الآيات 146-147

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ﴿146﴾ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿147﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة غير عاصم الرشد بفتح الراء والشين والباقون ﴿الرشد﴾ بضم الراء وسكون الشين.

الحجة:

هما لغتان ويحكى أن أبا عمرو فرق بينهما فقال الرشد الصلاح والرشد في الدين مثل قوله مما علمت رشدا وتحروا رشدا فهذا في الدين وقوله فإن آنستم منهم رشدا وهو في إصلاح المال والحفظ له وقد جاء الرشد في غير الدين قال:

حنت إلى نعم الدهناء فقلت لها

أمي بلالا على التوفيق والرشد.

اللغة:

الرشد سلوك طريق الحق يقال رشد يرشد رشادا ورشد يرشد رشدا ورشدا وضده الغي غوي يغوى غيا وغواية والحبوط سقوط العمل حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل وأصله الفساد من الحبط وهو داء يأخذ البعير في بطنه من فساد الكلأ عليه ويقال حبطت الإبل تحبط حبطا إذا أصابها ذلك وإذا عمل الإنسان عملا على خلاف الوجه الذي أمر به يقال أحبطه.

المعنى:

﴿سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض﴾ ذكر في معناه وجوه (أحدها) أنه أراد سأصرف عن نيل الكرامة المتعلقة ب آياتي والاعتزاز بها كما يناله المؤمنون في الدنيا والآخرة المستكبرين في الأرض بغير الحق كما فعل بقوم موسى وفرعون فإن موسى كان يقتل من القبط وكان أحد منهم لا يجسر أن يناله بمكروه خوفا من الثعبان وعبر ببني إسرائيل البحر وغرق فيه فرعون وقومه عن أبي علي الجبائي والآيات على هذا التأويل يحتمل أن تكون سائر الأدلة ويحتمل أن تكون معجزات الأنبياء وفي قوله ﴿ذلك بأنهم كذبوا ب آياتنا﴾ بيان أن صرفهم عن الآيات مستحق بتكذيبهم (وثانيها) أن معناه سأصرفهم عن زيادة المعجزات التي أظهرها على الأنبياء (عليهم السلام) بعد قيام الحجة بما تقدم من المعجزات التي ثبتت بها النبوة لأن هذا الضرب من المعجزات إنما يظهر إذا كان في المعلوم أنه يؤمن عنده من لا يؤمن بما تقدم من المعجزات فيكون الصرف بأن لا يظهرها جملة أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها ويظهرها بحيث ينتفع بها غيرهم وهذا الوجه اختاره القاضي لأن ما بعده يليق به من قوله ﴿وإن يروا سبيل الرشد﴾ إلى آخر الآية (وثالثها) أن معناه سأمنع الكذابين والمتكبرين آياتي ومعجزاتي وأصرفهم عنها وأخص بها الأنبياء فلا أظهرها إلا عليهم وإذا صرفهم عنها فقد صرفها عنهم وكلا اللفظين يفيد معنى واحدا فليس لأحد أن يقول هلا قال سأصرف آياتي عن الذين يتكبرون وهذا يبطل قول من قال أن الله تعالى جعل النيل في أمر فرعون فكان يجري بأمره ويقف وما شاكل ذلك (ورابعها) أن يكون الصرف معناه المنع من إبطال الآيات والحجج والقدح فيها بما يخرجها عن كونها أدلة وحججا ويكون تقدير الآية إني أصرف المبطلين والمكذبين عن القدح في دلالاتي بما أؤيدها وأحكمها من الحجج والبينات ويجري ذلك مجرى قول أحدنا إن فلانا منع أعدائه بأفعاله الحميدة وأخلاقه الكريمة من ذمه وتهجينه وأخرس ألسنتهم عن الطعن فيه وإنما يريد المعنى الذي ذكرناه ويكون على هذا قوله ﴿ذلك بأنهم كذبوا ب آياتنا﴾ راجعا إلى ما قبله بلا فصل من قوله ﴿وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا﴾ ولا يرجع إلى قوله ﴿سأصرف﴾ (وخامسها) أن المراد سأصرف عن إبطال آياتي والمنع من تبليغها هؤلاء المتكبرين بالإهلاك أو المنع من غير إهلاك فلا يقدرون على القدح فيها ولا على قهر مبلغيها ولا على منع المؤمنين من اتباعها والإيمان بها وهو نظير قوله ﴿والله يعصمك من الناس﴾ ويكون الآيات في هذا الوجه القرآن وما جرى مجراه من كتب الله التي تحملتها الأنبياء (عليهم السلام) ويكون قوله ﴿ذلك بأنهم كذبوا ب آياتنا﴾ على هذا متعلقا أيضا بقوله ﴿وإن يروا سبيل الرشد﴾ إلى ما بعده ومعنى قوله ﴿الذين يتكبرون في الأرض﴾ أي يرون لأنفسهم فضلا على الناس وحقا ليس لغيرهم مثله فيحملهم ذلك على ترك اتباع الأنبياء أنفة من الانقياد لهم والقبول منهم وقوله ﴿بغير الحق﴾ تأكيد وبيان أن التكبر لا يكون إلا بغير الحق كقوله ﴿ويقتلون النبيين بغير الحق وقد مضى ذكر أمثاله ﴿وإن يروا كل آية﴾ أي كل حجة ودلالة تدل على توحيد الله وصحة نبوة أنبيائه ﴿لا يؤمنوا بها﴾ هذا إخبار من الله تعالى عن هؤلاء بعلمه فيهم أنهم لا يؤمنون به وبكتبه ورسله وبيان أنه إنما صرفهم عن آياته لذلك ﴿وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا﴾ يعني إن يروا طريق الهدى والحق لا يتخذوه طريقا لأنفسهم ﴿وإن يروا سبيل الغي﴾ أي طريق الضلال ﴿يتخذوه سبيلا﴾ أي طريقا لأنفسهم ويميلون إليه وقيل الرشد الإيمان والغي الكفر وقيل الرشد كل أمر محمود والغي كل أمر قبيح مذموم ﴿ذلك﴾ إشارة إلى صرفهم عن الآيات وقيل إشارة إلى اتخاذهم طريق الغي وترك طريق الرشد وتقديره أمرهم ذلك ﴿بأنهم كذبوا ب آياتنا﴾ أي بحججنا ومعجزات رسلنا ﴿وكانوا عنها غافلين﴾ أي لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها والمراد بالغفلة هنا التشبيه لا الحقيقة مثل قوله سبحانه ﴿صم بكم عمي﴾ وذلك أنهم لما أعرضوا عن الانتفاع بالآيات والتأمل فيها أشبهت حالهم حال من كان غافلا ساهيا عنها ثم بين سبحانه وعيد المكذبين فقال ﴿والذين كذبوا ب آياتنا ولقاء الآخرة﴾ يعني القيامة والبعث والنشور ﴿حبطت أعمالهم﴾ التي عملوها ولا يستحقون بها مدحا ولا ثوابا لأنها وقعت على خلاف الوجه المأمور به فصارت بمنزلة ما لم يعمل ﴿هل يجزون إلا ما كانوا يعملون﴾ صورته صورة الاستفهام والمراد به الإنكار والتوبيخ ومعناه ليس يجزون إلا ما عملوه إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.

النظم:

قيل في وجه اتصال الآية بما قبلها وجوه (أحدها) أنه تقدم ذكر المعجزات وما رام فرعون من إبطالها فبين سبحانه بقوله ﴿سأصرف عن آياتي﴾ أنه يمنع عن إبطال المعجزات فيتصل بما تقدم من قصة موسى وفرعون (وثانيها) أنه لما تقدم ذكر معجزات موسى نبه عقيبه على أنه سبحانه لا يظهر المعجزات على يد من ليس بنبي وأبان عن صدق موسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لمكان المعجزة (وثالثها) أنه خطاب لموسى وزيادة في البيان عن إتمام ما وعده في إهلاك أعدائه وصرفهم عن الاعتراض على آياته ومعناه خذها آمنا من طعن الطاعنين فإني سأصرف (ورابعها) أن الآيتين اعتراض بين قصة موسى والخطاب لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد أنه يصرف المتكبرين عن آياته كما صرف فرعون عن موسى.