الآيـة 26

إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴿26﴾

القراءة:

يستحيي بيائين وروي عن ابن كثير يستحي بياء واحدة ووجه هذه القراءة أنه استثقل اجتماع اليائين فحذف إحداهما وهي لغة بني تميم.

اللغة:

الاستحياء من الحياء ونقيضه القحة.

والضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلا يقال ضرب في التجارة وضرب في الأرض وضرب في سبيل الله وضرب بيده إلى كذا وضرب فلان على يد فلان إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه وضرب الأمثال إنما هو جعلها لتسير في البلاد يقال ضربت القول مثلا وأرسلته مثلا وما أشبه ذلك والبعوض القرقس وهو صغار البق الواحدة بعوضة والمثل والمثل كالشبه والشبه قال كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لنا مثلا

وما مواعيده إلا الأباطيل والفسق

والفسوق الترك لأمر الله وقال الفراء الفسق الخروج عن الطاعة تقول العرب فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت ولذلك سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها.

الإعراب:

ما في قوله ﴿ما بعوضة﴾ بالنصب فيه وجوه (أحدها) أن تكون ما مزيدة ومعناها التوكيد كما في قوله ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم﴾ وتقديره أن الله لا يستحي أن يضرب بعوضة مثلا أو مثلا بعوضة فيكون بعوضة مفعولا ثانيا ليضرب (وثانيها) أن يكون ما نكرة مفسرة ببعوضة كما يكون نكرة موصوفة في قوله تعالى : ﴿هذا ما لدي عتيد﴾ فيكون تقديره لا يستحيي أن يضرب مثلا شيئا من الأشياء بعوضة فتكون بعوضة بدلا من شيئا (وثالثها) ما يحكى عن الفراء أن معناه ما بين بعوضة إلى ما فوقها كما يقال مطرنا ما زبالة إلى التعلبية وله عشرون ما ناقة فجملا وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما يعنون ما بين في جميع ذلك والاختيار عند البصريين الوجه الأول وإنما اختير هذا الوجه لأن ضرب هاهنا بمعنى جعل فجاز أن يتعدى إلى مفعولين ويدخل على المبتدأ والخبر وفي التنزيل ما يدل عليه وهو قوله تعالى : ﴿إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء﴾ فمثل الحياة مبتدأ وكماء خبره وفي موضع آخر واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء فدخل اضرب على المبتدأ والخبر فصار بمنزلة قولك ظننت زيدا كعمرو ويجوز في الإعراب الرفع في بعوضة وإن لم تجز القراءة به وفيه وجهان (أحدهما) أن يكون خبرا لمبتدء محذوف في صلة ما فكأنه قال الذي هو بعوضة كقراءة من قرأ تماما على الذي أحسن بالرفع وهذا عند سيبويه ضعيف وهو في الذي أقوى لأن الذي أطول وليس للذي مذهب غير الأسماء.

(والثاني) على الجواب كأنه لما قيل ﴿إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما﴾ قيل ما هو فقيل ﴿بعوضة﴾ أي بعوضة كما تقول مررت برجل زيد أي هو زيد فتكون ما على هذا الوجه نكرة مجردة من الصفة والصلة وقوله ﴿فأما الذين آمنوا﴾ لغة العرب جميعا بالتشديد وكثير من بني تميم يقولون أيما فلان فيفعل كذا وأنشد بعضهم :

مبتلة هيفاء أيما وشاحها

فيجري وأيما الحجل منها فلا يجري وهي كلمة تجيء في شيئين أو أشياء يفصل القول بينهما كقولك أما زيد فمحسن وأما عمرو فمسيء فزيد مبتدأ ومحسن خبره وفيها معنى الشرط والجزاء وتقديره مهما يكن من شيء فزيد محسن ثم أقيم أما مقام الشرط فيحصل أما فزيد محسن ثم أخر الفاء إلى الخبر لإصلاح اللفظ ولكراهة أن تقع الفاء التي للتعقيب في أول الكلام فقوله ﴿الذين آمنوا﴾ على هذا يكون مبتدأ ويعلمون خبره وكذلك ﴿الذين كفروا﴾ مبتدأ ويقولون خبره وقوله ﴿ما ذا أراد الله بهذا مثلا﴾ ما استفهام وهو اسم في موضع الرفع بالابتداء وذا بمعنى الذي وصلته ما بعده وهو في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ تقديره أي شيء الذي أراد الله فعلى هذا يكون الجواب رفعا كقولك البيان لحال الذي ضرب له المثل ويحتمل أن يكون ما وذا بمنزلة اسم واحد تقديره أي شيء أراد الله فيكون في موضع نصب بأنه مفعول أراد فعلى هذا يكون الجواب نصبا كقولك البيان لحال من ضرب له المثل ومثال الأول قوله تعالى : ﴿ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين﴾ ومثال الثاني قوله ﴿ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا﴾ ومثلا منصوب على الحال وقيل على القطع وقيل على التفسير.

النزول:

روي عن ابن مسعود وابن عباس أن الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين يعني قوله ﴿مثلهم كمثل الذي استوقد نارا﴾ وقوله ﴿أو كصيب من السماء﴾ قال المنافقون الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله تعالى هذه الآية وروي عن قتادة والحسن لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره فأنزل الله هذه الآية.

المعنى:

﴿إن الله لا يستحيي﴾ أي لا يدع وقيل لا يمتنع لأن أحدنا إذا استحيى من شيء تركه وامتنع منه ومعناه أن الله لا يدع ضرب المثل بالأشياء الحقيرة لحقارتها إذا رأى الصلاح في ضرب المثل بها وقيل معناه هو أن الذي يستحيي منه ما يكون قبيحا في نفسه ويكون لفاعله عيب في فعله فأخبر الله تعالى أن ضرب المثل ليس بقبيح ولا عيب حتى يستحيي منه وقيل معناه أنه لا يخشى أن يضرب مثلا كما قال ﴿وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه﴾ أي تستحيي الناس والله أحق أن تستحييه فالاستحياء بمعنى الخشية هنا كما أن الخشية بمعنى الاستحياء هناك وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفا من مواقعة القبيح وقال علي بن عيسى معناه أنه ليس في ضرب المثل بالحقير للحقير عيب يستحيي منه فكأنه قال لا يحل ضرب المثل بالبعوض محل ما يستحيي منه فوضع قوله ﴿إن الله لا يستحيي﴾ موضعه وقوله ﴿ما بعوضة فما فوقها﴾ أي ما هو أعظم منها عن قتادة وابن جريج وقيل فما فوقها في الصغر والقلة لأن الغرض هاهنا الصغر وقال الربيع بن أنس أن البعوضة تحيى ما جاعت فإذا سمنت ماتت فكذلك القوم الذين ضرب لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا ﴿حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة﴾ وروي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال إنما ضرب الله المثل بالبعوضة لأن البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله تعالى أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه وقد استشهد على استحسان ضرب المثل بالشيء الحقير في كلام العرب بقول الفرزدق:

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل وبقوله أيضا:

وهل شيء يكون أذل بيتا

من اليربوع يحتفر الترابا

وقوله ﴿فأما الذين آمنوا﴾ أي صدقوا محمدا والقرآن وقبلوا الإسلام ﴿فيعلمون أنه الحق من ربهم﴾ مدحهم الله تعالى بأنهم تدبروا حتى علموا أنه من ربهم وأن المثل وقع في حقه ﴿وأما الذين كفروا﴾ بالقرآن ﴿فيقولون﴾ أي فلإعراضهم عن طريق الاستدلال وإنكارهم الحق قالوا ﴿ماذا أراد الله بهذا مثلا﴾ أي ما ا أراد الله بهذا المثل فحذف الألف واللام وقوله ﴿يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا﴾ فيه وجهان (أحدهما) حكي عن الفراء أنه قال أنه حكاية عمن قال ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا أي يضل به قوم ويهتدي به قوم ثم قال الله تعالى ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ فبين تعالى أنه لا يضل إلا فاسقا ضالا وهذا وجه حسن والآخر أنه كلامه تعالى ابتداء وكلاهما محتمل وإذا كان محمولا على هذا فمعنى قوله ﴿يضل به كثيرا﴾ إن الكفار يكذبون به وينكرونه ويقولون ليس هو من عند الله فيضلون بسببه وإذا حصل الضلال بسببه أضيف إليه وقوله ﴿ويهدي به كثيرا﴾ يعني الذين آمنوا به وصدقوه وقالوا هذا في موضعه فلما حصلت الهداية بسببه أضيف إليه فمعنى الإضلال على هذا تشديد الامتحان الذي يكون عنده الضلال وذلك بأن ضرب لهم الأمثال لأن المحنة إذا اشتدت على الممتحن فضل عندها سميت إضلالا وإذا سهلت فاهتدى سميت هداية فالمعنى إن الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده فيضل بها قوم كثير ويهتدي بها قوم كثير ومثله قوله ﴿رب إنهن أضللن كثيرا من الناس﴾ أي ضلوا عندها وهذا كما يقال للرجل إذا أدخل الفضة النار لينظر فسادها من صلاحها فظهر فسادها أفسدت فضتك وهو لم يفعل فيها الفساد وإنما يراد أن فسادها ظهر عند محنته وقريب من ذلك قولهم فلان أضل ناقته ولا يريدون أنه أراد أن يضل وإنما يريدون ضلت منه لا من غيره وقولهم أفسدت فلانة فلانا وأذهبت عقله وهي ربما لم تعرفه ولكن لما ذهب عقله وفسد من أجلها أضيف الفساد إليها وقد يكون الإضلال بمعنى التخلية على جهة العقوبة وترك المنع بالقهر ومنع الألطاف التي يفعل بالمؤمنين جزاء على إيمانهم وهذا كما يقال لمن لا يصلح سيفه أفسدت سيفك أريد به أنك لم تحدث فيه الإصلاح في كل وقت بالصقل والإحداد وقد يكون الإضلال بمعنى التسمية بالضلال والحكم به كما يقال أضله إذا نسبه إلى الضلال وأكفره إذا نسبه إلى الكفر قال الكميت :

فطائفة قد أكفروني بحبكم

وطائفة قالوا مسيء ومذنب

وقد يكون الإضلال بمعنى الإهلاك والعذاب والتدمير ومنه قوله تعالى ﴿إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم﴾ ومنه قوله تعالى ﴿أإذا ضللنا في الأرض﴾ أي هلكنا وقوله ﴿والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم﴾ أي لن يبطل سيهديهم ويصلح بالهم فعلى هذا يكون المعنى أن الله تعالى يهلك ويعذب بالكفر به كثيرا بأن يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسببه فيهلكوا ويهدي إلى الثواب وطريق الجنة بالإيمان به كثيرا عن أبي علي الجبائي ويدل على ذلك قوله ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ لأنه لا يخلو من أن يكون أراد به العقوبة على التكذيب كما قلناه أو يكون أراد به التحيير والتشكيك فإن أراد الحيرة فقد ذكر أنه لا يفعل إلا بالفاسق المتحير الشاك فيجب أن لا تكون الحيرة المتقدمة التي بها صاروا فساقا من فعله إلا إذا وجدت حيرة قبلها أيضا وهذا يوجب وجود ما لا نهاية له من حيرة قبل حيرة لا إلى أول أو ثبوت إضلال لا إضلال قبله وإذا كان ذلك من فعله فقد أضل من لم يكن فاسقا وهو خلاف قوله ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ وعلى هذا الوجه فيجوز أن يكون حكم الله تعالى عليهم بالكفر وبراءته منهم ولعنته عليهم إهلاكا لهم ويكون إهلاكه إضلالا وكل ما في القرآن من الإضلال المنسوب إلى الله تعالى فهو بمعنى ما ذكرناه من الوجوه ولا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى الإضلال الذي أضافه إلى الشيطان وإلى فرعون والسامري بقوله ولقد أضل منكم جبلا كثيرا وقوله ﴿وأضل فرعون قومه﴾ وقوله ﴿وأضلهم السامري﴾ وهو أن يكون بمعنى التلبيس والتغليط والتشكيك والإيقاع في الفساد والضلال وغير ذلك مما يؤدي إلى التظليم والتجويز على ما يذهب إليه المجبرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

فصل في حقيقة الهداية والهدى:

وإذا قد ذكرنا أقسام الإضلال وما يجوز إضافته إلى الله تعالى منها وما لا يجوز فلنذكر أقسام الهداية التي هي ضده اعلم أن الهداية في القرآن تقع على وجوه (أحدها) أن تكون بمعنى الدلالة والإرشاد يقال هداه الطريق وللطريق وإلى الطريق إذا دله عليه وهذا الوجه عام لجميع المكلفين فإن الله تعالى هدى كل مكلف إلى الحق بأن دله عليه وأرشده إليه لأنه كلفه الوصول إليه فلو لم يدله عليه لكان قد كلفه بما لا يطيق ويدل عليه قوله تعالى ﴿ولقد جاءهم من ربهم الهدى﴾ وقوله ﴿إنا هديناه السبيل﴾ وقوله ﴿أنزل فيه القرآن هدى للناس﴾ وقوله ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ وقوله ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ وقوله ﴿و هديناه النجدين﴾ وما أشبه ذلك من الآيات (وثانيها) أن يكون بمعنى زيادة الألطاف التي بها يثبت على الهدى ومنه قوله تعالى ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى﴾ أي شرح صدورهم وثبتها (وثالثها) أن يكون بمعنى الإثابة ومنه قوله تعالى ﴿يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم﴾ وقوله ﴿والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم﴾ والهداية التي تكون بعد قتلهم هي إثابتهم لا محالة لأنه ليس بعد الموت تكليف (ورابعها) الحكم بالهداية كقوله تعالى ﴿ومن يهد الله فهو المهتد﴾ وهذه الوجوه الثلاثة خاصة بالمؤمنين دون غيرهم لأنه تعالى إنما يثيب من يستحق الإثابة وهم المؤمنون ويزيدهم بإيمانهم وطاعاتهم ألطافا ويحكم لهم بالهداية لذلك أيضا (وخامسها) أن تكون الهداية بمعنى جعل الإنسان مهتديا بأن يخلق الهداية فيه كما يجعل الشيء متحركا بخلق الحركة فيه والله تعالى يفعل العلوم الضرورية في القلوب فذلك هداية منه تعالى وهذا الوجه أيضا عام لجميع العقلاء كالوجه الأول فأما الهداية التي كلف الله تعالى العباد فعلها كالإيمان به وبأنبيائه وغير ذلك فإنها من فعل العباد ولذلك يستحقون عليها المدح والثواب وإن كان الله سبحانه قد أنعم عليهم بدلالتهم على ذلك وإرشادهم إليه ودعائهم إلى فعله وتكليفهم إياه وأمرهم به فهو من هذا الوجه نعمة منه سبحانه عليهم ومنة منه واصلة إليهم وفضل منه وإحسان لديهم فهو سبحانه مشكور على ذلك محمود إذ فعل بتمكينه وألطافه وضروب تسهيلاته ومعوناته.