الآيـة 19

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ﴿19﴾

القراءة:

ظلمات أجمع القراء على ضم اللام منه على الاتباع وروي في الشواذ عن الحسن وأبي السماك بسكون اللام وعن بعضهم بفتح اللام وأبو عمرو يميل الكاف من الكافرين في موضع الخفض والنصب وروي ذلك عن الكسائي والباقون لا يميلون.

الحجة:

الوجه في ذلك أنهم كرهوا اجتماع الضمتين فتارة عدلوا إلى الفتح فقالوا ظلمات وتارة عدلوا إلى السكون فقالوا ظلمات وكلا الأمرين حسن في اللغة وإنما أمالوا الكاف من الكافرين للزوم كسرة الراء بعد الفاء المكسورة والراء لما فيها من التكرير تجري مجرى الحرفين المكسورين وكلما كثرت الكسرات غلبت الإمالة وحسنتها وللقراء في الإمالة مذاهب واختلافات يطول استقصاؤها وأبو علي الفارسي رحمه الله قد بلغ الغاية وجاوز النهاية في احتجاجاتهم وذكر من التحقيق فيها والتدقيق ما ينبو عنه فهم كثير من علماء الزمان فالتعمق في إيراد أبوابها وحججها والغوص إلى لججها لا يليق بتفسير القرآن وكذلك ما يتعلق بفن القراءة من علوم الهمزة والإدغام والمد فإن لذلك كتبا مؤلفة يرجع إليها ويعول عليها فالرأي أن نلم بأطرافها ونقتصر على بعض أوصافها فيما يأتي من الكتاب أن شاء الله تعالى.

اللغة:

الصيب المطر أصله صيوب فيعل من الصواب لكن اجتمعت الواو والياء وأولاهما ساكنة فصارتا ياء مشددة ومثله سيد وجيد والسماء : المعروف وكل ما علاك وأظلك فهو سماء وسماء البيت سقفه وأصابهم سماء أي مطر وأصله سما من سموت فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة وجعل يكون على وجوه (أحدها) أن يتعدى إلى مفعولين نحو جعلت الطين خزفا أي صيرت (وثانيها) أن يأتي بمعنى صنع يتعدى إلى مفعول واحد نحو قوله ﴿وجعل الظلمات والنور﴾ (وثالثها) أن يأتي بمعنى التسمية كقوله تعالى ﴿وجعلوا لله أندادا﴾ أي سموا له (ورابعها) أن يأتي بمعنى أفعال المقاربة نحو جعل زيد يفعل كذا والصواعق جمع صاعقة وهي الوقع الشديد من السحاب يسقط معه نار تحرق والصاعقة صيحة العذاب والحذر طلب السلامة مما يخاف.

الإعراب:

﴿أو﴾ هاهنا للإباحة إذا قيل لك جالس الفقهاء أو المحدثين فكلا الفريقين أهل أن يجالس فإن جالست أحدهما فأنت مطيع وإن جالست الآخر فأنت مطيع وإن جالستهما فأنت مطيع فكذلك هاهنا إن مثلت المنافقين بالمستوقد كنت مصيبا وإن مثلتهم بأصحاب الصيب فأنت مصيب وإن مثلتهم بكلا الفريقين فأنت مصيب وتقديره أو كأصحاب صيب حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه لأن هذا عطف على قوله ﴿كمثل الذي استوقد نارا﴾ والصيب ليس بعاقل فلا يعطف على العاقل ويجعلون في موضع الحال من أصحاب الصيب وقوله ﴿فيه ظلمات﴾ جملة في موضع الجر بأنها صفة صيب والضمير المتصل بفي عائد إلى صيب أو إلى السماء و﴿حذر الموت﴾ منصوب بأنه مفعول له لأن المعنى يفعلون ذلك لحذر الموت قال الزجاج وإنما نصبه الفعل لأنه في تأويل مصدره لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم يدل على حذرهم الموت قال الشيخ أبو علي المفعول له لا يكون إلا مصدرا لأنه يدل على أنه فعل لأجل ذلك الحدث والحدث مصدر لكنه ليس مصدرا عن هذا الفعل بل عن فعل آخر.

المعنى:

مثل هؤلاء المنافقين في جهلهم وشدة تحيرهم ﴿كصيب﴾ أي كأصحاب مطر ﴿من السماء﴾ أي منزل من السماء ﴿فيه﴾ أي في هذا المطر أو في السماء لأن المراد بالسماء السحاب فهو مذكر ﴿ظلمات﴾ لأن السحاب يغشي الشمس بالنهار والنجوم بالليل فيظلم الجو ﴿ورعد﴾ قيل إن الرعد صوت ملك يزجر السحاب وقيل الرعد هو ملك موكل بالسحاب يسبح روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) وقيل هو ريح تختنق تحت السماء رواه أبو الجلد عن ابن عباس وقيل هو صوت اصطكاك أجرام السحاب ومن قال أنه ملك قدر فيه صوت كأنه قال فيه ظلمات وصوت رعد لأنه روي أنه يزعق الراعي بغنمه وقوله ﴿وبرق﴾ قيل أنه مخاريق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فتنقدح عنه النار عن علي (عليه السلام) وقيل أنه سوط من نور يزجر به الملك السحاب عن ابن عباس وقيل هو مصع ملك من مجاهد والمصاع المجالدة بالسيوف وغيرها قال الأعشى:

إذا هن نازلن أقرانهن كان المصاع بما في الجؤن وقيل أنه نار تنقدح من اصطكاك الأجرام وفي تأويل الآية وتشبيه المثل أقوال (أحدها) أنه شبه المطر المنزل من السماء بالقرآن وما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء وما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر وما فيه من البرق بما فيه من البيان وما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا والدعاء إلى الجهاد عاجلا عن ابن عباس (وثانيها) أنه مثل للدنيا شبه ما فيها من الشدة والرخاء بالصيب الذي يجمع نفعا وضررا وأن المنافق يدفع عاجل الضرر ولا يطلب آجل النفع (وثالثها) أنه مثل للإسلام لأن فيه الحياة كما في الغيث الحياة وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر وما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل وبما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم وما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل ويقوي ذلك ما روي عن الحسن أنه قال مثل إسلام المنافق كصيب هذا وصفه (ورابعها) ما روي عن ابن مسعود وجماعة من الصحابة أن رجلين من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأصابهما المطر الذي ذكره الله تعالى فيه رعد شديد وصواعق وبرق وكلما أضاء لهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما مخافة أن تدخل الصواعق في آذانهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا فأقاما فجعلا يقولان يا ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يديه فأصبحا فأتياه فأسلما وحسن إسلامهما فضرب الله شأن هذين الرجلين مثلا لمنافقي المدينة وأنهم إذا حضروا النبي جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن ينزل فيهم شيء كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما وكلما أضاء لهم مشوا فيه يعني شيء كما كان ذانك الرجلان يجعلان أصابعهما في آذانهما وكلما أضاء لهم مشوا فيه يعني إذا كثرت أموالهم وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه وقالوا دين محمد صحيح و﴿إذا أظلم عليهم قاموا﴾ يعني إذا هلكت أموالهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد فارتدوا كما قام ذانك الرجلان إذا أظلم البرق عليهما وقوله ﴿والله محيط بالكافرين﴾ يحتمل وجوها.

(أحدها) أنه عالم بهم فيعلم سرائرهم ويطلع نبيه على ضمائرهم عن الأصم (وثانيها) أنه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته قال الشاعر:

أحطنا بهم حتى إذا ما تيقنوا

بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السلم

أي قدرنا عليهم (وثالثها) ما روي عن مجاهد أنه جامعهم يوم القيامة يقال أحاط بكذا إذا لم يشذ منه شيء ومنه أحاط بكل شيء علما أي لم يشذ عن علمه شيء (ورابعها) أنه مهلكهم يقال أحيط بفلان فهو محاط به إذا دنا هلاكه قال سبحانه وأحيط بثمره أي أصابه ما أهلكه وقوله ﴿إلا أن يحاط بكم﴾ معناه أن تهلكوا جميعا.