الآية- 13
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ ﴿13﴾
القراءة:
قرأ أهل المدينة والبصرة عن أبي عمرو ترونهم بالتاء والباقون بالياء وروي في الشواذ عن ابن عباس يرونهم بضم الياء.
الحجة:
قال أبو علي (ره) من قرأ ﴿يرونهم﴾ بالياء فلأن بعد الخطاب غيبة وهو قوله ﴿فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم﴾ أي ترى الفئة المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثليهم ومما يؤكد الياء قوله ﴿مثليهم﴾ ولو كان على التاء لكان مثليكم وإن كان قد جاء وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ورأيت هنا هي المتعدية إلى مفعول واحد ويدل على ذلك تقييده برأي العين وإذا كان كذلك كان انتصاب مثليهم على الحال لا على أنه مفعول ثان وأما مثل فقد يفرد في موضع التثنية والجمع فمن الأفراد في التثنية قوله:
وساقيين مثل زبل وجعل
ومن إفراده على الجمع قوله إنكم إذا مثلهم ومن جمعه قوله ثم لا يكونوا أمثالكم ومن قرأ ترونهم فللخطاب الذي قبله وهو قوله ﴿قد كان لكم آية﴾ ترونهم مثليهم فالضمير في ترونهم للمسلمين والضمير المنصوب للمشركين أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي المسلمين فأما قراءة ابن عباس يرونهم فوجهه ما قاله ابن جني أن أريت وأرى أقوى في اليقين من رأيت تقول أرى أن سيكون كذا أي هذا غالب ظني وأرى أن سيكون كذا أي أعلمه وأتحققه.
اللغة:
قد ذكرنا معنى الفئة عند قوله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة والالتقاء والتلاقي والاجتماع واحد والأيد القوة ومنه قوله تعالى ﴿وداود ذا الأيد﴾ يقال أدته أئيده أيدا أي قويته وأيدته أؤيده تأييدا بمعناه والعبرة الآية يقال اعتبرت بالشيء اعتبارا وعبرة والعبور النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر وسميت الآية عبرة لأنه يعبر عنها من منزل العلم إلى منزل الجهل والمعتبر بالشيء تارك جهله وواصل إلى علمه بما رأى والعبارة الكلام يعبر بالمعنى إلى المخاطب والعبارة تفسير الرؤيا والتعبير وزن الدراهم وغيرها والعبرة الدمعة وأصل الباب النفوذ.
الإعراب:
قوله ﴿فئة﴾ تحتمل ثلاثة أوجه من الإعراب الرفع على الاستئناف بتقدير منهم فئة كذا وأخرى كذا والجر على البدل والنصب على الحال كقول كثير:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
أنشد بالرفع والجر وقال ابن مفرغ:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رماها صائب الحدثان
فأما التي صحت فأزد شنوءة
وأما التي شلت فأزد عمان وقال آخر:
إذا مت كان الناس صنفين شامت
وآخر مئن بالذي كنت أصنع
ولا يجوز أن يقول مررت بثلاثة صريع وجريح بالجر لأنه لم يستوف العدة ويجوز بالرفع على تقدير منهم صريع ومنهم جريح فإن قلت مررت بثلاثة صريع وجريح وسليم جاز الرفع والجر فإن زدت فيه اقتتلوا جاز الأوجه الثلاثة والقراءة بالرفع لا غير وقوله ﴿رأي العين﴾ يجوز أن يكون مصدرا ليرى والعين في موضع الرفع بأنه الفاعل ويجوز أن يكون ظرفا للمكان كما يقول ترونهم أمامكم.
النزول:
نزلت الآية في قصة بدر وكان المسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون رجلا من الأنصار وكان صاحب لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمهاجرين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكانت الإبل في جيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سبعين بعيرا والخيل فرسين فرس للمقداد بن أسود وفرس لمرثد بن أبي مرثد وكان معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف وجميع من استشهد يومئذ أربعة عشر رجلا من المهاجرين وثمانية من الأنصار واختلف في عدة المشركين فروي عن علي (عليه السلام) وابن مسعود أنهم كانوا ألفا وعن قتادة وعروة بن الزبير والربيع كانوا بين تسعمائة إلى ألف وكانت خيلهم مائة فرس ورأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكان حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكان سبب ذلك عير أبي سفيان.
المعنى:
لما وعد سبحانه الظفر لأهل الإيمان بين ما فعله يوم بدر بأهل الكفر والطغيان فقال ﴿قد كان لكم آية﴾ قيل الخطاب لليهود الذين نقضوا العهد أي كان لكم أيها اليهود دلالة ظاهرة وقيل الخطاب للناس جميعا ممن حضر الوقعة وقيل للمشركين واليهود آية أي حجة وعلامة ومعجزة دالة على صدق محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿في فئتين التقتا﴾ أي فرقتين اجتمعتا ببدر من المسلمين والكافرين ﴿فئة﴾ فرقة ﴿تقاتل﴾ تحارب ﴿في سبيل الله﴾ في دينه وطاعته وهم الرسول وأصحابه ﴿وأخرى﴾ أي فرقة أخرى ﴿كافرة﴾ وهم المشركون من أهل مكة ﴿يرونهم مثليهم﴾ أي ضعفهم ﴿رأي العين﴾ أي في ظاهر العين واختلف في معناه فقيل معناه يرى المسلمون المشركين مثلي عدد أنفسهم قللهم الله في أعينهم حتى رأوهم ستمائة وستة وعشرين رجلا تقوية لقلوبهم وذلك أن المسلمين قد قيل لهم فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين فأراهم الله عددهم حسب ما حد لهم من العدد الذي يلزمهم أن يقدموا عليهم ولا يحجموا عنهم وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ثم ظهر العدد القليل على العدد الكثير عن ابن مسعود وجماعة من العلماء وقيل أن الرؤية للمشركين يعني يرى المشركون المسلمين ضعفي ما هم عليه فإن الله تعالى قبل القتال قلل المسلمين في أعينهم ليجترئوا عليهم ولا ينصرفوا فلما أخذوا في القتال كثرهم في أعينهم ليجبنوا وقلل المشركين في أعين المسلمين ليجترئوا عليهم وتصديق ذلك قوله تعالى ﴿وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم﴾ الآية وذلك أحسن أسباب النصر للمؤمنين والخذلان للكافرين وهذا قول السدي وإنما يتأتى هذا القول على قراءة من قرأ بالياء فأما قول من قرأ بالتاء فلا يحتمله إلا قول الأول على أن يكون الخطاب لليهود الذين لم يحضروا وهم المعنيون بقوله ﴿قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون﴾ وهم يهود بني قينقاع فكأنه قال ( ترون أيها اليهود المشركين مثلي المسلمين مع أن الله أظهرهم عليهم فلا تغتروا بكثرتكم ) واختار البلخي هذا الوجه أو يكون الخطاب للمسلمين الذي حضروا الوقعة أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي المسلمين وقال الفراء يحتمل قوله ﴿يرونهم مثليهم﴾ يعني ثلاثة أمثالهم لأنك إذا قلت عندي ألف وأحتاج إلى مثلها فأنت تحتاج إلى ألفين لأنك تريد أحتاج إلى مثلها مضافا إليها لا بمعنى بدلا منها فكأنك قلت أحتاج إلى مثليها وإذا قلت أحتاج إلى مثليها فأنت تحتاج إلى ثلاثة آلاف فكذلك في الآية المعنى يرونهم مثليهم مضافا إليهم فذلك ثلاثة أمثالهم قال والمعجز فيه إنما كان من جهة غلبة القليل الكثير وأنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته لظاهر الكلام وما جاء في آية الأنفال من تقليل الأعداد فإن قيل كيف يصح تقليل الأعداد مع حصول الرؤية وارتفاع الموانع وهل هذا إلا قول من جوز أن يكون عنده أجسام لا يدركها أو يدرك بعضها دون بعض قلنا يحتمل أن يكون التقليل في أعين المؤمنين بأن يظنوهم قليلي العدد لا أنهم أدركوا بعضا دون بعض لأن العلم بما يدركه الإنسان جملة غير العلم بما يدركه مفصلا ولأنا قد ندرك جمعا عظيما بأسرهم ونشك في أعدادهم حتى يقع الخلاف في حرز عددهم فعلى هذا يكون الوجه تأويل تقليل الأعداد وقوله ﴿والله يؤيد بنصره من يشاء﴾ النصر منه سبحانه على الأعداء يكون على ضربين نصر بالغلبة ونصر بالحجة فالنصر بالغلبة إنما كان بغلبة العدد القليل للعدد الكثير على خلاف مجرى العادة وبما أمدهم الله به من الملائكة وقوى به نفوسهم من تقليل العدة والنصر بالحجة وهو وعده المتقدم بالغلبة لإحدى الطائفتين لا محالة وهذا ما لا يعلمه إلا علام الغيوب ﴿إن في ذلك﴾ أي في ظهور المسلمين مع قتلهم على المشركين مع كثرتهم وتقليل المشركين في أعين المسلمين وتكثير المسلمين في أعين المشركين ﴿لعبرة لأولي الأبصار﴾ أي لذوي العقول كما يقال لفلان بصير بالأمور ولا يراد به الأبصار بالحواس الذي يشترك فيه سائر الحيوان.