الآيات 153-154

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿153﴾ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿154﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة غير عاصم تغشى طائفة بالتاء والباقون ﴿يغشي﴾ بالياء وقرأ أهل البصرة كله لله بالرفع والباقون بالنصب.

الحجة:

قال أبو علي حجة من قرأ ﴿يغشي﴾ بالياء قوله إذ يغشيكم النعاس أمنة والنعاس هو الغاشي ولأن يغشي أقرب إلى النعاس فأسناد الفعل إليه أولى ويقال غشيني النعاس وغلب علي النعاس ولا يسهل غشيتني الأمنة وحجة من قرأ بالتاء أن النعاس وإن كان بدلا من الأمنة فليس المبدل منه في طريق ما يسقط من الكلام يدلك على ذلك قولهم الذي مررت به زيد أبو عبد الله وقال:

وكأنه لهق السراة كأنه

ما حاجبيه مغير بسواد

فجعل الخبر على الذي أبدل منه وحجة من نصب كله أن كله بمنزلة أجمعين في أنه الإحاطة والعموم فالوجه أن لا يلي العوامل كما لا يليها أجمعون وحجة أبي عمرو في رفعه كله وابتداؤه به أنه وإن كان في أكثر الأمر بمنزلة أجمعين لعمومها فقد ابتدىء بها كما ابتدىء بسائر الأسماء نحو قوله وكلهم آتيه يوم القيامة فردا فابتدأ به في الآية.

اللغة:

الفرق بين الإصعاد والصعود أن الإصعاد في مستوى من الأرض والصعود في ارتفاع يقال أصعدنا من مكة إذا ابتدأنا السفر منها ومنه قول الشاعر:

هواي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب وجثماني بمكة موثق

وروي عن الحسن أنه قرأ تصعدون بفتح التاء والعين وقال إنهم صعدوا في الجبل فرارا وقال الفراء الإصعاد الابتداء في كل سفر والانحدار الرجوع عنه ولا تلون أي لا تعرجون على أحد كما يفعله المنهزم ولا يذكر هذه إلا في النفي لا يقال لويت على كذا وأصله من لي العنق للالتفات والنعاس الوسن وناقة نعوس توصف بالسماحة في الدر.

الإعراب:

قوله ﴿إذ تصعدون﴾ العامل في إذ قوله ولقد عفا عنكم واللام في قوله ﴿لكيلا تحزنوا﴾ يتعلق به أيضا وقيل يتعلق بقوله ﴿فأثابكم﴾ ولا تحزنوا منصوب بكي وأمنة مفعول أنزل ونعاسا بدل منها وطائفة الأولى مفعول يغشي وطائفة الثانية مرفوعة بالابتداء وخبرها يظنون و﴿قد أهمتهم أنفسهم﴾ في موضع رفع بالصفة ويجوز أن يكون قد أهمتهم أنفسهم خبرا والواو في طائفة واو الحال على تقدير يغشي النعاس طائفة في حال ما أهمت طائفة منهم أنفسهم فالجملة في موضع الحال ويجوز النصب على أن يجعل الواو واو العطف كما تقول ضربت زيدا وعمرا أكرمته فيكون منصوبا على إضمار فعل الذي قد ظهر تفسيره.

المعنى:

ثم ذكر تعالى المنهزمين من أصحاب رسول الله يوم أحد فقال ﴿إذ تصعدون﴾ معناه ولقد عفا عنكم إذ تذهبون في وادي أحد للانهزام فرارا من العدو عن قتادة والربيع ﴿ولا تلوون على أحد﴾ أي لا تقيمون على من خلفتم في الحرب ولا تلتفتون إليهم ولا يقف أحد منكم على أحد ﴿و الرسول﴾ يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿يدعوكم في أخراكم﴾ أي يناديكم من ورائكم فيقول ارجعوا إلى عباد الله ارجعوا إلي أنا رسول الله يقال فلان جاء في آخر الناس وآخرة الناس وأخرى الناس إذا جاء خلفهم ﴿فأثابكم غما بغم﴾ اختلف فيه على أقوال (أحدها) أن معناه جعل مكان ما ترجونه من الثواب أن غمكم بالهزيمة وظفر المشركين بكم بغمكم رسول الله إذ عصيتموه وضيعتم أمره فالغم الأول لهم والثاني للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) واختاره الزجاج (وثانيها) أن معناه غما على غم أو غما مع غم أو غما بعد غم كما يقال نزلت بفلان وعلى فلأن حتى فعل كذا ويقال ما نزلت بزيد حتى فعل أي مع زيد وأراد به كثرة الغم بالندم على ما فعلوا وبما أصابهم من الشدائد وأنهم لا يدرون ما استحقوا به من عقاب الله (وثالثها) أن الغم الأول القتل والجراح والثاني الإرجاف بقتل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن قتادة والربيع (ورابعها) أثابكم غما يوم أحد بغم ألحق المشركين يوم بدر عن الحسن وفي هذا القول نظر لأن ما لحق المشركين من الغم يوم بدر من جهة المسلمين إنما توجب المجازاة بالكرامة دون الغم (وخامسها) أن المراد غم المشركين بما ظهر من قوة المسلمين على طلبهم وخروجهم إلى حمراء الأسد فجعل هذا الغم عوضا عن غم المسلمين بما نيل منهم عن الحسين بن علي المغربي وإنما قيل في الغم ثواب لأن أصله ما يرجع إلى المجازاة على الفعل طاعة كان أو معصية ثم كثر في جزاء الطاعة فهو كما قال الشاعر:

وأراني طربا في إثرهم

طرب الواله أو كالمختبل

وقيل أنه مما وضع مكان غيره كقوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم أي ضعه موضع البشارة فهو كما قال الشاعر:

أخاف زيادا إن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو مدحرجة سمرا

﴿لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم﴾ معناه فعل بكم هذا الغم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ولا تتركوا أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولئلا تحزنوا على ما أصابكم من الشدائد في سبيل الله وليكن غمكم بأن خالفتم النبي فقط وتقديره ليشغلكم حزنكم على سوء ما صنعتم عن الحزن على غيره وقيل معناه ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن ﴿و الله خبير بما تعملون﴾ فيه ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية ثم ذكر ما أنعم به عليهم بعد ذلك حتى تراجعوا وأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فأنزل النعاس عليهم في تلك الحالة حتى كانوا يسقطون على الأرض وكان المنافقون لا يستقرون حتى طارت عقولهم فقال ﴿ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا﴾ لفظ الإنزال توسع ومعناه ثم وهب الله لكم أيها المؤمنون بعد ما نالكم من يوم أحد من الغم أمنة يعني أمنا نعاسا أي نوما وهو بدل الاشتمال عن أمنة لأن النوم يشتمل على الأمن لأن الخائف لا ينام ثم ذكر سبحانه إن تلك الأمنة لم تكن عامة بل كانت لأهل الإخلاص وبقي لأهل النفاق الخوف والسهر فقال ﴿يغشى طائفة منكم﴾ يعني المؤمنين ألقي عليهم النوم وكان السبب في ذلك توعد المشركين لهم بالرجوع إلى القتال فقعد المسلمون تحت الجحف متهيئين للحرب فأنزل الله الأمنة على المؤمنين فناموا دون المنافقين الذين أزعجهم الخوف بأن يرجع الكفار عليهم أو يغيروا على المدينة لسوء الظن فطير عنهم النوم عن ابن إسحاق وابن زيد وقتادة والربيع ﴿وطائفة قد أهمتهم أنفسهم﴾ أي وجماعة قد شغلتهم أنفسهم وقيل حملتهم على الهم ومنه قول العرب همك ما أهمك ومعناه كان همهم خلاص أنفسهم والعرب تطلق هذا اللفظ على كل خائف وجل شغله هم نفسه عن غيره ﴿يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية﴾ أي يتوهمون أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه كظنهم في الجاهلية وقيل كظن أهل الجاهلية وهم الكفار والمكذبون بوعد الله ووعيده فكان ظن المنافقين كظنهم وقيل ظنهم ما ذكر بعده من قوله ﴿يقولون هل لنا من الأمر من شيء﴾ فهذا تفسير لظنهم يعني يقول بعضهم لبعض هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار أي أ نطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء أي ليس لنا من ذلك شيء وقيل إن معناه إنا أخرجنا كرها ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا عن الحسن وكان هذا القائل عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما عن الزبير بن العوام وابن جريج ﴿قل﴾ يا محمد ﴿إن الأمر كله لله﴾ ينصر من يشاء ويخذل من يشاء لا خاذل لمن نصره ولا ناصر لمن خذله وربما عجل النصر وربما أخره لضرب من الحكمة ولا يكون لوعده خلف والمراد بالأمر في الموضعين النصر ﴿يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك﴾ أي يخفون في أنفسهم الشك والنفاق وما لا يستطيعون إظهاره لك ﴿يقولون لو كان لنا من الأمر﴾ أي من الظفر كما وعدنا ﴿شيء ما قتلنا هاهنا﴾ أي ما قتل أصحابنا شكا منهم فيما وعده الله تعالى نبيه من الاستعلاء على أهل الشرك وتكذيبا به ﴿قل﴾ يا محمد لهم في جواب ذلك ﴿لو كنتم في بيوتكم﴾ ومنازلكم ﴿لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم﴾ قيل فيه قولان (أحدهما) أن معناه لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون وتخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون والتقدير ولو تخلفتم عن القتال لما تخلف المؤمنون (والثاني) إن معناه لو كنتم في منازلكم لخرج الذين كتب عليهم القتل أي كتب آجالهم وموتهم وقتلهم في اللوح المحفوظ في ذلك الوقت إلى مصارعهم وذلك إن ما علم الله كونه فإنه يكون كما علمه لا محالة وليس في ذلك أن المشركين غير قادرين على ترك القتال من حيث علم الله ذلك منهم وكتبه لأنه كما علم أنهم لا يختارون ذلك علم أنهم قادرون ولو وجب ذلك لوجب أن يكون تعالى قادرا على ما علم أنه لا يفعله والقول بذلك كفر ﴿وليبتلي الله ما في صدوركم﴾ أي يختبر الله ما في صدوركم بأعمالكم لأنه قد علمه غيبا فيعلمه شهادة لأن المجازاة إنما تقع على ما علم مشاهدة لا على ما هو معلوم منهم غير معمول عن الزجاج وقيل معناه ليعاملكم معاملة المبتلين مظاهرة في العدل عليكم وقيل أنه عطف على قوله ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ﴿وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم﴾ أي يخلص وقيل هذا خطاب للمنافقين أي يأمركم بالخروج فلا تخرجون فيظهر للمسلمين معاداتكم لهم وتنكشف أسراركم فلا يعدكم المسلمون من جملتهم وقيل معناه ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم كما في قوله ﴿الذين يحاربون الله ورسوله﴾ و﴿يؤذون الله ورسوله﴾ وقيل أنه عطف على قوله ﴿أمنة نعاسا﴾ أي ليظهر عند هذه الأحوال موافقة باطنكم ظاهركم ﴿وليمحص ما في قلوبكم﴾ أي يطهرها من الشك بما يريكم من عجائب صنعه ويخلص نياتكم وهذا التمحيص خاص للمؤمنين دون المنافقين ﴿والله عليم بذات الصدور﴾ معناه أن الله لا يبتليكم ليعلم ما في صدوركم فإن الله عليم بذلك وإنما ابتلاكم ليظهر أسراركم فيقع الجزاء على ما ظهر.