الآيات 190-194

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ﴿190﴾ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿191﴾ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿192﴾ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ ﴿193﴾ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴿194﴾

فضلها:

روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان إذا قام من الليل استاك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول ﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾ إلى قوله ﴿فقنا عذاب النار﴾ وقد اشتهرت الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه لما نزلت هذه الآيات قال (ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل ما فيها) وورد عن الأئمة من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة وفي الضجعة بعد ركعتي الفجر وروى محمد بن علي بن محبوب عن العباس بن معروف عن عبد الله بن المغيرة عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وذكر أن النبي قال كان يؤتي بطهور فيخمر عند رأسه ويوضع سواكه تحت فراشه ثم ينام ما شاء الله فإذا استيقظ جلس ثم قلب بصره إلى السماء وتلا الآيات من آل عمران ﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾ الآيات ثم يستن ويتطهر ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه يركع حتى يقال متى يرفع رأسه ويسجد حتى يقال متى يرفع رأسه ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران ويعاب بصره في السماء ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد فيصلي أربع ركعات كما ركع قبل ذلك ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء الله ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران ويقلب بصره في السماء ثم يستن ويتطهر ويقوم إلى المسجد فيوتر ويصلي ركعتين ثم يخرج إلى الصلاة.

اللغة:

اللب العقل سمي به لأنه خير ما في الإنسان واللب من كل شيء خيره وخالصة سبحانك معناه تنزيها لك من أن تكون خلقتهما باطلا وبراءة مما لا يليق بصفاتك قال الشاعر:

سبحانه ثم سبحانا يعود له

وقبلنا سبح الجودي والحجر

والأبرار جمع بر وهو الذي بر الله بطاعته إياه حتى أرضاه وأصل البر الاتساع فالبر الواسع من الأرض خلاف البحر والبر صلة الرحم والبر العمل الصالح والبر الحنطة وأبر الرجل على أصحابه أي زاد عليهم.

الإعراب:

﴿الذين يذكرون﴾ في موضع جر صفة لأولي الألباب ﴿قياما وقعودا﴾ نصب على الحال و﴿على جنوبهم﴾ أيضا في موضع نصب على الحال ولذلك عطف على قياما وقعودا أي ومضطجعين لأن الظرف يكون حالا للمعرفة كما يكون نعتا للنكرة لما فيه من معنى الاستقرار تقول مررت برجل على الحائط أي مستقر على الحائط وكذا مررت برجل في الدار وتقول أنا أصير إلى فلان ماشيا وعلى الفرس فيكون موضع على الفرس نصبا على الحال من الضمير في أصير وقوله ﴿ما خلقت هذا باطلا﴾ أي يقولون ما خلقت هذا الخلق ولذلك لم يقل هذه ولا هؤلاء وباطلا نصب على أنه المفعول الثاني وقيل تقديره بالباطل وللباطل ثم نزع الحرف فوصل الفعل خبر إن في قوله ﴿إنك من تدخل النار فقد أخزيته﴾ جملة مركبة من الشرط والجزاء والأصل فيهما جملتان كل واحدة منهما من فعل وفاعل لأن موضع من نصب بتدخل على أنه مفعول به وقوله ﴿أن آمنوا﴾ يحتمل أن يكون أن هذه هي المفسرة بمعنى أي ويحتمل أن يكون الناصبة للفعل لأنه يصلح في مثله دخول الباء نحو ينادي بأن آمنوا.

المعنى:

لما بين سبحانه بأن له ملك السماوات والأرض عقبه ببيان الدلالات على ذلك فقال ﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾ أي في إيجادهما بما فيهما من العجائب والبدائع ﴿واختلاف الليل والنهار﴾ أي تعاقبهما ومجيء كل واحد منهما خلف الآخر ﴿لآيات﴾ أي دلالات على توحيد الله وصفاته العلي ﴿لأولي الألباب﴾ أي لذوي البصائر والعقول ووجه الدلالة في خلق السماوات والأرض أن وجودهما متضمن بأعراض حادثة وما لا ينفك عن الحادث فهو حادث مثله والمحدث لا بد له من محدث يحدثه وموجد يوجده فدل وجودهما وحدوثهما على أن لهما محدثا قادرا ودل إبداعهما بما فيهما من البدائع والأمور الجارية على غاية الانتظام والاتساق على أن مبدعهما عالم لأن الفعل المحكم المنتظم لا يصح إلا من عالم كما أن الإيجاد لا يصح إلا من قادر ودل ذلك أيضا على أن صانعهما قديم لم يزل لأنه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث فيؤدي إلى التسلسل ووجه الدلالة في تعاقب الليل والنهار أن في ترادفهما على مقدار معلوم لا يزيدان عليه ولا ينقصان منه ونقصان كل واحد منهما عن الآخر في حال وزيادته عليه في حال وازدياد أحدهما بقدر نقصان الآخر دلالة ظاهرة على أن لهما صانعا قادرا حكيما لا يدركه عجز ولا يلحقه سهو ثم وصف سبحانه أولي الألباب فقال ﴿الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم﴾ أي هؤلاء الذين يستدلون على توحيد الله بخلقه السماوات والأرض هم الذين يذكرون الله قائمين وقاعدين ومضطجعين أي في سائر الأحوال لأن أحوال المكلفين لا تخلو من هذه الأحوال الثلاثة وقد أمروا بذكر الله تعالى في جميعها وقيل معناه يصلون لله على قدر إمكانهم في صحتهم وسقمهم فالصحيح يصلي قائما والسقيم يصلي جالسا وعلى جنبه أي مضطجعا فسمي الصلاة ذكرا رواه علي بن إبراهيم في تفسيره ولا تنافي بين التفسيرين لأنه غير ممتنع وصفهم بالذكر في هذه الأحوال وهم في الصلاة وهو قول ابن جريج وقتادة ﴿ويتفكرون في خلق السماوات والأرض﴾ أي ومن صفة أولي الألباب أن يتفكروا في خلق السماوات والأرض ويتدبروا في ذلك ليستدلوا به على وحدانية الله تعالى وكمال قدرته وعلمه وحكمته ثم يقولون ﴿ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك﴾ أي ما خلقت هذا الخلق عبثا وقيل بالباطل وللباطل بل خلقته لغرض صحيح وحكمة ومصلحة ليكون دليلا على وحدانيتك وحجة على كمال حكمتك ثم ينزهونه عن كل ما لا يليق بصفاته أو يلحق نقصا بذاته فيقولون ﴿سبحانك﴾ أي تنزيها لك عما لا يجوز عليك فلم تخلقهما عبثا ولا لعبا بل تعريضا للثواب والأمن من العقاب ﴿فقنا عذاب النار﴾ بلطفك الذي يتمسك معه بطاعتك وفي هذه الآية دلالة على أن الكفر والقبائح والضلال ليست خلقا لله لأن هذه الأشياء كلها باطلة بلا خلاف وقد نفى الله تعالى ذلك بحكايته عن أولي الألباب الذين رضي أقوالهم بأنه لا باطل فيما خلقه فيجب بذاك القطع على أن القبائح كلها غير مضافة إليه ومنفية عنه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ثم حكى عن أولي الألباب الذين وصفهم بأنهم أيضا يقولون ﴿ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته﴾ قيل في وجوه (أحدها) أن معناه فضحته وأهنته فيكون منقولا من الخزي ونظيره قوله ﴿ولا تخزون في ضيفي﴾ (وثانيها) قول المفضل أن معناه أهلكته وأنشد:

أخزى الإله من الصليب إلهه

واللابسين ملابس الرهبان

(وثالثها) أن معناه أحللته محلا ووقفته موقفا يستحيا منه فيكون منقولا من الخزاية التي معناها الاستحياء وقال ذو الرمة:

خزاية أدركته بعد جولته

من جانب الدف مخلوطا به الغضب

واختلف أهل التأويل في المعنى بهذه الآية فروي عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وقتادة وابن جريج أن الإخزاء يكون بالتابيد في النار وهي خاصة بمن لا يخرج منها وقال جابر بن عبد الله أن الخزي يكون بالدخول فيها وروى عنه عمرو بن دينار وعطاء أنه قال وما أخزاه حين أحرقه بالنار وإن دون ذا لخزيا وهذا هو الأقوى لأن الخزي إنما هو هتك المخزي وفضيحته ومن عاقبه الله على ذنوبه فقد فضحه وهذا غير مناف لما نذهب إليه من جواز العفو عن المذنبين لأن على قول من قال أن الخزي هو الخلود في النار فمن عفا الله عنه لا يكون أخزاه إن أدخله النار ثم أخرجه منها بعد استيفاء العقاب وعلى قول من أثبت الخزي بنفس الدخول فإنه وإن كان خزيا فليس كمثل خزي الكفار ويجوز حمل قوله ﴿يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه﴾ على كلا الوجهين وعلى قول من جعله من الخزاية التي هي الاستحياء فيكون إخزاء المؤمنين محمولة على الاستحياء وإخزاء الكافرين على الإهانة والخلود في النار وقوله ﴿وما للظالمين من أنصار﴾ أي ليس لهم من يدفع عنهم عذاب الله على وجه المغالبة والقهر لأن الناصر هو الذي يدفع عن المنصور على وجه المغالبة ولا ينافي ذلك ما صح من شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والأولياء لأهل الكبائر لأن الشفاعة على سبيل المسألة والخضوع والتضرع إلى الله وليست من النصرة في شيء وصح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ليصيبن أقواما شفع بذنوب أصابوها ثم يخرجون فيسميهم أهل الجنة الجهنميين رواه البخاري بإسناده في الصحيح عن أنس بن مالك وفيما رواه أبو سعيد الخدري عنه (عليه السلام) قال فيخرجون قد امتحشوا وعادوا حمما قال فيلقون في نهر يقال له نهر الحياة قال فينبتون فيه كما تنبت الحبة في جميل السيل ورواه البخاري ومسلم أيضا في الصحيح وما روي في مثل ذلك من الأخبار لا يحصى وهذا كما تراه صريح في وقوع العفو عن مرتكبي الكبائر ﴿ربنا إننا سمعنا مناديا﴾ قيل المنادي محمد عن ابن عباس وابن مسعود وابن جريج واختاره الجبائي وقيل أنه القرآن عن محمد بن كعب القرظي وقتادة واختاره الطبري قال لأنه ليس يسمع كل أحد قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولا يراه والقرآن سمعه من رآه ولم يره كما قال مخبرا عن الجن إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ولمن نصر القول الأول أن يقول من بلغه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ودعوته جاز أن يقول سمعنا مناديا وإن كان فيه ضرب من التجوز ومعنى قوله ﴿سمعنا مناديا﴾ نداء مناد لأن المنادي لا يسمع وقوله ﴿ينادي للإيمان﴾ معناه إلى الإيمان كقوله ﴿الحمد لله الذي هدانا لهذا﴾ ومعناه إلى هذا وكقول الراجز:

أوحى لها القرار فاستقرت

وشدها بالراسيات الثبت

ومثله قوله ﴿بأن ربك أوحى لها﴾ فالمعنى ربنا إننا سمعنا داعيا يدعو إلى الإيمان والتصديق بك والإقرار بوحدانيتك واتباع رسولك واتباع أمره ونهيه وقوله ﴿أن آمنوا بربكم﴾ معناه بأن آمنوا بربكم فحذف الباء وقيل معناه قال لنا آمنوا بربكم ﴿ف آمنا﴾ أي فصدقنا الداعي فيما دعا إليه من التوحيد والدين وأجبناه ﴿فاغفر لنا ذنوبنا﴾ معناه استرها علينا ولا تفضحنا بها يوم القيامة على رءوس الأشهاد بعقوبتك ﴿وكفر عنا سيئاتنا﴾ معناه امحها بفضلك ورحمتك إيانا ﴿وتوفنا مع الأبرار﴾ معناه واقبضنا إليك في جملة الأبرار واحشرنا معهم فإن قيل ما معنى قوله ﴿وكفر عنا سيئاتنا﴾ وقد أغنى عنه قوله ﴿فاغفر لنا﴾ فالجواب عنه من وجهين (أحدهما) إن معناه اغفر لنا ذنوبنا ابتداء بلا توبة وكفر عنا إن تبنا والثاني إن معناه اغفر لنا ذنوبنا بالتوبة وكفر عنا باجتناب الكبائر من السيئات لأن الغفران قد يكون ابتداء ومن سبب والتكفير لا يكون إلا عند فعل من العبد والأول أليق بمذهبنا ﴿ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك﴾ هذه حكاية عمن تقدم وصفهم بأنهم يقولون أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك من الثواب ﴿ولا تخزنا﴾ أي لا تفضحنا أو لا تهلكنا ﴿يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد﴾ وهو كلام مستأنف بدلالة أنه كسر إن والمعنى أنك وعدت الجنة لمن آمن بك وأنت لا تخلف وعدك فإن قيل ما وجه المسألة في إنجاز الوعد والمعلوم أنه يفعله لا محالة فالجواب عنه من وجوه (أحدها) إن ذلك على وجه الانقطاع إلى الله والتضرع له والتعبد كما قال ﴿وقل رب احكم بالحق﴾ واختاره علي بن عيسى والجبائي (والثاني) إن الكلام خرج مخرج المسألة والمراد الخبر أي توفنا مع الأبرار لتؤتينا ما وعدتنا به على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة لأنهم علموا أن ما وعد الله به حق ولا بد أن ينجزه (والثالث) معناه السؤال والدعاء بأن يجعلهم ممن أتاهم ما وعدهم من الكرامة على ألسن رسله لا أنهم قد استحقوا منزلة الكرامة عند الله في أنفسهم وشهدوا ثم سألوه أن يؤتيهم ما وعدهم بعد علمهم باستحقاقهم عند أنفسهم لأنه لو كان كذا لكانوا قد زكوا أنفسهم وشهدوا بأنهم استوجبوا كرامة الله ولا يليق ذلك بصفة أهل الفضل من المؤمنين (والرابع) أنهم إنما سألوا ذلك على وجه الرغبة منهم إلى الله في أن يؤتيهم ما وعدهم من النصر على أعدائهم من أهل الكفر وإعلاء كلمة الحق على الباطل ليعجل ذلك لهم لأنه لا يجوز أن يكونوا مع ما وصفهم الله به غير واثقين ولا على غير يقين أن الله لا يخلف الميعاد فرغبوا إليه في تعجيل ذلك ولكنهم كانوا وعدوا النصر ولم يوقت لهم في ذلك وقت فرغبوا إليه في تعجيل ذلك لهم لما لهم في ذلك من السرور بالظفر وهو اختيار الطبري وقال الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي الذين رغبوا في تعجيل النصرة على أعدائهم وقالوا لا صبر لنا على أناتك وحلمك وقوي ذلك بما بعد هذه الآية من قوله ﴿فاستجاب لهم ربهم﴾ الآيات وإلى هذا أومأ أبو القاسم البلخي أيضا.