الآيات 1-3

المص ﴿1﴾ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿2﴾ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر يتذكرون بياء وتاء وقرأ أهل الكوفة غير أبي بكر ﴿تذكرون﴾ خفيفة الذال وقرأ الباقون تذكرون بتشديد الذال والكاف.

الحجة:

قال أبو علي من قرأ تذكرون مشددة أراد تتذكرون فأدغم التاء في الذال وإدغامها فيها حسن لأن التاء مهموسة والذال مجهورة والمجهور أزيد صوتا وأقوى من المهموس فحسن إدغام الأنقص في الأزيد ولا يسوغ إدغام الأزيد في الأنقص ما في قوله ﴿ما تذكرون﴾ موصولة بالفعل وهي معه منزلة المصدر والمعنى قليلا تذكركم ولا ذكر في الصلة يعود إليها كما لا يكون في صلة أن ذكر ومن قرأ تذكرون فإنه حذف التاء التي أدغمها من شدد الذال وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة ويقوي ذلك قولهم اسطاع يسطيع فحذفوا أحد الثلاثة المتقاربة ومن قرأ يتذكرون بياء وتاء فوجهه أنه مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي قليلا ما يتذكر هؤلاء.

اللغة:

قد تقدم ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة البقرة وذكرنا الأقوال في معانيها وإعرابها فلا معنى لإعادتها وبينا أن حروف الهجاء توصل على نية الوقف فرقا بينها وبين ما يوصل للمعاني فعلى هذا متى سميت رجلا بالمص وجبت الحكاية وإن سميته بصاد أو قاف لم يجب ذلك لأن صاد وقاف لهما نظير في الأسماء المفردة مثل باب ونار وليس كذلك ﴿المص﴾ لأنه بمنزلة الجملة إذ ليس له نظير في المفرد وإنما عد الكوفيون ﴿المص﴾ آية ولم يعدوا صاد لأن ﴿المص﴾ بمنزلة الجملة مع أن آخره على ثلاثة أحرف بمنزلة المردف فلما اجتمع هذان السببان وكل واحد منهما يقتضي عده عدوه ولم يعدوا المر لأن آخره لا يشبه المردف ولم يعدوا صاد لأنه بمنزلة اسم مفرد وكذلك قاف ونون ومن قال إن هذه الحروف في أوائل السور أسماء للسور فعلى قوله إنما سميت بها ولم تسم بالأسماء المنقولة لأنها تتضمن معاني أخر مضافة إلى التسمية وهو أنها فاتحة لما هو منها وأنها فاصلة بينها وبين ما قبلها ولأنه يأتي من التأليف بعدها ما هو معجز مع أنه تأليف كتأليفها فهذه المعاني من أسرارها والذكرى مصدر ذكر يذكر تذكيرا فهي اسم للتذكير وفيه مبالغة ومثله الرجعى.

الإعراب:

قال الزجاج أجمع النحويون على أن قوله ﴿كتاب أنزل إليك﴾ مرفوع بغير هذه الحروف فالمعنى هذا كتاب أنزل إليك ومن قال إن كتاب يرتفع بالمص وتقديره المص حروف كتاب يلزمه إضمار شيئين فيكون المعنى المص بعض حروف كتاب أنزل إليك فيكون قد أضمر المضاف وما أضيف إليه وهذا ليس بجائز فإن قال قائل قد يقول أ ب ت ث ثمانية وعشرون حرفا وإنما ذكرت أربعة فمن أين جاز ذلك قيل قد صار اسم هذه الحروف كلها أ ب ت ث كما أنك تقول الحمد سبع آيات فالحمد اسم لجملة السورة وليس اسم الكتاب الم ولا اسم القرآن طسم وهذا فرق بين قال والذي اخترناه في تفسير المص قول ابن عباس أن المص أنا الله أعلم وأفصل فيكون يرتفع بعض هذه الحروف ببعض والجملة لا موضع لها وقوله ﴿فلا يكن في صدرك حرج﴾ دخول الفاء فيه يحتمل وجهين (أحدهما) أن تكون عاطفة جملة على جملة وتقديره هذا كتاب أنزلناه إليك فلا يكن بعد إنزاله في صدرك حرج والآخر أن يكون جوابا وتقديره إذا كان أنزل إليك الكتاب لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه فيكون محمولا على معنى إذا ، وذكرى قال الزجاج يصلح أن يكون في موضع نصب ورفع وخفض فالنصب على قوله ﴿أنزل إليك﴾ لتنذر به ولتذكر به ذكري لأن في الإنذار معنى التذكير وهذا كما يقال جئتك للإحسان وشوقا إليك فيكون مفعولا له وأما الرفع فعلى تقدير وهو ذكرى وأما الخفض فعلى معنى لتنذر فإن معنى لتنذر لأن تنذر فيكون تقديره للإنذار وللذكرى قال علي بن عيسى وهذا الوجه ضعيف لأنه لا يجوز أن يحمل الجر على التأويل كما لا يجوز مررت به وزيد.

المعنى:

﴿المص﴾ مضى تفسيره وما قيل فيه ﴿كتاب أنزل إليك﴾ أي هذا الذي أوحيته إليك كتاب أنزل إليك أي أنزله الملائكة إليك بأمر الله تعالى ﴿فلا يكن في صدرك حرج منه﴾ ذكر في معناه أقوال (أحدها) ما ذكره الحسن أن معنى الحرج الضيق فمعناه ولا يضيقن صدرك لتشعب الفكر خوفا من أن لا تقوم بتبليغ ما أنزل إليك حق القيام فليس عليك أكثر من الإنذار (وثانيها) أن معنى الحرج الشك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي فمعناه فلا يكن في صدرك شك فيما يلزمك من القيام بحقه فإنما أنزل إليك لتنذر به (وثالثها) إن معناه فلا يضيقن صدرك من قومك أن يكذبوك ويجبهوك بالسوء فيما أنزل إليك كما قال سبحانه فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا عن الفراء وقد روي في الخبر أن الله تعالى لما نزل القرآن إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إني أخشى أن يكذبني الناس ويثلغوا رأسي فيتركوه كالخبزة فأزال الله الخوف عنه بهذه الآية وقوله ﴿لتنذر به﴾ أي بالقرآن قال الفراء والزجاج وأكثر العلماء أنه على التقديم والتأخير وتقديره كتاب أنزل إليك لتنذر به ﴿وذكرى للمؤمنين﴾ فلا يكن في صدرك حرج منه وقال آخرون هو متصل بقوله ﴿فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به﴾ أي كن على انشراح صدر بالإنذار ومعناه التخوف بوعده ووعيده وأمثاله وأمره ونهيه وليذكروا بما فيه وإنما خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به ثم خاطب الله سبحانه المكلفين فقال ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم﴾ ويحتمل أن يكون المراد قل لهم يا محمد اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم لأنه قال قبل لتنذر به والاتباع تصرف الثاني بتصرف الأول وتدبره بتدبيره فالأول إمام والثاني مؤتم ووجوب الاتباع فيما أنزل الله تعالى يدخل فيه الواجب والندب والمباح لأنه يجب أن يعتقد في كل منها ما أمر الله سبحانه به كما يجب أن يعتقد في الحرام وجوب اجتنابه ﴿ولا تتبعوا من دونه أولياء﴾ أي ولا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله لأن من لا يتبع القرآن صار متبعا لغير الله من الشيطان والأوثان فأمر سبحانه باتباع القرآن ونهى عن اتباع الشيطان ليعلموا أن اتباع القرآن اتباع له سبحانه ﴿قليلا ما تذكرون﴾ أي قليلا يا معشر المشركين تذكركم واتعاظكم وهذا استبطاء في التذكر وخرج مخرج الخبر والمراد به الأمر فمعناه تذكروا كثيرا ما يلزمكم من أمر دينكم وما أوجبه الله عليكم ومعنى التذكر أن يأخذ في الذكر شيئا بعد شيء مثل التفقه والتعلم.