الآيات 38 - 39
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ﴿38﴾ فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴿39﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة غير عاصم فناداه الملائكة على التذكير والإمالة والباقون ﴿فنادته﴾ على التأنيث وقرأ ابن عامر وحمزة إن الله بكسر الهمزة والباقون بفتحها وقرأ حمزة والكسائي يبشرك بفتح الياء والتخفيف والباقون بضم الياء والتشديد.
الحجة:
من قرأ ﴿فنادته﴾ بالتاء فلموضع الجماعة كما تقول هي الرجال ومن قرأ فناداه فعلى المعنى ومن فتح إن كان المعنى فنادته بأن الله فحذف الجار وأوصل الفعل في موضع نصب على قياس قول الخليل في موضع الجر ومن كسر أضمر القول كأنه نادته فقالت إن الله فحذف القول كما حذف في قول من كسر في قوله فدعا ربه أني مغلوب وإضمار القول كثير وأما يبشرك فقال أبو عبيدة يبشرك و﴿يبشرك﴾ واحد وقال الزجاج هذا من بشر يبشر إذا فرح وأصل هذه كله إن بشرة الإنسان تنبسط عند السرور.
اللغة:
الهبة تمليك الشيء من غير ثمن والسيد مأخوذ من سواد الشخص فقيل سيد القوم بمعنى مالك السواد الأعظم وهو الشخص الذي يجب طاعته لمالكه هذا إذا استعمل مضافا أو مقيدا فأما إذا أطلق فلا ينبغي إلا لله والحصور الممتنع عن الجماع ومنه قيل للذي يمتنع أن يخرج مع ندمائه شيئا للنفقة حصور قال الأخطل:
وشارب مربح بالكأس نادمني
لا بالحصور ولا فيها بسوار ويقال للذي يكتم سره حصور.
الإعراب:
هنالك الأصل فيه الظرف من المكان نحو رأيته هنا وهناك وهنالك والفرق أن هنا للتقريب وهنالك للتبعيد وهناك لما بينهما قال الزجاج ويستعمل في الحال كقولك من هاهنا قلت كذا أي من هذا الوجه وفيه معنى الإشارة كقولك ذا وذاك وزيدت اللام لتأكيد التعريف وكسرت لالتقاء الساكنين كما كسرت في ذلك وإنما بني لدن ولم يبن عند وإن كان بمعناه لأنه استبهم استبهام الحروف لأنه لا يقع في جواب أين كما يقع عند في نحو قولهم أين زيد فيقال عندك ولا يقال لدنك وهو قائم جملة في موضع الحال من الهاء في نادته وقوله ﴿يصلي في المحراب﴾ جملة في موضع الحال من الضمير في قائم وقوله ﴿مصدقا﴾ نصب على الحال من يحيى وقوله ﴿من الصالحين﴾ من هاهنا لتبيين الصفة وليس المراد التبعيض لأن النبي لا يكون إلا صالحا.
المعنى:
﴿هنالك﴾ أي عند ذلك الذي رأى من فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف على خلاف ما جرت به العادة ﴿دعا زكريا ربه﴾ قال ﴿رب هب لي من لدنك ذرية طيبة﴾ أي طمع في رزق الولد من العاقر على خلاف مجرى العادة فسأل ذلك وقوله ﴿طيبة﴾ أي مباركة عن السدي وقيل صالحة تقية نقية العمل وإنما أنث طيبة وإنما سأل ولدا ذكرا على لفظ الذرية كما قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى
وأنت خليفة ذاك الكمال
﴿إنك سميع الدعاء﴾ بمعنى قابل الدعاء ومجيب له ومنه قول القائل سمع الله لمن حمده أي قبل الله دعاءه وإنما قيل السامع للقابل المجيب لأن من كان أهلا أن يسمع منه فهو أهل أن يقبل منه ومن لا يعتد بكلامه فكلامه بمنزلة ما لا يسمع ﴿فنادته الملائكة﴾ قيل ناداه جبرائيل عن السدي فعلى هذا يكون المعنى أن النداء أتاه من هذا الجنس كما يقال ركب فلان السفن وإنما ركب سفينة واحدة والمراد جاءه النداء من جهة الملائكة وقيل نادته جماعة من الملائكة ﴿وهو قائم يصلي في المحراب﴾ أي في المسجد وقيل في محراب المسجد ﴿إن الله يبشرك بيحيى﴾ سماه الله بهذا الاسم قبل مولده واختلف فيه لم سمي بيحيى فقيل لأن الله أحيا به عقر أمه عن ابن عباس وقيل أنه تعالى أحياه بالإيمان عن قتادة وقيل لأنه تعالى أحيا قلبه بالنبوة ولم يسم قبله أحد يحيى ﴿مصدقا بكلمة من الله﴾ أي مصدقا بعيسى وعليه جميع المفسرين وأهل التأويل إلا ما حكي عن أبي عبيدة أنه قال بكتاب الله كما يقولون أنشدت كلمة فلان أي قصيدته وإن طالت وإنما سمي المسيح كلمة الله لأنه حصل بكلام الله من غير أب وقيل إنما سمي به لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله كما سمي روح الله لأن الناس كانوا يحيون به في أديانهم كما يحيون بأرواحهم وكان يحيى أكبر سنا من عيسى بستة أشهر وكلف التصديق به فكان أول من صدقه وشهد أنه كلمة الله وروحه وكان ذلك إحدى معجزات عيسى (عليه السلام) وأقوى الأسباب لإظهار أمره فإن الناس كانوا يقبلون قول يحيى لمعرفتهم بصدقة وزهده ﴿وسيدا﴾ في العلم والعبادة عن قتادة وقيل في الحلم والتقى وحسن الخلق عن الضحاك وقيل كريما على ربه عن ابن عباس وقيل فقيها عالما عن سعيد بن المسيب وقيل مطيعا لربه عن سعيد بن جبير وقيل مطاعا عن الخليل وقيل سيدا للمؤمنين بالرئاسة عليهم عن الجبائي والجميع يرجع إلى أصل واحد وهو أنه أهل لتمليكه تدبير من يجب عليه طاعته لما هو عليه من هذه الأحوال ﴿وحصورا﴾ وهو الذي لا يأتي النساء عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة وهو المروي عن أبي عبد الله ومعناه أنه يحصر نفسه عن الشهوات أي يمنعها وقيل الحصور الذي لا يدخل في اللعب والأباطيل عن المبرد وقيل هو العنين عن ابن المسيب والضحاك وهذا لا يجوز على الأنبياء لأنه عيب وذم ولأن الكلام خرج مخرج المدح ﴿ونبيا من الصالحين﴾ أي رسولا شريفا رفيع المنزلة من جملة الأنبياء لأن الأنبياء كلهم كانوا صالحين وفي هذه الآية دلالة على أن زكريا إنما طمع في الولد لما رأى تلك المعجزات وهو إن كان عالما بأنه تعالى يقدر على أن يخلق الولد من العاقر فقد كان يجوز أن لا يفعل ذلك لبعض التدبير فلما رأى خرق العادة بخلق الفاكهة في غير وقتها قوي ظنه في أنه يفعل ذلك إذا اقتضته المصلحة كما أن إبراهيم وإن كان عالما بأنه تعالى يقدر على إحياء الموتى سأل ذلك مشاهدة ليتأكد معرفته وفيها دلالة على أن الولد الصالح نعمة من الله تعالى على العبد فلذلك بشره به.