الآيـة 178
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿178﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير وأبوعمرو ﴿ولا يحسبن الذين كفروا﴾ ولا يحسبن الذين يبخلون ولا يحسبن الذين يفرحون كلهن بالياء وكسر السين وكذلك فلا يحسبنهم بضم الباء وبالياء وكسر السين وقرأ حمزة كلها بالتاء وفتح السين وفتح الباء من يحسبنهم وقرأ أهل المدينة والشام ويعقوب كلها بالياء إلا قوله فلا تحسبنهم بالتاء وفتح الباء إلا إن أهل المدينة ويعقوب كسروا السين وفتحها الشامي وقرأ عاصم والكسائي وخلف كل ما في هذه السورة بالتاء إلا حرفين ﴿ولا يحسبن الذين كفروا﴾ ، ولا يحسبن الذين يبخلون فإنهما بالياء غير أن عاصما فتح السين وكسرها الكسائي.
الحجة والإعراب:
من قرأ بالياء فالذين في هذه الآي في موضع الرفع بأنه فاعل وإذا كان الذين فاعلا ويقتضي حسب مفعولين أو ما يسد مسد المفعولين نحو حسبت أن زيدا منطلق وحسبت أن يقوم عمرو فقوله تعالى ﴿إنما نملي لهم خير لأنفسهم﴾ قد سد مسد مفعولين الذين يقتضيهما يحسبن وما يحتمل أمرين (أحدهما) أن يكون بمعنى الذي فيكون تقديره لا يحسبن الذين كفروا أن الذي نمليه لهم خير لأنفسهم (والآخر) أن يكون ما نملي بمنزلة الإملاء فيكون مصدرا وإذا كان مصدرا لم يقتض راجعا إليه وقال المبرد من قرأ ﴿يحسبن﴾ بالياء فتح إن ويقبح الكسر مع الياء وهو جائز على قبحه لأن الحسبان ليس بفعل حقيقي فهو يبطل عمله مع إن المكسورة كما يبطل مع اللام كما يجوز حسبت لعبد الله منطلق يجوز على بعد حسبت أن عبد الله منطلق وقال أبوعلي الوجه فيه أن يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء وتدخل كل واحد منهما على الابتداء والخبر فكأنه قال لا يحسبن الذين كفروا للآخرة خيرا لهم وأما قراءة حمزة بالتاء من تحسبن وبفتح إن فقد خطأه البصريون في ذلك لأنه يصير المعنى ولا تحسبن الذين كفروا إملاءنا وذلك لا يصح غير أن الزجاج قال يجوز على البدل من الذين والمعنى ولا تحسبن إملاء للذين كفروا خيرا لهم ومثله في الشعر:
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
قال أبوعلي لا يجوز ذلك لأنك إذا أبدلت إن من الذين كفروا لزمك أن تنصب خيرا من حيث كان المفعول الثاني ولم ينصبه أحد من القراء وإذا لم يصح البدل لم يجز فيه إلا كسر أن على أن يكون إن وخبرها في موضع المفعول الثاني من تحسبن.
اللغة:
الإملاء إطالة المدة والملي الحين الطويل والملأ الدهر والملوان الليل والنهار لطول تعاقبهما.
النزول:
نزلت في مشركي مكة عن مقاتل وفي قريظة والنضير عن عطاء.
المعنى:
ثم بين سبحانه أن إمهال الكفار لا ينفعهم إذا كان يؤدي إلى العقاب فقال ﴿ولا يحسبن﴾ أي لا يظنن ﴿الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم﴾ أي إن إطالتنا لأعمارهم وإمهالنا إياهم خير لهم من القتل في سبيل الله بأحد لأن قتل الشهداء أداهم إلى الجنة وبقاء هؤلاء في الكفر يؤديهم إلى العقاب ثم ابتدأ سبحانه فقال ﴿إنما نملي لهم﴾ أي إنما نطيل عمرهم ونترك المعاجلة لعقوبتهم ﴿ليزدادوا إثما﴾ أي لتكون عاقبة أمرهم بازديادهم الإثم فيكون اللام لام العاقبة مثل اللام في قوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وهم إنما أخذوه ليكون لهم سرورا وقرة عين ولكن لما علم الله أنه يصير في آخر أمره عدوا وحزنا قال كذلك ومثله في قول الشاعر :
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها وقول الآخر:
ءأم سماك فلا تجزعي
فللموت ما تلد الوالدة وقول الآخر:
فللموت تغذو الوالدات سخالها
كما لخراب الدهر تبنى المساكن وقول الآخر:
لدوا للموت وابنوا للخراب ولا يجوز أن يكون اللام لام الإرادة والغرض لوجهين (أحدهما) أن إرادة القبيح قبيحة وتلك عنه سبحانه منفية (والآخر) أنها لو كانت لام الإرادة لوجب أن يكون الكفار مطيعين لله تعالى من حيث فعلوا ما وافق إرادته وذلك خلاف الإجماع وقد قال عز اسمه وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وما أمروا إلا ليعبدوا الله والقرآن يصدق بعضه بعضا وعلى هذا فلا بد من تخصيص الآية فيمن علم منه أنه لا يؤمن لأنه لو كان فيهم من يؤمن لما توجه إليهم هذا الوعيد المخصوص وقال أبو القاسم البلخي معناه ولا يحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لهم رضا بأفعالهم وقبول لها بل هوشر لهم لأنا نملي لهم وهم يزدادون إثما يستحقون به العذاب الأليم ومثله ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس أي ذرأنا كثيرا من الخلق سيصيرون إلى جهنم بسوء أفعالهم وقد يقول الرجل لغيره وقد نصحه فلم يقبل نصحه ما زادك نصحي إلا شرا ووعظي إلا فسادا ونظيره قوله حتى أنسوكم ذكري ومعلوم أن الرسل ما أنسوهم ذكر الله على الحقيقة وما بعثوا إلا للتذكير والتنبيه دون الإنساء مع أن الإنساء ليس من فعلهم فلا يجوز إضافته إليهم ولكنه إنما أضيف إليهم لأن دعاءه إياهم لما كان لا ينجع فيهم ولا يردهم عن معاصيهم فأضيف الإنساء إليهم وفي هذا المعنى قوله حكاية عن نوح فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وروي عن أبي الحسن الأخفش والإسكافي أنهما قالا إن في الآية تقديما وتأخيرا وتقديره ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم وهذا بعيد لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون إنما الأخيرة مفتوحة الهمزة لأنها معمول ليحسبن على هذا القول وأن يكون إنما الأولى مكسورة الهمزة لأنها مبتدأ على هذا القول والتقديم والتأخير لا يغيران الإعراب عن استحقاقه وذلك خلاف ما عليه القراءة لأن القراء قد أجمعوا على كسر الثانية وأكثرهم على فتح الأولى ﴿ولهم عذاب مهين﴾ يهينهم في نار جهنم.