الآيات 96-99
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴿96﴾ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ ﴿97﴾ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴿98﴾ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴿99﴾
القراءة:
﴿أو أمن﴾ بفتح الواو عراقي وابن فليح والباقون أو أمن بسكون الواو إلا أن ورشا قرأه على أصله في إلقاء حركة الهمزة على الساكن قبلها فقال أومن.
الحجة:
قال أبو علي أو حرف استعمل على ضربين (أحدهما) أن يكون بمعنى أحد الشيئين أو الأشياء في الخبر والاستفهام (والآخر) أن يكون للإضراب عما قبلها في الخبر والاستفهام كما أن أم المنقطعة في الاستفهام والخبر كذلك فأما التي تكون لأحد الشيئين أو الأشياء فمثاله في الخبر زيد أو عمرو ضربته وجاء زيد أو عمرو كما تقول أحدهما جاء وأحدهما ضربته وهي إذا كانت للإباحة كذلك أيضا وهو قوله جالس الحسن أو ابن سيرين وأما أو التي تجيء للإضراب بعد الخبر والاستفهام فكقولك أنا أخرج ثم تقول أو أقيم أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة كأنك قلت لا بل أقيم كما أنك في قولك إنها لابل أم شاة مضرب عن الأول ولا يقع بعد أو هذه إلا جملة ومن ثم قال سيبويه في قوله ولا تطع منهم آثما أو كفورا أنك لو قلت أو لا تطع كفورا انقلب المعنى وإنما كان ينقلب المعنى لأنه إذا قال لا تطع منهم آثما أو كفورا فكأنه قال لا تطع هذا الضرب ولا تطع هؤلاء فإنما لزمه أن لا يطيع واحدا منهما لأن كل واحد منهما في معنى الآخر في وجوب ترك الطاعة له كما جاز له أن يجمع بين مجالسة الحسن وابن سيرين لأن كل واحد منهما أهل للمجالسة ومجالسة كل واحد منهما كمجالسة الآخر ولو قال ولا تطع منهم آثما أو لا تطع كفورا كان بقوله أو لا تطع قد أضرب عن ترك طاعة الأول وكان يجوز أن يطيعه وفي جواز ذلك انقلاب المعنى ووجه قراءة من قرأ أو أمن أنه جعل أو للإضراب لا على أنه أبطل الأول ولكن كقوله الم تنزيل الكتاب ثم قال أم يقولون افتراه فجاء هذا ليبصروا ضلالتهم فكان المعنى أو أمنوا هذه الضروب من معاقبتهم والأخذ لهم وإن شئت جعلته أو التي في قولك ضربت زيدا أو عمرا كأنك أردت أ فآمنوا إحدى هذه العقوبات ووجه قراءة من قرأ ﴿أوأمن﴾ أنه أدخل همزة الاستفهام على حرف العطف كما دخل في نحو قوله أثم إذا ما وقع وقوله أوكلما عاهدوا عهدا ومن حجة من قرأ ذلك أنه أشبه بما قبله وما بعده ألا ترى أن قبله ﴿أفأمن أهل القرى﴾ وبعده ﴿أفأمنوا مكر الله﴾ أو لم يهد للذين يرثون الأرض فكما أن هذه الأشياء عطف حرف دخل عليها حرف الاستفهام كذلك يكون ﴿أو أمن﴾.
اللغة:
البركات الخيرات النامية وأصله الثبوت والأمن والثقة والطمأنينة نظائر في اللغة وضد الأمن الخوف وضد الثقة الريبة وضد الطمأنينة الانزعاج والأمن الثقة بالسلامة من الخوف والبأس العذاب والبؤس الفقر والأصل الشدة ورجل بئيس شديد في القتال والنوم نقيض اليقظة وهو سهو يغمر القلب ويغشي العين ويضعف الحس وينافي العلم يقال نام الرجل ينام نوما وهو حسن النيمة إذا كان حسن هيئة النوم ورجل نومة بسكون الواو وإذا كان خسيسا لا يؤبه به ورجل نومة بفتح الواو إذا كان كثير النوم والنيم الفرو لأن من شأنه أن ينام فيه أو لأنه يغشى كما يغشى النوم والضحى صدر النهار في وقت انبساط الشمس وأصله الظهور من قولهم ضحا الشمس يضحو ضحوا وضحوا وفعل ذلك الأمر ضاحية إذا فعله ظاهرا والأضحية لأنها تذبح عند الضحى يوم العيد قال الخليل المكر الاحتيال بإظهار خلاف الإضمار وقيل إن أصل المكر الالتفاف ومنه ساق ممكورة أي ملتفة حسنة قال ذو الرمة:
عجزاء ممكورة خمصانة قلق
عنها الوشاح وثم الجسم والقصب
والمكور شجر ملتف (يستن في علقى وفي مكور) فمعنى قولك مكر فلان يمكر مكرا التف تدبيره على مكروه لصاحبه.
الإعراب:
لو معناه تعليق الثاني بالأول الذي يجب الثاني بوجوبه وينتفي بانتفائه على طريقة كان، وإن فيها هذا المعنى على طريقة يكون، والفرق بينهم من تعلق الثاني بالأول الذي يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون كقولك إن آمن هذا الكافر استحق الجواب وهذا مقدور وليس كذلك لو لأنها قد تدخل على ما لا يمكن أن يكون كقولك لو كان الجسم سليما لاستغنى عن صانع وإنما فتحت أن بعد لو لأنها وقعت في الموضع الذي يختص بالفعل فإن لو ليس يدخل إلا على الفعل وأن مع اسمها وخبرها في تأويل اسم مفرد فيكون تقديره لو وقع أن أهل القرى آمنوا فيكون أن مع ما بعدها في موضع رفع بالفعل المقدر بعد لو وإنما دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف من قوله ﴿أفآمن﴾ ﴿أوأمن﴾ مع أن الاستفهام للاستئناف والعطف بخلافه لأنهما إنما يتنافيان في المفرد لأن الثاني إذا عمل فيه الأول كان من الكلام الأول والاستئناف قد أخرجه من أن يكون منه وأما في عطف جملة على جملة فيصح لأنه على استئناف جملة بعد جملة.
المعنى:
ثم بين سبحانه أن كل من أهلكه من الأمم المتقدم ذكرهم إنما أتوا في ذلك من قبل نفوسهم فقال ﴿ولو أن أهل القرى﴾ التي أهلكناها بسبب جحودهم وعنادهم ﴿آمنوا﴾ وصدقوا رسلنا ﴿واتقوا﴾ الشرك والمعاصي ﴿لفتحنا عليهم بركات﴾ أي خيرات نامية ﴿من السماء﴾ بإنزال المطر ﴿و﴾ من ﴿الأرض﴾ بإخراج النبات والثمار كما وعد نوح بذلك أمته فقال يرسل السماء عليكم مدرارا الآيات وقيل بركات السماء إجابة الدعاء وبركات الأرض تيسير الحوائج ﴿ولكن كذبوا﴾ الرسل ﴿فأخذناهم بما كانوا يكسبون﴾ من المعاصي والمخالفة وتكذيب الرسل فحبسنا السماء عنهم وأخذناهم بالضيق عقوبة لهم على فعلهم ﴿أفأمن أهل القرى﴾ المكذبون لك يا محمد ﴿أن يأتيهم بأسنا﴾ أي عذابنا ﴿بياتا﴾ ليلا ﴿وهم نائمون﴾ في فرشهم ومنازلهم كما أتى المكذبين قبلهم ﴿أ وأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى﴾ أي عذابنا نهارا عند ارتفاع الشمس ﴿وهم يلعبون﴾ أي وهم في غير ما ينفعهم أو يعود عليهم بنفع فإن من اشتغل بدنياه وأعرض عن آخرته فهو كاللاعب والمعني بأهل القرى كل أهل قرية يقيم على معاصي الله في كل وقت وزمان وإن نزلت بسبب أهل القرى الظالم أهلها المشركين في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وإنما خص سبحانه هذين الوقتين لأنه أراد أنه لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلا ولا نهارا عن الحسن ﴿أفأمنوا مكر الله﴾ أي أ فبعد هذا كله أمنوا عذاب الله أن يأتيهم من حيث لا يشعرون عن الجبائي قال دخلت الفاء للتعقيب وسمي العذاب مكرا لنزوله بهم من حيث لا يعلمون كما أن المكر ينزل بالممكور به من جهة الماكر من حيث لا يعلمه وقيل إن مكر الله استدراجه إياهم بالصحة والسلامة وطول العمر وتظاهر النعمة ﴿فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون﴾ يسأل عن هذا فيقال إن الأنبياء والمعصومين أمنوا مكر الله وليسوا بخاسرين وجوابه من وجوه (أحدها) أن معناه لا يأمن مكر الله من المذنبين إلا القوم الخاسرون بدلالة قوله سبحانه إن المتقين في مقام أمين (وثانيها) أن معناه لا يأمن عذاب الله للعصاة إلا الخاسرون والمعصومون لا يأمنون عذاب الله للعصاة ولهذا سلموا من مواقعة الذنوب (وثالثها) لا يأمن عقاب الله جهلا بحكمته إلا الخاسرون ومعنى الآية الإبانة عما يجب أن يكون عليه المكلف من الخوف لعقاب الله تعالى ليسارع إلى طاعته واجتناب معاصيه ولا يستشعر الأمن من ذلك فيكون قد خسر في دنياه وآخرته بالتهالك في القبائح.