الآيـة 40

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴿40﴾

القراءة:

القراءة المشهورة ﴿إسرائيل﴾ مهموز ممدود مشبع وهو الفصيح وروي في الشواذ عن الحسن والزهري إسرايل بلا همز ولا مد وعن الأعمش وعيسى بن عمر كذلك وحكي عن الأخفش إسرائل بكسر الهمزة من غير ياء وحكى قطرب إسرال من غير همز ولا ياء وإسرئين بالنون قال أبو علي العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه وأنشد:

هل تعرف الدار لأم الخزرج

منها فظلت اليوم كالمزرج

يريد المزرجن وهو الخمر من الزرجون قال والنون في زرجون أصل كالسين في قربوس فإذا جاز للعرب أن تخلط فيما هو لغتها فكيف فيما ليس من لغتها واختير تحريك الياء في قوله ﴿نعمتي التي أنعمت﴾ لأنه لقيها ألف الوصل واللام فلم يكن بد من إسقاطها أو تحريكها فكان التحريك أولى لأنه أدل على الأصل وأشكل بما يلحق اللام في الاستئناف من فتح ألف الوصل وإسكان الياء من قوله ﴿يا عبادي الذين أسرفوا﴾ أي الإسقاط هاهنا أجود لأن من حق ياء الإضافة ألا تثبت في النداء وإذا لم تثبت فلا طريق إلى تحريكها والاختيار في قوله ﴿فبشر عباد الذين يستمعون القول﴾ حذف الياء لأنه رأس آية ورءوس الآي لا تثبت فيها الياء لأنها فواصل ينوى فيها الوقف كما يفعل ذلك في القوافي وأجمعوا على إسقاط الياء من قوله ﴿فارهبون﴾ إلا ابن كثير فإنه أثبتها في الوصل دون الوقف والوجه حذفها لكراهية الوقف على الياء وفي كسر النون دلالة على ذهاب الياء.

اللغة:

الابن والولد والنسل والذرية متقاربة المعاني إلا أن الابن للذكر والولد يقع على الذكر والأنثى والنسل والذرية يقع على جميع ذلك وأصله من البناء وهو وضع الشيء على الشيء فالابن مبني على الأب لأن الأب أصل والابن فرع والبنوة مصدر الابن وإن كان من الياء كالفتوة مصدر الفتى وتثنيته فتيان وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وقيل أصله مضاف لأن إسر معناه عبد وايل هو الله بالعبرانية فصار مثل عبد الله وكذلك جبرائيل وميكائيل والذكر الحفظ للشيء بذكره وضده النسيان والذكر جري الشيء على لسانك والذكر الشرف في قوله ﴿وإنه لذكر لك ولقومك﴾ والذكر الكتاب الذي فيه تفصيل الدين وكل كتاب من كتب الأنبياء ذكر والذكر الصلاة والدعاء وفي الأثر كانت الأنبياء إذا أحزنهم أمر فزعوا إلى الذكر أي إلى الصلاة وأصل الباب التنبيه على الشيء قال صاحب العين تقول وفيت بعهدك وفاء وأوفيت لغة تهامة قال الشاعر في الجمع بين اللغتين:

أما ابن عوف فقد أوفى بذمته

كما وفى بقلاص النجر حاديها

يعني به الدبران وهو التالي والعهد الوصية والرهبة الخوف وضدها الرغبة وفي المثل رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم.

الإعراب:

يا حرف النداء وهي في موضع نصب لأنه منادى مضاف وإسرائيل في موضع جر لأنه مضاف إليه وفتح لأنه غير منصرف وفيه سببان العجمة والتعريف وقوله ﴿وإياي﴾ ضمير منصوب ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله ﴿فارهبون﴾ لأنه مشغول كما لا يجوز أن يقول إن زيدا في قولك زيدا فاضربه منصوب باضربه ولكنه يكون منصوبا بفعل يدل عليه ما هو مذكور في اللفظ وتقديره وإياي ارهبوا فارهبون ولا يظهر ذلك لأنه استغنى عنه بما يفسره وإن صح تقديره ولا يجوز في مثل ذلك الرفع على أن يكون الخبر فارهبون إلا على تقدير محذوف كما أنشد سيبويه:

وقائلة خولان فانكح فتاتهم

وأكرومة الحيين خلو

كما هيأ تقديره هؤلاء خولان فانكح فتاتهم وعلى ذلك حمل قوله تعالى ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾ و﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾ وتقديره وفيما يتلى عليكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وفيما فرض عليكم الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما.

المعنى:

لما عم الله تعالى جميع الخلق بالحجج الواضحة على توحيده وذكرهم ما أنعم به عليهم في أبيهم آدم (عليه السلام) خص بني إسرائيل بالحجج وذكرهم ما أسدى إليهم وإلى آبائهم من النعم فقال ﴿يا بني إسرائيل﴾ يعني يا بني يعقوب نسبهم إلى الأب الأعلى كما قال يا بني آدم والخطاب لليهود والنصارى وقيل هو خطاب لليهود الذين كانوا بالمدينة وما حولها عن ابن عباس ﴿اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم﴾ أراد بذلك النعم التي أنعم بها على أسلافهم من كثرة الأنبياء فيهم والكتب وإنجائهم من فرعون ومن الغرق على أعجب الوجوه وإنزال المن والسلوى عليهم وكون الملك فيهم في زمن سليمان (عليه السلام) وغير ذلك وعد النعمة على آبائهم نعمة عليهم لأن الأولاد يتشرفون بفضيلة الآباء وهذا كما يقال في المفاخرة قتلناكم يوم الفخار وهزمناكم يوم ذي قار وغلبناكم يوم النسار وذكر النعمة بلفظ الواحد والمراد بها الجنس كقوله تعالى ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ والواحد لا يمكن عده وقيل المراد بها النعم الواصلة إليهم مما اختصوا به دون آبائهم واشتركوا فيه مع آبائهم فكان نعمة على الجميع فمن ذلك تبقية آبائهم حتى تناسلوا فصاروا من أولادهم ومن ذلك خلقه إياهم على وجه يمكنهم معه الاستدلال على توحيده والوصول إلى معرفته فيشكروا نعمه ويستحقوا ثوابه ومن ذلك ما يوصل إليهم حالا بعد حال من الرزق ويدفع عنهم من المكاره والأسواء وما يسبغ عليهم من نعم الدين والدنيا فعلى القول الأول تكون الآية تذكيرا بالنعم عليهم في أسلافهم وعلى القول الثاني تكون تذكيرا بالمنعم عليهم ، ومن النعم على أسلافهم ما ذكره في قوله ﴿وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين﴾ وقال ابن الأنباري أراد اذكروا ما أنعمت به عليكم فيما استودعتكم من علم التوراة وبينت لكم من صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وألزمتكم من تصديقه واتباعه فلما بعث ولم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة وقوله ﴿وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم﴾ قيل فيه وجوه (أحدها) أن هذا العهد هو أن الله تعالى عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيا يقال له محمد فمن تبعه كان له أجران اثنان أجر باتباعه موسى وإيمانه بالتوراة وأجر باتباعه محمدا وإيمانه بالقرآن من كفر به تكاملت أوزاره وكانت النار جزاءه فقال ﴿أوفوا بعهدي﴾ في محمد ﴿أوف بعهدكم﴾ أدخلكم الجنة عن ابن عباس فسمى ذلك عهدا لأنه تقدم به إليهم في الكتاب السابق وقيل إنما جعله عهدا لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين كما قال سبحانه ﴿وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه﴾ (وثانيها) أنه العهد الذي عاهدهم عليه حيث قال ﴿خذوا ما آتيناكم بقوة﴾ أي بجد ﴿واذكروا ما فيه﴾ أي ما في الكتاب عن الحسن (وثالثها) أنه ما عهد إليهم في سورة المائدة حيث قال ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي﴾ الآية عن قتادة (ورابعها) أنه أراد جميع الأوامر والنواهي (وخامسها) أنه جعل تعريفه إياهم نعمة عهدا عليهم وميثاقا لأنه يلزمهم القيام بما يأمرهم به من شكر هذه النعم كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق الذي يؤخذ عليهم والأول أقوى لأن عليه أكثر المفسرين وبه يشهد القرآن وقوله ﴿وإياي فارهبون﴾ أي خافوني في نقض العهد وفي هذه الآية دلالة على وجوب شكر النعمة وفي الحديث التحدث بالنعم شكر وفيها دلالة على عظم المعصية في جحود النعم وكفرانها ولحوق الوعيد الشديد بكتمانها ويدل أيضا على ثبوت أفعال العباد إذ لو لم تكن لهم أفعال لما صح العهد والأمر والنهي والوعد والوعيد ولأدى إلى بطلان الرسل والكتب.