الآية- 159

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴿159﴾

اللغة:

(الفظ الغليظ) الجافي القاسي القلب يقال منه فظظت تفظ فظاظة وأنت فظ على وزن فعل إلا أنه أدغم كصب والفظاظة خشونة الكلام والافتظاظ شرب ماء الكرش لجفائه على الطبائع فإن أصل الفظاظة الجفوة والفظ ماء الكرش والفض بالضاد تفريق الشيء والانفضاض التفرق وشاورت الرجل مشاورة وشوارا والاسم المشورة وقيل المشورة وفلان حسن الشورة والصورة أي الهيأة واللباس وأنه لصير شير وهو حسن الشارة ومعنى قولهم شاورت فلانا أظهرت في الرأي ما عندي وما عنده وشرت الدابة أشورها إذا امتحنتها فعرقت هيئتها في سيرها وشرت العسل وأشرته إذا أخذته من مواضع النحل وعسل مشور ومشار قال الشاعر:

كان القرنفل والزنجبيل

باتا بفيها وأريا مشورا وقال عدي بن زيد:

وغناء يأذن الشيخ له

وحديث مثل ما ذي مشار والعزم عقد القلب على الشيء تريد أن تفعله والعزيمة كذلك قال ابن دريد يقال عزمت عليك يعني أقسمت عليك والتوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير والتوكل على الله هو تفويض الأمر إليه والثقة بحسن تدبيره وأصله الاتكال وهو الاكتفاء في فعل ما يحتاج إليه ممن يستند إليه ومنه الوكالة لأنه عقد على الكفاية بالنيابة والوكيل هو المتكل عليه بتفويض الأمر إليه.

الإعراب:

﴿فبما رحمة﴾ ما زائدة بإجماع المفسرين ومثله قوله عما قليل جاءت ما مؤكدة للكلام ودخولها تحسن النظم كدخولها لاتزان الشعر في نحو قول عنترة:

يا شاة ما قنص لمن حلت له

حرمت علي ووليتها لم تحرم وقال الفرزدق:

ناديت أنك إن نجوت فبعد ما

يأس وقد نظرت إليك شعوب وذلك ليتمكن المعنى في النفس فجرى مجرى التكرير.

المعنى:

ثم بين سبحانه أن مساهلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إياهم ومجاوزته عنهم من رحمته تعالى حيث جعله لين العطف حسن الخلق ﴿فبما رحمة﴾ أي فبرحمة ﴿من الله لنت لهم﴾ معناه أن لينك لهم مما يوجب دخولهم في الدين لأنك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين ﴿ولو كنت﴾ يا محمد ﴿فظا﴾ أي جافيا سيء الخلق ﴿غليظ القلب﴾ أي قاسي الفؤاد غير ذي رحمة ولا رأفة ﴿لانفضوا من حولك﴾ أي لتفرق أصحابك عنك ونفروا منك وقيل إنما جمع بين الفظاظة والغلظة وإن كانتا متقاربتين لأن الفظاظة في الكلام فنفى الجفاء عن لسانه والقسوة عن قلبه ﴿فاعف عنهم﴾ ما بينك وبينهم ﴿واستغفر لهم﴾ ما بينهم وبيني وقيل معناه فاعف عنهم فرارهم من أحد واستغفر لهم من ذلك الذنب ﴿وشاورهم في الأمر﴾ أي استخرج آراءهم واعلم ما عندهم واختلفوا في فائدة مشاورته إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد على أقوال (أحدها) أن ذلك على وجه التطييب لنفوسهم والت آلف لهم والرفع من أقدارهم ليبين أنهم ممن يوثق بأقوالهم ويرجع إلى آرائهم عن قتادة والربيع وابن إسحاق (وثانيها) أن ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة ولم يروها نقيصة كما مدحوا بأن أمرهم شورى بينهم عن سفيان بن عيينة (وثالثها) أن ذلك ليمتحنهم بالمشاورة ليتميز الناصح من الغاش (وخامسها) أن ذلك في أمور الدنيا ومكائد الحرب ولقاء العدو وفي مثل ذلك يجوز أن يستعين ب آرائهم عن أبي علي الجبائي ﴿فإذا عزمت﴾ أي فإذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه ورووا عن جعفر بن محمد وعن جابر بن يزيد فإذا عزمت بالضم فعلى هذا يكون معناه فإذا عزمت لك ووفقتك وأرشدتك ﴿فتوكل على الله﴾ أي فاعتمد على الله وثق به وفوض أمرك إليه ﴿إن الله يحب المتوكلين﴾ يعني الواثقين به والمعتمدين عليه والمنقطعين إليه الواكلين أمرهم إلى لطفه وتدبيره وفي هذه الآية دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال ومن عجيب أمره (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه كان أجمع الناس لدواعي الترفع ثم كان أدناهم إلى التواضع وذلك أنه كان أوسط الناس نسبا وأوفرهم حسبا وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم وهذه كلها من دواعي الترفع ثم كان من تواضعه أنه كان يرقع الثوب ويخصف النعل ويركب الحمار ويعلف الناضح ويجيب دعوة المملوك ويجلس في الأرض ويأكل على الأرض وكان يدعو إلى الله من غير زئر ولا كهر ولا زجر ولقد أحسن من مدحه في قوله:

فما حملت من ناقة فوق ظهرها

أبر وأوفى ذمة من محمد وفي الآية أيضا ترغيب للمؤمنين في العفو عن المسيء وحثهم على الاستغفار لمن يذنب منهم وعلى مشاورة بعضهم بعضا فيما يعرض لهم من الأمور ونهيهم عن الفظاظة في القول والغلظة والجفاء في الفعل ودعائهم إلى التوكل عليه وتفويض الأمر إليه وفيها أيضا دلالة على ما نقوله في اللطف لأنه سبحانه نبه على أنه لو لا رحمته لم يقع اللين والتواضع ولو لم يكن كذلك لما أجابوه فبين أن الأمور المنفرة منفية عنه وعن سائر الأنبياء ومن يجري مجراهم في أنه حجة على الخلق وهذا يوجب تنزيههم أيضا عن الكبائر لأن التنفير في ذلك أكثر.