الآيـة 58

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿58﴾

القراءة:

قرأ أبو جعفر ونافع يغفر بالياء مضمومة والباقون ﴿نغفر لكم﴾ بالنون وهو الاختيار لأنه أشبه بما تقدم من قوله وظللنا وأنزلنا ولأن أكثر القراء عليه وأجمع القراء على إظهار الراء عند اللام إلا ما روي عن أبي عمرو وفي رواية اليزيدي الاستجادة من إدغام الراء في اللام واتفق القراء على ﴿خطاياكم﴾ هنا وإن اختلفوا في الأعراف ونوح فقرأ بعضهم هناك خطيئاتهم وذلك لأن اللتين في الأعراف ونوح كتبتا في المصحف بغير ألف وهاهنا كتبت بالألف.

اللغة:

الدخول والولوج والاقتحام نظائر والفرق بين الدخول والاقتحام أن الاقتحام دخول على صعوبة وفي الأمر دخل أي فساد ودخل أمره إذا فسد وفلان دخيل في بني فلان إذا كان من غيرهم وأطلعته على دخلة أمري إذا بثثته مكتومك وفلان مدخول إذا كان في عقله أو في حسبه دخل والقرية والبلدة والمدينة نظائر قال أبو العباس وأصله الجمع وقريت الماء في الحوض أقريه قريا وقريت الضيف أقريه قرى والمقراة الجفنة التي يعد فيها الطعام للأضياف قال:

عظام المقاري جارهم لا يفزع

وقال الخليل القرية والقرية لغتان والكسر لغة يمانية والقرى الظهر من كل شيء وجمعه الأقراء والسجود شدة الانحناء ومنه السجد من النساء وهن الفاترات الأعين قال الشاعر:

ولهوي إلى حور المدامع سجد

وقال الآخر:

ترى الأكم فيها سجدا للحوافر وحطة مصدر مثل ردة وجدة من رددت وجددت قال الخليل الحط وضع الأحمال عن الدواب والحط والوضع والخفض نظائر والحط الحدر من العلو قال امرىء القيس:

كجلمود صخر حطه السيل من عل وجارية محطوطة المتنين ممدودة حسنة والغفران والعفو والصفح نظائر يقال غفر الله له غفرانا أي ستر الله على ذنوبه والغفر التغطية وثوب ذو غفر إذا كان له زتبر يستر نسجه ويقال المغفر لتغطيته العنق والغفيرة والمغفرة بمعنى والغفارة خرقة تلف على سية القوس والمغفور والمغفار صمغ العرفط وأغفر الشجر إذا ظهر ذلك فيه ومنه الحديث أنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) دخل على عائشة فقالت يا رسول الله أكلت مغافير يعني هذا الصمغ ومنهم من يقول مغاثير كما قيل جدث وجدف ويقال جاءوا والجماء الغفير وجاءوا جما غفيرا وجماء الغفير أي مجتمعين جمعا يغطي الأرض والغفر ولد الأروية لأنه يأوي الجبال ويتستر عن الناس ويقال أصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ أي أستر له وأصل الباب الستر وحد المغفرة ستر الخطيئة برفع العقوبة والخطيئة والزلة والمعصية نظائر يقال خطأ الشيء خطأ إذا لم يرده وأصابه وأخطأه إخطاء إذا أراده فلم يصبه والأول خاطىء والثاني مخطىء والخطيئات جمع خطيئة مثل صحيفات جمع صحيفة وسفينات جمع سفينة والخطايا أيضا جمع خطيئة والمحسن الفاعل للإحسان أو الفاعل للحسن يقال أحسن إلى غيره وأحسن في فعله والفرق بينهما أن أحسن إليه لا يقال إلا في النفع فلا يقال أحسن الله إلى أهل النار بتعذيبهم ويقال أحسن في تعذيبهم بالنار بمعنى أحسن في فعله وتدبيره ويقال امرأة حسناء ولا يقال رجل أحسن وحد الحسن ومن طريق الحكمة هو الفعل الذي يدعو إليه العقل وضده القبيح وهو فعل الذي يزجر عنه العقل وحد الإحسان هو النفع الحسن وحد الإساءة هو الضرر القبيح وهذا إنما يصح على مذهب من يقول إن الإنسان يكون محسنا إلى نفسه ومسيئا إليها ومن لم يذهب إليه يزيد فيه الواصل إلى الغير مع قصده إلى ذلك والأولى في حد الحسن أن يقال هو الفعل الذي إذا فعله العالم به على وجه لم يستحق الذم.

الإعراب:

حيث ظرف مكان مبني على الضم وذكرنا في بنائه فيما قبل والجملة بعده في تقدير المضاف إليه ومما يسأل فيه أن يقال كيف بني على الضم وهو مضاف إلى الجملة على التشبيه بما حذف منه الإضافة وهو قبل وبعد وجوابه أن حيث مع إضافته إلى الجملة لا يمتنع أن يكون شبه قبل ونحوه قائما فيه لأنه قد منع الإضافة إلى المفرد وإن كان قد أضيف إلى الجملة وحق الإضافة أن تقع إلى المفرد وإذا كان كذلك فكان المضاف إليه محذوف منه كقبل وبعد هذا على قول من بناه على الضم ومن بناه على غير الضم فقال حيث فلا يدخل عليه هذا السؤال ولا يجوز في القرآن إلا الضم وأما حطة فإنما ارتفع على الحكاية وقال الزجاج تقديره مسألتنا حطة أي حط ذنوبنا عنا وقيل تقديره دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا ولو جاز قراءته بالنصب لكان وجهه في العربية حط عنا ذنوبنا حطة كما يقال سمعا وطاعة أي أسمع سمعا وأطيع طاعة ومعاذ الله أي نعوذ بالله معاذا وقوله ﴿نغفر لكم﴾ مجزوم لأنه جواب الأمر وإنما انجزم بالشرط فإن المعنى أن تقولوا نغفر لكم فحذف الشرط لدلالة الجزاء عليه ووقوع الأمر في الكلام وطوله به وحسن حذفه معه لأنه صار كالمعاقب له من حيث اجتمعا في أنهما غير موجبين وغير خبرين وهذا كما يحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه وقد يحذف الجزاء أيضا لدلالة الشرط عليه في نحو قولهم أنت ظالم إن فعلت كما يحذف خبر المبتدأ لدلالة المبتدأ عليه قال سيبويه كان أصل خطايا خطائي مثل خطائع فأبدل من الياء همزة فصار خطائي مثل خطاعع فتجتمع همزتان فقلبت الثانية ياء فصار خطائي مثل خطاعي ثم قلبت الياء والكسرة إلى الألف والفتحة فقيل خطاءا مثل خطاعا كما فعل بمداري فقيل مدارى ثم استثقل همزة بين ألفين لأن الهمزة مجانسة للألفات فكان كأنما اجتمعت ثلاث ألفات فأبدلت الهمزة ياء فقيل خطايا وقال الخليل أصل خطايا فعايل فقلبت إلى فعالي ثم قلب بعد على ما تبينت في المذهب الأول وإنما أعل هذا الإعلال لأن الهمزة التي بعد الألف عارضة غير أصلية وتقول في جمع مرآة مرائي فلا تعل لأن الهمزة عين الفعل.

المعنى:

أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية هاهنا بيت المقدس ويؤيده قوله في موضع آخر ادخلوا الأرض المقدسة وقال ابن زيد أنها أريحا قرية قرب بيت المقدس وكان فيها بقايا من قوم عاد وهم العمالقة ورأسهم عوج بن عنق يقول اذكروا ﴿إذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم﴾ أي أين شئتم ﴿رغدا﴾ أي موسعا عليكم مستمتعين بما شئتم من طعام القرية بعد المن والسلوى وقد قيل أن هذه إباحة لهم منه لغنائمها وتملك أموالها إتماما للنعمة عليهم ﴿وادخلوا الباب﴾ يعني الباب الذي أمروا بدخوله وقيل هو باب حطة من بيت المقدس وهو الباب الثامن عن مجاهد وقيل باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل وقال قوم هو باب القرية التي أمروا بدخولها قال أبو علي الجبائي والآية على قول من يزعم أنه باب القبة أدل منها على قول من يزعم أنه باب القرية لأنهم لم يدخلوا القرية في حياة موسى وآخر الآية يدل على أنهم كانوا يدخلون هذا الباب على غير ما أمروا به في أيام موسى لأنه قال ﴿فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم﴾ والعطف بالفاء التي هي للتعقيب من غير تراخ يدل على أن هذا التبديل منهم كان في إثر الأمر فدل ذلك على أنه كان في حياة موسى وقوله ﴿سجدا﴾ قيل معناه ركعا وهو شدة الانحناء عن ابن عباس وقال غيره أن معناه ادخلوا خاضعين متواضعين يدل عليه قول الأعشى:

يراوح من صلوات المليك

طورا سجودا وطورا جؤارا

وقيل معناه ادخلوا الباب فإذا دخلتموه فاسجدوا لله سبحانه شكرا عن وهب وقوله ﴿حطة﴾ قال الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم معناه حط عنا ذنوبنا وهو أمر بالاستغفار وقال ابن عباس أمروا أن يقولوا هذا الأمر حق وقال عكرمة أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب وكل واحد من هذه الأقوال مما يحط الذنوب فيصح أن يترجم عنه بحطة وروي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال نحن باب حطتكم وقوله ﴿نغفر لكم خطاياكم﴾ أي نصفح و نعف عن ذنوبكم ﴿وسنزيد المحسنين﴾ أي وسنزيدهم على ما يستحقونه من الثواب تفضلا كقوله تعالى ﴿ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله﴾ وقيل أن المراد به أن يزيدهم الإحسان على ما سلف من الإحسان بإنزال المن والسلوى وتظليل الغمام وغير ذلك.