الآيات72-74

وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿72﴾ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿73﴾ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿74﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير أن يؤتى أحد ممدودا والباقون ﴿أن يؤتى﴾ بغير مد واستفهام.

الحجة:

قال أبو علي من قرأ ﴿أن يؤتى أحد﴾ فتقديره لا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وقوله ﴿قل إن الهدى هدى الله﴾ اعتراض بين المفعول وفعله وإذا حذفت الجار من أن كان على الخلاف يكون في قول الخليل جرا وفي قول سيبويه نصبا فأما اللام في قوله ﴿لمن تبع دينكم﴾ فلا يسهل أن تعلقه بتؤمنوا وأنت قد أوصلته بحرف آخر جار فتعلق بالفعل جارين كما لا يستقيم أن تعديه إلى مفعولين إذا كان يتعدى إلى مفعول واحد أ لا ترى أن تعدية الفعل بالجار كتعديته بالهمز وتضعيف العين فكما لا يتكرر هذان كذلك لا يتكرر الجار فإذا لم يسهل تعليق المفعولين به حملته على المعنى والمعنى لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم كما تقول أقررت لزيد بألف فيكون اللام متعلقا بالمعنى ولا تكون زائدة على حد أن كنتم للرؤيا تعبرون ولكن يتعلق بالإقرار وإن شئت عملت الكلام على معنى الجحود فكأنه قال اجحدوا الناس إلا لمن تبع دينكم فيكون اللام على هذا زائدة وقد تعدى آمن باللام في غير هذا قال الله تعالى ﴿فما آمن لموسى إلا ذرية﴾ وقال ﴿آمنتم له قبل أن آذن لكم﴾ وقال ﴿يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين﴾ فتعدى مرة بالباء ومرة باللام ووجه قراءة ابن كثير أن في موضع رفع بالابتداء لأنه لا يجوز أن يحمل على ما قبله من الفعل لقطع الاستفهام بينهما وخبره تصدقون به وتعترفون به ونحو ذلك مما دل عليه قوله ﴿ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم﴾ هذا على قول من قال أزيد ضربته ومن قال أزيدا ضربته كان أن عنده في موضع نصب ويجوز أن يكون موضع أن نصبا على معنى تذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو تشيعون ويدل على ذلك قوله تعالى ﴿أتحدثونهم بما فتح الله عليكم﴾ فحديثهم بذلك إشاعة منهم وإفشاء وبخ بعضهم بعضا بالحديث لما علموه من أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعرفوه من وصفه فهذه الآية في معنى قراءة ابن كثير ولعله اعتبرها في قراءته.

اللغة:

الطائفة الجماعة وفي أصلها قولان (أحدهما) أنه كالرفقة التي من شأنها أن تطوف البلاد في السفر الذي يقع عليه الاجتماع (والآخر) أنها جماعة يستوي بها حلقة يطاف حولها و﴿وجه النهار﴾ أوله وسمي وجها لأنه أول ما يواجهك منه كما يقال لأول الثوب وجه الثوب وقيل لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه قال الربيع بن زياد:

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار.

النزول:

قال الحسن والسدي تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد وأكفروا به آخر النهار وقولوا أنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينه وقالوا أنهم أهل الكتاب وهم أعلم به منا فيرجعون عن دينهم إلى دينكم وقال مجاهد ومقاتل والكلبي كان هذا في شأن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالله وبما أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار وارجعوا إلى قبلتكم آخره لعلهم يشكون.

المعنى:

لما ذكر تعالى صدرا من كياد القوم عقبه بذكر هذه المكيدة الشديدة فقال ﴿وقالت طائفة﴾ أي جماعة ﴿من أهل الكتاب﴾ أي بعضهم لبعض ﴿آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا﴾ يعنون النبي وأصحابه ﴿وجه النهار وأكفروا آخره﴾ واختلف في معناه على أقوال (أحدها) أظهروا الإيمان لهم أول النهار وارجعوا عنه في آخره فإنه أحرى أن ينقلبوا عن دينهم عن الحسن وجماعة (وثانيها) آمنوا بصلاتهم إلى الكعبة أول النهار وأكفروا آخره ليرجعوا بذلك عن دينهم عن مجاهد (وثالثها) أظهروا الإيمان في صدر النهار بما سلف لكم من الإقرار بصفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم ارجعوا في آخره لتوهموهم أنه كان قد وقع غلط في صفته ﴿لعلهم يرجعون﴾ عن دينهم الإسلام عن ابن عباس وجماعة ﴿ولا تؤمنوا﴾ أي ولا تصدقوا ﴿إلا لمن تبع دينكم﴾ اليهودية وقام بشرائعكم وهو عطف على ما مضى واختلف في معنى الآية على أقوال (أحدها) أن معناه ولا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة والبيان والحجة إلا لمن تبع دينكم من أهل الكتاب وقيل إنما قال ذلك يهود خيبر ليهود المدينة لئلا يعترفوا به فيلومونهم به لإقرارهم بصحته وقيل معناه لا تعترفوا بالحق إلا لمن تبع دينكم وقوله ﴿أو يحاجوكم عند ربكم﴾ لأنكم أصح دينا منهم فلا تكون لهم الحجة عليكم عند الله فيكون هذا كله من كلام اليهود وقوله ﴿قل إن الهدى هدى الله﴾ و﴿قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء﴾ كلام الله جوابا لليهود وردا عليهم أي ﴿قل﴾ يا محمد ﴿إن الهدى هدى الله﴾ و﴿قل إن الفضل بيد الله﴾ فلا ينبغي لهم أن ينكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا وهذا معنى الحسن وأبي علي الفارسي (وثانيها) أن يكون قوله ﴿ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم﴾ كلام اليهود وما بعده من الله ويكون المعنى ﴿قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم﴾ أيها المسلمون كقوله ﴿يبين الله لكم أن تضلوا﴾ أي أن لا تضلوا وإن لا يحاجوكم عند ربكم لأنه لا حجة لهم ويكون هدى الله بدلا من الهدى والخبر أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهذا قول السدي وابن جريج وقال أبو العباس المبرد أن لا ليست مما تحذف هاهنا ولكن الإضافة هنا معلومة فحذفت الأول وأقيمت الثانية مقامه والمعنى ﴿قل إن الهدى هدى الله﴾ كراهة ﴿أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم﴾ أي مما خالف دين الله لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهدى الله بعيد من غير المؤمنين وكذلك تقدير قوله يبين الله لكم كراهة أن تضلوا وقال قوم أن تقديره قل يا محمد أن الهدى إلى الخير هدى الله فلا تجحدوا أيها اليهود أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من النبوة ﴿أو﴾ أن ﴿يحاجوكم﴾ بذلك ﴿عند ربكم﴾ إن لم تقبلوا ذلك منهم عن قتادة والربيع والجبائي وقيل ﴿إن الهدى هدى الله﴾ معناه أن الحق ما أمر الله به ثم فسر الهدى فقال ﴿أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم﴾ فالمؤتى هو الشرع وما يحاج به هو العقل وتقدير الكلام أن هدى الله ما شرع أو ما عهد به في العقل فهذه أربعة أقوال (وثالثها) أن يكون الكلام من أول الآية إلى آخرها لله تعالى وتقديره ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الإسلام ولا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين فلا نبي بعد نبيكم ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الأديان و﴿إن الهدى هدى الله﴾ و﴿أن الفضل بيد الله﴾ فتكون الآية كلها خطابا للمؤمنين من الله تعالى عند تلبيس اليهود عليهم لئلا يزلوا ويدل عليه ما قاله الضحاك أن اليهود قالوا إنا نحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى أنهم هم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون وقوله ﴿قل إن الفضل بيد الله﴾ قيل يريد به النبوة وقيل الحجج التي أوتيها محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ومن معه وقيل نعم الدين والدنيا وقوله ﴿بيد الله﴾ أي في ملكه وهو القادر عليه العالم بمحله ﴿يؤتيه من يشاء﴾ وفي هذه دلالة على أن النبوة ليست بمستحقة وكذلك الإمامة لأن الله سبحانه علقه بالمشيئة ﴿و الله واسع﴾ الرحمة جواد وقيل واسع المقدور يفعل ما يشاء ﴿عليم﴾ بمصالح الخلق وقيل يعلم حيث يجعل رسالته ﴿يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم﴾ مر تفسيره في سورة البقرة في العشر التي بعد المائة وفي هذه الآيات معجزة باهرة لنبينا إذ فيها إخبار عن سرائر القوم التي لا يعلمها إلا علام الغيوب وفيها دفع لمكائدهم ولطف للمؤمنين في الثبات على عقائدهم.