذليل بين الذل بضم الذال والذلة بكسرها والمذلة والإثارة إظهار الشيء بالكشف وأثار الأرض أي كربها وقلبها والحرث كل أرض ذللته للزرع قال الخليل الحرث قذف البذر في الأرض للازدراع والزرع الإنبات والإنماء قال عز اسمه ﴿أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون﴾ مسلمة مبرأة من العيوب مفعلة من السلامة الشية اللون في المشي يخالف عامة لونه والوشي خلط اللون باللون و﴿لا شية فيها﴾ أي لا وضح فيها يخالف لون جلدها يقال وشيت الثوب أشيه شية ووشيا ومنه قيل لمن يسعى بالرجل إلى السلطان واش لكذبه عليه عنده وتحسينه كذبه بالأباطيل ويقال منه وشيت به وشاية قال كعب بن زهير:

تسعى الوشاة بجنبيها وقولهم

إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول

يعني أنهم يتقولون بالأباطيل ويقولون إنه إن لحق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قتله والذبح فري الأوداج وذلك في البقر والغنم والنحر في الإبل ولا يجوز فيها عندنا غير ذلك وفيه خلاف بين الفقهاء وقيل للصادق (عليه السلام) إن أهل مكة يذبحون البقرة في اللبة فما ترى في أكل لحومها فسكت هنيهة ثم قال قال الله تعالى ﴿فذبحوها وما كادوا يفعلون﴾ لا تأكل إلا ما ذبح من مذبحه.

الإعراب:

حذفت الفاء من قوله ﴿قالوا أتتخذنا هزوا﴾ لاستغناء ما قبله من الكلام عنه وحسن الوقف على قوله ﴿أن تذبحوا بقرة﴾ كما حسن إسقاطها من قوله قال ﴿فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا﴾ ولم يقل فقالوا ولو قيل بالفاء لكان حسنا ولو قلت قمت ففعلت لم يجز إسقاط الفاء لأنها عطف لا استفهام يحسن السكوت عليه وقوله ﴿هزوا﴾ لا يخلو من أحد أمرين (أحدهما) أن يكون المضاف محذوفا لأن الهزء حدث والمفعول الثاني من تتخذ يكون الأول نحو قوله ﴿لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء﴾ (والثاني) أن يكون الهزء بمعنى المهزوء به مثل الصيد في قوله تعالى ﴿أحل لكم صيد البحر﴾ ونحوه وكما يقال رجل رضي أي مرضي أقام المصدر مقام المفعول وأما قوله تعالى ﴿لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا﴾ فلا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف لأن الدين ليس بعين وقوله ﴿أعوذ بالله﴾ أصله أعوذ فنقلت الضمة من الواو إلى الساكن قبلها من غير استثقال لذلك غير أنه لما أعلت عين الماضي لتحركها وانفتاح ما قبلها أعلت عين المضارع أيضا ليجري الباب على سنن واحد وكذلك القول في أعاذ يعيذ واستعاذ يستعيذ والأصل أعوذ يعوذ واستعوذ يستعوذ وقوله ﴿لا فارض ولا بكر﴾ قال الأخفش ارتفع ولم ينتصب كما ينتصب المنفي لأنه صفة لبقرة وقوله ﴿عوان﴾ مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف كأنه قال هي عوان وقال الزجاج ارتفع فارض بإضمار هي أي هي لا فارض ولا بكر قال وإنما جاز ﴿بين ذلك﴾ وبين لا يكون إلا مع اثنين أو أكثر لأن ذلك ينوب عن الحمل تقول ظننت زيدا قائما فيقول القائل قد ظننت ذاك وظننت ذلك قال أبو علي لا يخلو ذلك فيما ذكره من قولهم ظننت ذلك من أن يكون إشارة إلى المصدر كما ذهب إليه سيبويه أو يكون إشارة إلى أحد مفعولي ظننت وأن تكون نائبة عن الجملة كما قاله أبو إسحاق ولا يجوز أن يكون إشارة إلى أحد المفعولين لأنه لو كان كذلك للزم أن يذكر الآخر كما لو أنك ذكرت اسم المشار إليه للزم فيه ذلك وكما أنك إذا ذكرت المبتدأ لزمك ذكر الخبر أو يعلم من الحال ما يقوم مقام ذكرك له ولا يجوز أن تكون نائبة عن الجملة هنا ولا إشارة إليها كما لم ينب عن الجملة في غير هذا الموضع من المواضع التي تقع فيها الجملة نحو صلة الذي ووصف النكرات فثبت أن ذاك في قولهم ظننت ذاك إشارة إلى المصدر الذي هو الظن ولا يجوز أن يقع اسم مفرد موقع جملة ولو كان سائغا أن ينوب ذلك عن الحمل لما جاز وقوعه هنا لأن هذا الموضع ليس من مواضع الجمل أ لا ترى أن ذلك إشارة إلى ما تقدم مما دل عليه قوله ﴿لا فارض ولا بكر﴾ وهو البكارة والفروض فإنما يدل قوله ذلك عليهما فلو كان واقعا موقع جملة ما دل عليهما لأن الجملة يسند فيها الحدث إلى المحدث عنه وليس واحد من الفروض والبكارة يسند إلى الآخر أ لا ترى أن المعنى بين هذين الوصفين وهذا واضح واعلم أن الاسم الذي يضاف إليه بين لا يخلو من أن يكون دالا على واحد أو على أكثر من الواحد فإذا كان دالا على الواحد غير دال على أكثر منه عطف عليه اسم آخر لما ذكرنا من أن أصله الافتراق فكما يمتنع أن يقول افتراق واجتماع زيد حتى تضيف إليه ما يزيد به على الإفراد لذلك لا تقول بين زيد حتى تضيف إليه آخر بالواو دون غيرها من الحروف العاطفة وإذا كان الاسم دالا على الكثرة وإن كان مفردا جاز أن يضاف بين إليه وأما قوله ﴿عوان بين ذلك﴾ فإنما أضيف فيه بين إلى ذلك من حيث جاز إضافته إلى القوم وما أشبه ذلك من الأسماء التي تدل على الكثرة وإنما جاز أن يكون قولنا ذلك يراد به مرة الانفراد ومرة الجمع والكثرة لمشابهته الموصولة كالذي وما أ لا ترى أن البابين يشتبهان في دلالة كل واحد منهما على غير شيء بعينه فجاز أن يراد به الواحد مرة وأكثر من الواحد مرة ويدل على ما ذكرناه من قصدهم بذلك الجمع وما زاد على الواحد أن رؤبة لما قال له أبو عبيدة في قوله:

فيه خطوط من سواد وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق.

إن أردت الخطوط وجب أن تقول كأنها وإن أردت السواد والبلق وجب أن تقول كأنهما قال أردت كان ذلك فعلم به أنهم يقصدون ذلك غير المفرد ويدل عليه أيضا قول القائل:

إن للخير وللشر مدى

وكلا ذلك وجه وقبل ألا ترى أن كلا لا تضاف إلى المفرد فلو لا أن المراد بذلك غير الإفراد لما أضيف كلا إليه فكذلك القول في ﴿عوان بين ذلك﴾ والمراد بذلك الزيادة على الواحد أ لا ترى أنه إشارة إلى ما تقدم من قوله مما دل على الفروض والبكارة وموضع ما من قوله ﴿ما هي﴾ و﴿ما لونها﴾ رفع لأنه خبر المبتدأ لأن تأويله الاستفهام أي أي شيء هو وأي لون لونها ﴿قال إنه يقول﴾ إنها ما بعد القول من باب إن مكسورة أبدا كأنك لم تذكر القول في صدر كلامك وإنما وقعت قلت في كلام العرب على أن يحكى بها ما كان كلاما يقوم بنفسه قبل دخولها فيؤدي مع ذكرها ذلك اللفظ تقول قلت زيد منطلق كأنك حكيت زيد منطلق وكذلك أن زيدا منطلق إذا حكيته تقول قلت إن زيدا منطلق وقوم من العرب وهم بنو سليم يجعلون باب قلت كباب ظننت فيقولون قلت زيدا منطلقا وقوله ﴿فاقع لونها﴾ ارتفع لونها بأنه فاعل فاقع وهو صفة البقرة مثل صفراء وكذلك ﴿تسر الناظرين﴾ جملة مرفوعة الموضع بكونها صفة لبقرة ويقال فقع لونه فقوعا وفقع يفقع إذا خلصت صفرته وقوله ﴿إن البقر تشابه علينا﴾ كل جمع يكون واحده بالهاء.

نحو البقر والنخل والسحاب فإنه يؤنث ويذكر قال الله تعالى ﴿كأنهم أعجاز نخل خاوية﴾ وفي موضع آخر نخل منقعر والتذكير الغالب وقوله ﴿تثير الأرض﴾ في موضع رفع بكونه صفة لذلول وهو داخل في معنى النفي أي بقرة ليست بذلول مثيرة للأرض ولا ساقية للحرث ومسلمة صفة لبقرة أيضا و﴿لا شية فيها﴾ جملة في موضع رفع أيضا بأنها صفة البقرة وشية مصدر من وشيت وأصلها وشي فلما أسقطت الواو منها عوضت الهاء في آخرها قالوا وشيته شية كما قالوا وزنته زنة ووصلته صلة فوزنها علة ﴿قالوا الآن﴾ وفيه وجوه أجودها إسكان اللام من الآن وحذف الواو من اللفظ ويجوز قال لأن على إلغاء الهمزة وفتح اللام من الآن وترك الواو محذوفة لالتقاء الساكنين ولا يعتد بفتح اللام ويجوز قالوا لأن بإظهار الواو لحركة اللام لأنهم إنما حذفوا الواو لسكونها فلما تحركت ردوها والأجود في العربية حذفها ولا ينبغي أن يقرأ إلا بما وردت به رواية صحيحة فإن القراءة سنة متبعة قال أبو علي إنما بني الآن لتضمنه معنى الحرف وهو تضمن معنى التعريف لأن التعريف حكمه أن يكون بحرف وليس تعرفه بما فيه من الألف واللام لأنه لو كان كذلك للزم أن يكون قبل دخول اللام عليه نكرة كرجل والرجل وكذلك الذي فإن فيه الألف واللام وليس تعرف الاسم بهما إنما تعرفه بغيرهما وهو كونه موصولا مخصوصا ولو كان تعرفه باللام لوجب أن يكون سائر الموصولات المتعرفة بالصلات نحو من وما غير متعرفة ويقوي زيادة اللام ما رواه المبرد عن المازني قال سألت الأصمعي عن قول الشاعر:

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

لم أدخل اللام قال أدخله زيادة للضرورة كقول الآخر:

بإعدام العمرو عن أسيرها

وأنشد ابن الأعرابي:

يا ليت أم العمرو كانت صاحبي

مكان من أنشأ على الركائب

فكما أن اللام في الذي وفي هذه الحكاية زائدة كذلك في الآن زائدة وقوله ﴿وما كادوا يفعلون﴾ كاد يدل على مقاربة مباشرة ويفعلون في موضع نصب بأنه خبر كاد والفصيح لا يدخل عليه أن لأن أن حرف يركب مع الفعل فيقوم مقام المصدر وإنما يسند إلى أن أفعال غير ثابتة ولا مستقرة مثل الطمع والرجاء نحو عسى أن تفعل ودليل على ذلك أن أن لا تدخل على فعل الحال بل على ما يتوقع في المستأنف فلهذا كانت أن لازمة لعسى ولا يلزم كاد لأن كاد قريب من الحال وقد استعمل كاد مع أن في الشعر أنشد الأصمعي:

كادت النفس أن تفيض عليه

إذ ثوى حشو ريطة وبرود.

القصة:

كان السبب في أمر الله تعالى بذبح البقرة فيما رواه العياشي مرفوعا إلى الرضا (عليه السلام) أن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه وطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى سبط آل فلان قتل فأخبرنا من قتله قال ائتوني ببقرة ﴿قالوا أتتخذنا هزوا﴾ الآية ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم ﴿قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك﴾ أي لا صغيرة ولا كبيرة إلى قوله ﴿قالوا الآن جئت بالحق﴾ فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا بملء مسكها ذهبا فجاؤوا إلى موسى فقالوا له قال فاشتروها قال وقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بعض أصحابه أن هذه البقرة ما شأنها فقال إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه وأنه اشترى سلعة فجاء إلى أبيه فوجده نائما والإقليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك واستيقظ أبوه فأخبره فقال له أحسنت خذ هذه البقرة فهي لك عوض لما فاتك قال فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) انظروا إلى البر ما بلغ بأهله وقال ابن عباس كان القتيل شيخا مثريا قتله بنو أخيه وألقوه على باب بعض الأسباط ثم ادعوا عليهم القتل فاحتكموا إلى موسى (عليه السلام) فسأل من عنده في ذلك علم فقالوا أنت نبي الله وأنت أعلم منا فأوحى الله تعالى إليه أن يأمرهم بذبح بقرة فأمرهم موسى (عليه السلام) أن يذبحوا بقرة ويضرب القتيل ببعضها فيحيي الله القتيل فيبين من قتله وقيل قتله ابن عمه استبطاء لموته فقتله ليرثه وقيل إنما قتله ليتزوج بنته وقد خطبها فلم ينعم له وخطبها غيره من خيار بني إسرائيل فأنعم له فحسده ابن عمه الذي لم ينعم له فقعد له فقتله ثم حمله إلى موسى فقال يا نبي الله هذا ابن عمي قد قتل فقال موسى من قتله قال لا أدري وكان القتل في بني إسرائيل عظيما فعظم ذلك على موسى (عليه السلام) وهذا هو المروي عن الصادق (عليه السلام).

المعنى:

هذه الآيات معطوفة على ما تقدمها من الآيات الواردة في البيان لنعم الله تعالى على بني إسرائيل ومقابلتهم لها بالكفران والعصيان فقال واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي الذي أخذته عليكم بالطاعة ﴿إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا﴾ قال قوم موسى له أ تسخر بنا حيث سألناك عن القتيل فتأمرنا بذبح بقرة وإنما قالوا ذلك لتباعد ما بين الأمرين في الظاهر مع جهلهم بوجه الحكمة فيما أمرهم به لأن موسى (عليه السلام) أمرهم بالذبح ولم يبين لهم أن الذبح لأي معنى فقالوا أي اتصال لذبح البقرة بما ترافعنا فيه إليك فهذا استهزاء بنا ﴿قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين﴾ أي معاذ الله أن أكون من المستهزءين وإنما قال ﴿من الجاهلين﴾ ليدل على أن الاستهزاء لا يصدر إلا عن جاهل فإن من استهزأ بغيره لا يخلو إما أن يستهزىء بخلقته أو بفعل من أفعاله فأما الخلقة فلا معنى للاستهزاء بها وأما الفعل فإذا كان قبيحا فالواجب أن ينبه فاعله على قبحه لينزجر عنه فأما إن يستهزىء به فلا فالاستهزاء على هذا يكون كبيرة لا يقع إلا عن جاهل به أو محتاج إليه فإذا قيل لم أمروا بذبح البقرة دون غيرها فقد قيل فيه لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه فيزول ما كان في نفوسهم من عبادته وإنما أحيا الله القتيل بقتل حي ليكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها فلما علموا أن ذبح البقرة فرض من الله تعالى سألوا عنها فبدأوا بسنها فقالوا ﴿ادع لنا ربك﴾ أي سل من أجلنا ربك ﴿يبين لنا ما هي﴾ ولم يظهر في السؤال أن المسئول عنه سن البقرة وإنما ظهر ذلك في الجواب ﴿قال﴾ موسى (عليه السلام) ﴿إنه يقول﴾ أي إن الله عز اسمه يقول ﴿إنها بقرة لا فارض ولا بكر﴾ أي ليست بكبيرة هرمة ولا صغيرة ﴿عوان بين ذلك﴾ أي هي وسط بين الصغيرة والكبيرة وهي أقوى ما يكون وأحسن من البقر والدواب عن ابن عباس وقيل وسط ولدت بطنا أو بطنين عن مجاهد ﴿فافعلوا ما تؤمرون﴾ أي اذبحوا ما أمرتم بذبحه فلما بين سبحانه سن البقرة سألوا عن لونها ﴿قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها﴾ أي سل ربك يبين لنا ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها ﴿قال﴾ موسى ﴿إنه﴾ سبحانه وتعالى ﴿يقول إنها بقرة صفراء﴾ حتى قرنها وظلفها أصفران عن الحسن وسعيد بن جبير ﴿فاقع لونها﴾ أي شديدة صفرة لونها وقيل خالص الصفرة وقيل حسن الصفرة وقوله ﴿تسر الناظرين﴾ أي تعجب الناظرين وتفرحهم بحسنها عن قتادة وغيره وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال من لبس نعلا صفراء لم يزل مسرورا حتى يبليها كما قال الله تعالى ﴿صفراء فاقع لونها تسر الناظرين﴾ ولما بين سبحانه سن البقرة ولونها سألوا عن صفتها ف ﴿قالوا﴾ يا موسى ﴿ادع لنا ربك يبين لنا ما هي﴾ أي من العوامل أم من السوائم ﴿إن البقر تشابه علينا﴾ أي اشتبه علينا صفة البقرة التي أمرنا الله بذبحها ﴿وإنا إن شاء الله لمهتدون﴾ إلى صفة البقرة بتعريف الله إيانا وبما يشاؤه لنا من اللطف والزيادة في البيان وروى ابن جريج وقتادة عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنهم أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم وأيم الله لو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد ﴿قال﴾ يعني موسى (عليه السلام) ﴿إنه﴾ يعني الله تعالى ﴿يقول أنها بقرة﴾ أي البقرة التي أمرتم بذبحها ﴿لا ذلول تثير الأرض﴾ أي لم يذللها العمل بإثارة الأرض بأظلافها ﴿ولا تسقي الحرث﴾ أي لا يستقي عليها الماء فتسقي الزرع ﴿مسلمة﴾ أي بريئة من العيوب عن قتادة وعطاء وقيل مسلمة من الشية ليس لها لون يخالف لونها عن مجاهد وقيل سليمة من آثار العمل لأن ما كان من العوامل لا يخلو من آثار العمل في قوائمه وبدنه وقال الحسن أنها كانت وحشية ﴿لا شية فيها﴾ قال أهل اللغة لا وضح فيها يخالف لون جلدها وقيل لا لون فيها سوى لونها عن قتادة ومجاهد ﴿قالوا الآن جئت بالحق﴾ أي ظهر لنا الحق الآن وهي بقرة فلان وهذا يدل على أنهم جوزوا أنه قبل ذلك لم يجيء بالحق على التفصيل وإنما أتى به على وجه الجملة وقال قتادة الآن بينت الحق وهذا يدل على أنه كان فيهم من يشك في أن موسى (عليه السلام) ما بين الحق ﴿فذبحوها﴾ يعني ذبحوا البقرة على ما أمروا به ﴿وما كادوا يفعلون﴾ أي قرب أن لا يفعلوا ذلك مخافة اشتهار فضيحة القاتل وقيل كادوا لا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها فقد حكي عن ابن عباس أنهم اشتروها بملء جلدها ذهبا من مال المقتول وعن السدي بوزنها عشر مرات ذهبا قال عكرمة وما ثمنها إلا ثلاثة دنانير ونذكر هاهنا فصلا موجزا ينجذب إلى الكلام في أصول الفقه اختلف العلماء في هذه الآيات فمنهم من ذهب إلى أن التكليف فيها متغاير وأنهم لما قيل لهم اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلا ذبح أي بقرة شاءوا من غير تعيين بصفة ولو أنهم ذبحوا أي بقرة اتفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر فلما لم يفعلوا كان المصلحة أن يشدد عليهم التكليف ولما راجعوا المرة الثانية تغيرت مصلحتهم إلى تكليف ثالث ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر فمنهم من قال في التكليف الأخير أنه يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدمت فعلى هذا القول يكون التكليف الثاني والثالث ضم تكليف إلى تكليف زيادة في التشديد عليهم لما فيه من المصلحة ومنهم من قال إنه يجب أن يكون بالصفة الأخيرة فقط دون ما تقدم وعلى هذا القول يكون التكليف الثاني نسخا للأول والتكليف الثالث نسخا للثاني وقد يجوز نسخ الشيء قبل الفعل لأن المصلحة تجوز أن يتغير بعد فوات وقته وإنما لا يجوز نسخ الشيء قبل وقت الفعل لأن ذلك يؤدي إلى البداء وذهب آخرون إلى أن التكليف واحد وأن الأوصاف المتاخرة هي للبقرة المتقدمة وإنما تأخر البيان وهو مذهب المرتضى قدس الله روحه واستدل بهذه الآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة قال إنه تعالى لما كلفهم ذبح بقرة قالوا لموسى (عليه السلام) ﴿ادع لنا ربك يبين لنا ما هي﴾ فلا يخلو قولهم ما هي من أن يكون كناية عن البقرة المتقدم ذكرها أو عن التي أمروا بها ثانيا والظاهر من قولهم ما هي يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها لأنه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى فيستفهموا عنها وإذا صح ذلك فليس يخلو قوله ﴿إنها بقرة لا فارض ولا بكر﴾ من أن يكون الهاء فيه كناية عن البقرة الأولى أو عن غيرها وليس يجوز أن يكون كناية عن بقرة ثانية لأن الظاهر يقتضي أن تكون الكناية متعلقة بما تضمنه سؤالهم ولأنه لو لم يكن الأمر على ذلك لم يكن جوابا لهم وقول القائل في جواب من سأله ما كذا وكذا أنه بالصفة الفلانية صريح في أن الهاء كناية عما وقع السؤال عنه هذا مع قولهم ﴿إن البقر تشابه علينا﴾ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا وقد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبين ولو كان الأمر على ما ذهب إليه القوم فلم لم يقل لهم وأي تشابه عليكم وإنما أمرتم في الابتداء بذبح بقرة أي بقرة كانت وفي الثاني بما يختص بالسن المخصوص وفي الثالث بما يختص باللون المخصوص من أي البقر كان وأما قوله ﴿فذبحوها وما كادوا يفعلون﴾ فالظاهر أن ذمهم مصروف إلى تقصيرهم أو تأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التام وهو غير مقتض ذمهم على ترك المبادرة في الأول إلى ذبح بقرة فلا دلالة في الآية على ذلك.