الآيات 52 - 53

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿52﴾ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴿53﴾ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴿54﴾

اللغة:

الإحساس الإدراك بالحاسة والحس القتل لأنه يحس بالمه والحس العطف لإحساس الرقة على صاحبه والأنصار جمع نصير كالأشراف جمع شريف وأصل الحواري الحور وهو شدة البياض ومنه الحواري من الطعام لشدة بياضه قال الحرث بن حلزة:

فقل للحواريات يبكين غيرنا

ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح

يعني النساء لبياضهن والشاهد هو المخبر بالشيء عن مشاهدة هذا حقيقة وقد يتصرف فيه فيقال البرهان شاهد بحق أي هو بمنزلة المخبر به عن مشاهدة ويقال هذا شاهد أي معد للشهادة والمكر الالتفاف ومنه قولهم لضرب من الشجر مكر لالتفافه والممكورة من النساء الملتفة الخلق وحد المكر حب يختدع به العبد لإيقاعه في الضر والفرق بين المكر والحيلة أن الحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار بالعبد والمكر حيلة على العبد توقعه في مثل الوهق.

الإعراب:

قيل إن إلى بمعنى مع كقولهم الذود إلى الذود إبل أي مع الذود قال الزجاج لا يجوز أن يقال أن بعض الحروف من حروف المعاني بمعنى الآخر وإنما معنى هذا أن اللفظ لو عبر عنه بمع أفاد هذا المعنى لا أن إلى بمعنى مع لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن يقول ذهب زيد مع عمرو لأن إلى غاية ومع يضم الشيء إلى الشيء والحروف قد تتقارب في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد من ذلك قوله تعالى ولأصلبنكم في جذوع النخل ولو كانت على هاهنا لأدت هذه الفائدة وأصل في إنما هو للوعاء وأصل على لما علا الشيء فقولك التمر في الجراب لو قلت على الجراب لم يصح ذلك ولكن جاز في جذوع النخل لأن الجذع مشتمل على المصلوب لأنه قد أخذه من أقطاره ولو قلت زيد على الجبل أو في الجبل يصلح لأن الجبل قد اشتمل على زيد فعلى هذا مجاز هذه الحروف.

المعنى:

﴿فلما أحس﴾ أي وجد وقيل أبصر ورأى وقيل علم ﴿عيسى منهم الكفر﴾ وأنهم لا يزدادون إلا إصرارا على الكفر بعد ظهور الآيات والمعجزات امتحن المؤمنين من قومه بالسؤال والتعريف عما في اعتقادهم من نصرته ف ﴿قال من أنصاري إلى الله﴾ وقيل أنه لما عرف منهم العزم على قتله قال ﴿من أنصاري إلى الله﴾ وفيه أقوال (أحدها) أن معناه من أعواني على هؤلاء الكفار مع معونة الله عن السدي وابن جريج (والثاني) أن معناه من أنصاري في السبيل إلى الله عن الحسن لأنه دعاهم إلى سبيل الله (والثالث) أن معناه من أعواني على إقامة الدين المؤدي إلى الله أي إلى نيل ثوابه كقوله إني ذاهب إلى ربي سيهدين ومما يسأل على هذا أن عيسى إنما بعث للوعظ دون الحرب فلم استنصر عليهم فيقال لهم للجماعة من الكافرين الذين أرادوا قتله عند إظهار الدعوة عن الحسن ومجاهد وقيل أيضا يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة ولتميز الموافق من المخالف ﴿قال الحواريون﴾ واختلف في سبب تسميتهم بذلك على أقوال (أولها) أنهم سموا بذلك لنقاء ثيابهم عن سعيد بن جبير (وثانيها) أنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب عن ابن أبي نجيح عن أبي أرطاة (وثالثها) أنهم كانوا صيادين يصيدون السمك عن ابن عباس والسدي (ورابعها) أنهم كانوا خاصة الأنبياء عن قتادة والضحاك وهذا أوجه لأنهم مدحوا بهذا الاسم كأنه ذهب إلى نقاء قلوبهم كنقاء الثوب الأبيض بالتحوير ويروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي وقال الحسن الحواري الناصر والحواريون الأنصار وقال الكلبي وأبو روق الحواريون أصفياء عيسى وكانوا اثني عشر رجلا وقال عبد الله بن المبارك سموا حواريين لأنهم كانوا نورانيين عليهم أثر العبادة ونورها وحسنها كما قال تعالى سيماهم في وجوههم من أثر السجود ﴿نحن أنصار الله﴾ معناه نحن أعوان الله على الكافرين من قومك أي أعوان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأعوان دين الله ﴿آمنا بالله﴾ أي صدقنا بالله أنه واحد لا شريك له ﴿واشهد﴾ يا عيسى ﴿بأنا مسلمون﴾ أي لنا كن شهيدا عند الله أشهدوه على إسلامهم لأن الأنبياء شهداء على خلقه يوم القيامة كما قال تعالى ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ﴿ربنا﴾ أي يا ربنا ﴿آمنا بما أنزلت﴾ على عيسى ﴿واتبعنا الرسول﴾ أي اتبعناه ﴿فاكتبنا مع الشاهدين﴾ أي في جملة الشاهدين بجميع ما أنزلت لنفوز بما فازوا به وننال ما نالوا من كرامتك وقيل معناه واجعلنا مع محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأمته عن ابن عباس وقد سماهم الله شهداء بقوله لتكونوا شهداء على الناس أي من الشاهدين بالحق من عندك هذا كله حكاية قول الحواريين وروي أنهم اتبعوا عيسى وكانوا إذا جاعوا قالوا يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا فيخرج لكل إنسان منهم رغيفين يأكلهما وإذا عطشوا قالوا يا روح الله عطشنا فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا فيخرج ماء فيشربون قالوا يا روح الله من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا سقيتنا وقد آمنا بك واتبعنا قال أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالكراء وقوله ﴿ومكروا﴾ يعني كفار بني إسرائيل الذين عناهم الله بقوله فلما أحس عيسى منهم الكفر الآية ومعناه دبروا لقتل عيسى (عليه السلام) ﴿ومكر الله﴾ أي جازاهم على مكرهم وسمي المجازاة على المكر مكرا كما قال الله تعالى الله يستهزىء بهم وجاء في التفسير أن عيسى بعد إخراج قومه إياه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطئوا على الفتك به فذلك مكرهم به ومكر الله بهم إلقاؤه الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل وصلب ورفع عيسى إلى السماء وقال ابن عباس لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى (عليه السلام) دخل خوخته وفيها كوة فرفعه جبرائيل من الكوة إلى السماء وقال الملك لرجل منهم خبيث أدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى وقال وهب أسروه ونصبوا له خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض وأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلا يقال له يهوذا وهو الذي دلهم على المسيح وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم فقال ما تجعلوا لي أن أدلكم عليه فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فألقى الله عليه شبه عيسى (عليه السلام) لما دخل البيت ورفع عيسى فأخذ فقال أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى فلما صلب شبه عيسى (عليه السلام) وأتى على ذلك سبعة أيام قال الله عز وجل لعيسى اهبط على مريم لتجمع لك الحواريين وتبثهم في الأرض دعاة فهبط واشتعل الجبل نورا فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله سبحانه وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون حدث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى (عليه السلام) إليهم فذلك قوله تعالى ﴿ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين﴾ أي أفضل المعاونين وقيل أنصف الماكرين وأعدلهم لأن مكرهم ظلم ومكره عدل وإنصاف وإنما أضاف الله المكر إلى نفسه على مزاوجة الكلام كما قال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والثاني ليس باعتداء وإنما هو جزاء وهذا أحد وجوه البلاغة كالمجانسة والمطابقة والمقابلة فالمجانسة كقوله تتقلب فيه القلوب والأبصار والمطابقة كقوله ﴿ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا﴾ بالنصب على مطابقة السؤال والمقابلة نحو قوله ﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة﴾.