الآيات 31-32

يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴿31﴾ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿32﴾

القراءة:

قرأ نافع وحده خالصة بالرفع والباقون بالنصب.

الحجة:

قال أبو علي من رفعه جعله خبر المبتدأ الذي هو ﴿هي﴾ ويكون ﴿للذين آمنوا﴾ تبيينا للخلوص ولا شيء فيه على هذا ومن قال هذا حلو حامض أمكن أن يكون ﴿للذين آمنوا﴾ خبرا وخالصة خبر آخر ومن نصب ﴿خالصة﴾ كان حالا مما في قوله ﴿للذين آمنوا﴾ أ لا ترى أن فيه ذكرا يعود إلى المبتدأ الذي هو هي فخالصة حال عن ذلك الذكر والعامل في الحال ما في اللام من معنى الفعل وحجة من رفع أن المعنى هي تخلص للذين آمنوا يوم القيامة وإن شركهم فيها غيرهم من الكافرين في الدنيا ومن نصب فالمعنى عنده ثابتة للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة لهم وانتصاب ﴿خالصة﴾ على الحال أشبه بقوله ﴿إن المتقين في جنات وعيون آخذين﴾ ونحو ذلك مما انتصب الاسم فيه على الحال بعد الابتداء وخبره وما يجري مجراه إذا كان فيه معنى فعل قال الزجاج من نصب ﴿خالصة﴾ فهو حال على أن العامل في قولك ﴿في الحياة الدنيا﴾ في تأويل الحال كأنك تقول هي ثابتة للمؤمنين مستقرة في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة قال أبو علي قوله ﴿في الحياة الدنيا﴾ يحتمل ثلاثة أضرب (أحدها) أن يكون قل هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا خالصة على أن يكون خبر هي قوله ﴿للذين آمنوا﴾ ويكون ﴿في الحياة الدنيا﴾ ظرفا والعامل فيه الظرف الذي هو قوله ﴿للذين آمنوا﴾ والتقدير هي في الحياة الدنيا للمؤمنين مقدار خلوصها يوم القيامة ففي هذا الوجه يجوز تقديرها مقدمة على اللام الجارة لأنه ظرف للذين آمنوا والظروف وإن كان العامل فيها المعاني فإن تقديمها عليها جائز وإن لم يجز ذلك في الأحوال ويحتمل أن يكون قوله ﴿في الحياة الدنيا﴾ متصلا بالصلة التي هي ﴿آمنوا﴾ وهي العاملة فيه والمعنى هي للذين آمنوا في حياتهم أي للذين آمنوا ولم يكفروا فيها خالصة فموضع في على هذا نصب ب آمنوا ويجوز أن يكون ﴿في الحياة الدنيا﴾ في موضع حال وصاحب الحال هو هي والعامل في الحال معنى الفعل وهو قوله ﴿للذين آمنوا﴾ والمعنى قل هي لهم مستقرة في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ولا يجوز في هذا الوجه ولا في الوجه الذي قبله تقدير تقديم ﴿في الحياة﴾ على قوله ﴿للذين آمنوا﴾ أما في الوجه الأول فلأن قوله ﴿في الحياة﴾ صلة الذين ولا يجوز تقديم الصلة على الموصول وأما في الوجه الآخر فلأنه في موضع الحال والحال لا يجوز تقديمها إذا كان العامل فيها معنى الفعل وهذا الوجه الثالث ذكره أبو إسحاق وأما قراءة من قرأ ﴿خالصة﴾ بالنصب جعله منصوبا على الحال على أن العامل في قوله ﴿في الحياة الدنيا﴾ على تأويل الحال إلى آخر كلامه فينبغي أن تعلم أن من نصب ﴿خالصة﴾ في قراءة جاز أن يكون ﴿في الحياة الدنيا﴾ ظرفا للذين آمنوا والعامل فيه معنى الفعل وجاز أن يكون متعلقا ب آمنوا وظرفا له وجاز أن يكون في موضع الحال كما ذكر فالوجهان الأولان لا يحتاج معهما إلى تقدير شيء حتى تعلقه بما قبل أما إذا كان ظرفا للأم الجارة فمعنى الفعل يعمل فيه كما تقول لك ثوب كل يوم وإذا كان من الصلة فنفس الفعل الظاهر يعمل فيه فأما إذا جعلته حالا فإنه ينبغي أن تقدر فعلا وأو اسم فاعل يكون في موضع الحال ويكون في الحياة متعلقا به ولا يوهمنك قول أبي إسحاق الذي ذكرناه أنه يلزم أن يقدر قوله ﴿في الحياة الدنيا﴾ في تقدير الحال لا غير إذا جعلت خالصة منصوبا على الحال فإن الوجهين الآخرين كل واحد منهما مع نصب ﴿خالصة﴾ على الحال سائغ جائز.

المعنى:

لما تقدم ذكر ما أنعم الله سبحانه على عباده من اللباس والرزق أمرهم في أثرها بتناول الزينة والتستر والاقتصاد في المأكل والمشرب فقال ﴿يا بني آدم﴾ وهو خطاب لسائر المكلفين ﴿خذوا زينتكم عند كل مسجد﴾ أي خذوا ثيابكم التي تتزينون بها للصلاة في الجمعات والأعياد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وقيل عند كل صلاة روى العياشي بإسناده أن الحسن بن علي (عليهما السلام) كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك فقال إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول ﴿خذوا زينتكم عند كل مسجد﴾ فأحب أن ألبس أجود ثيابي وقيل معناه خذوا ما تسترون به عوراتكم وإنما قال ذلك لأنهم كانوا يتعرون من ثيابهم للطواف على ما تقدم بيانه وكان يطوف الرجال بالنهار والنساء بالليل فأمرنا بلبس الثياب في الصلاة والطواف عن جماعة من المفسرين وقيل إن أخذ الزينة هو التمشط عند كل صلاة روي ذلك عن الصادق (عليه السلام) ﴿وكلوا واشربوا﴾ صورته صورة الأمر والمراد الإباحة وهو عام في جميع المباحات ﴿ولا تسرفوا﴾ أي لا تجاوزوا الحلال إلى الحرام قال مجاهد لو أنفقت مثل أحد في طاعة الله لم تكن مسرفا ولو أنفقت درهما أو مدا في معصية الله لكان إسرافا وقيل معناه لا تخرجوا عن حد الاستواء في زيادة المقدار وقد حكي أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان فقال له علي قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه وهو قوله ﴿كلوا واشربوا ولا تسرفوا﴾ وجمع نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) الطب في قوله المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته فقال الطبيب ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا وقيل معناه ولا تأكلوا محرما ولا باطلا على وجه لا يحل وأكل الحرام وإن قل إسراف ومجاوزة للحد وما استقبحه العقلاء وعاد بالضرر عليكم فهو أيضا إسراف لا يحل كمن يطبخ القدر بماء الورد ويطرح فيها المسك وكمن لا يملك إلا دينار فاشترى به طيبا فتطيب به وترك عياله محتاجين ﴿إنه لا يحب المسرفين﴾ أي يبغضهم لأنه سبحانه قد ذمهم به ولو كان بمعنى لا يحبهم ولا يبغضكم لم يكن ذما ولا مدحا ولما حث الله سبحانه على تناول الزينة عند كل مسجد وندب إليه الأكل والشرب ونهي عن الإسراف وكان قوم من العرب يحرمون كثيرا من هذا الجنس حتى أنهم كانوا يحرمون السمون والألبان في الإحرام وكانوا يحرمون السوائب والبحائر أنكر عز اسمه ذلك عليهم فقال ﴿قل﴾ يا محمد ﴿من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق﴾ أي من حرم الثياب التي تتزين بها الناس مما أخرجها الله من الأرض لعباده والطيبات من الرزق قيل هي المستلذات من الرزق وقيل هي والمحللات والأول أظهر لخلوصها يوم القيامة للمؤمنين ﴿قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة﴾ قال ابن عباس يعني أن المؤمنين يشاركون المشركين في الطيبات في الدنيا فأكلوا من طيبات طعامهم ولبسوا من جياد ثيابهم ونكحوا من صالح نسائهم ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء قال الفراء مجازاة هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا وهي خالصة لهم في الآخرة وهذا معنى قول ابن عباس وقيل معناه قل هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة وهي خالصة يوم القيامة من ذلك عن الجبائي ﴿كذلك نفصل الآيات﴾ أي كما نميز لكم الآيات وندلكم بها على منافعكم وصلاح دينكم كذلك نفصل الآيات ﴿لقوم يعلمون﴾ وفي هذه الآية دلالة على جواز لبس الثياب الفاخرة وأكل الأطعمة الطيبة من الحلال وروى العياشي بإسناده عن الحسين بن زيد عن عمه عمر بن علي عن أبيه زين العابدين بن الحسين بن علي (عليهما السلام) أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فإذا أصاف تصدق به ولا يرى بذلك بأسا ويقول ﴿قل من حرم زينة الله﴾ الآية وبإسناده عن يوسف بن إبراهيم قال دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وعليه جبة خز وطيلسان خز فنظر إلي فقلت جعلت فداك هذا خز ما تقول فيه فقال وما بأس بالخز قلت فسداه إبريسم قال لا بأس به فقد أصيب الحسين (عليه السلام) وعليه جبة خز ثم قال إن عبد الله بن عباس لما بعثه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه وتطيب بأطيب طيبه وركب أفضل مراكبه فخرج إليهم فوافقهم قالوا يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم فتلا هذه الآية ﴿قل من حرم زينة الله﴾ إلى آخرها فالبس وتجمل فإن الله جميل يحب الجمال وليكن من حلال وفي الآية دلالة أيضا على أن الأشياء على الإباحة لقوله ﴿من حرم﴾ فالسمع ورد مؤكدا لما في العقل.