الآيات 67-78

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴿67﴾ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴿68﴾ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿69﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿70﴾ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴿71﴾ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿72﴾ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴿73﴾ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿74﴾ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿75﴾ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿76﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿77﴾ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴿78﴾

بيان:

الآيات تأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة وتبين أمورا من حقائق الدعوة وأباطيل الشرك ثم تأمر المؤمنين بإجمال الشريعة وهو عبادة الله وفعل الخير وتختم بالأمر بحق الجهاد في الله وبذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ﴿لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر﴾ إلى آخر الآية.

المنسك مصدر ميمي بمعنى النسك وهو العبادة ويؤيده قوله: ﴿هم ناسكوه﴾ أي يعبدون تلك العبادة، وليس اسم مكان كما احتمله بعضهم.

والمراد بكل أمة هي الأمة بعد الأمة من الأمم الماضين حتى تنتهي إلى هذه الأمة دون الأمم المختلفة الموجودة في زمانه (صلى الله عليه وآله وسلم) كالعرب والعجم والروم لوحدة الشريعة وعموم النبوة.

وقوله: ﴿فلا ينازعنك في الأمر﴾ نهي للكافرين بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن منازعته في المناسك التي أتى بها وهم وإن كانوا لا يؤمنون بدعوته ولا يرون لما أتى به من الأوامر والنواهي وقعا يسلمون له ولا أثر لنهي من لا يسلم للناهي طاعة ولا مولوية لكن هذا النهي لما كان معتمدا على الحجة لم يصر لغوا لا أثر له وهي صدر الآية.

فكأن الكفار من أهل الكتاب أو المشركين لما رأوا من عبادات الإسلام ما لا عهد لهم به في الشرائع السابقة كشريعة اليهود مثلا نازعوه في ذلك من أين جئت به ولا عهد به في الشرائع السابقة ولو كان من شرائع النبوة لعرفه المؤمنين من أمم الأنبياء الماضين؟ فأجاب الله سبحانه عن منازعتهم بما في الآية.

ومعناها أن كلا من الأمم كان لهم منسك هم ناسكوه وعبادة يعبدونها ولا يتعداهم إلى غيرهم لما أن الله سبحانه بدل منسك السابقين مما هو أحسن منه في حق اللاحقين لتقدمهم في الرقي الفكري واستعدادهم في اللاحق لما هو أكمل وأفضل من السابق فالمناسك السابقة منسوخة في حق اللاحقين فلا معنى لمنازعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما جاء به من المنسك المغاير لمناسك الأمم الماضين.

ولما كان نهيهم عن منازعته (صلى الله عليه وآله وسلم) في معنى أمره بطيب النفس من قبل نزاعهم ونهيه عن الاعتناء به عطف عليه قوله: ﴿وادع إلى ربك﴾ كأنه قيل: طب نفسا ولا تعبأ بمنازعتهم واشتغل بما أمرت به وهو الدعوة إلى ربك.

وعلل ذلك بقوله: ﴿إنك لعلى هدى مستقيم﴾ وتوصيف الهدى بالاستقامة وهي وصف الصراط الذي إليه الهداية من المجاز العقلي.

قوله تعالى: ﴿وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون﴾ سياق الآية السابقة يؤيد أن المراد بهذا الجدال المجادلة والمراء في أمر اختلاف منسكه (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الشرائع السابقة بعد الاحتجاج عليه بنسخ الشرائع، وقد أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بإرجاعهم إلى حكم الله من غير أن يشتغل بالمجادلة معهم بمثل ما يجادلون.

وقيل: المراد بقوله: ﴿إن جادلوك﴾ مطلق الجدال في أمر الدين، وقيل: الجدال في أمر الذبيحة والسياق السابق لا يساعد عليه.

وقوله: ﴿فقل الله أعلم بما تعملون﴾ توطئة وتمهيد إلى إرجاعهم إلى حكم الله أي الله أعلم بعملكم ويحكم حكم من يعلم بحقيقة الحال، وإنما يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون وتخالفون الحق وأهله - والاختلاف والتخالف بمعنى كالاستباق والتسابق -.

قوله تعالى: ﴿ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير﴾ تعليل لعلمه تعالى بما يعملون أي إن ما يعملون بعض ما في السماء والأرض وهو يعلم جميع ما فيهما فهو يعلم بعملهم.

وقوله: ﴿إن ذلك في كتاب﴾ تأكيد لما تقدمه أي إن ما علمه من شيء مثبت في كتاب فلا يزول ولا ينسى ولا يسهو فهو محفوظ على ما هو عليه حين يحكم بينهم، وقوله: ﴿إن ذلك على الله يسير﴾ أي ثبت ما يعلمه في كتاب محفوظ هين عليه.

قوله تعالى: ﴿ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم﴾ إلخ الباء في ﴿به﴾ بمعنى مع، والسلطان البرهان والحجة والمعنى ويعبد المشركون من دون الله شيئا - وهو ما اتخذوه شريكا له تعالى - لم ينزل الله معه حجة حتى يأخذوها ويحتجوا بها ولا أن لهم به علما.

قيل: إنما أضاف قوله: ﴿وما ليس لهم به علم﴾ على قوله: ﴿ما لم ينزل به سلطانا﴾ لأن الإنسان قد يعلم أشياء من غير حجة ودليل كالضروريات.

وربما فسر نزول السلطان بالدليل السمعي ووجود العلم بالدليل العقلي أي يعبدون من دون الله ما لم يقم عليه دليل من ناحية الشرع ولا العقل، وفيه أنه لا دليل عليه وتنزيل السلطان كما يصدق على تنزيل الوحي على النبي كذلك يصدق على تنزيل البرهان على القلوب.

وقوله: ﴿وما للظالمين من نصير﴾ قيل: هو تهديد للمشركين والمراد أنه ليس لهم ناصر ينصرهم فيمنعهم من العذاب.

والظاهر - على ما يعطيه السياق - أنه في محل الاحتجاج على أن ليس لهم برهان على شركائهم ولا علم، بأنه لو كان لهم حجة أو علم لكان لهم نصير ينصرهم إذ البرهان نصير لمن يحتج به والعلم نصير للعالم لكنهم ظالمون وما للظالمين من نصير فليس لهم برهان ولا علم، وهذا من ألطف الاحتجاجات القرآنية.

قوله تعالى: ﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون﴾ إلخ المنكر مصدر ميمي بمعنى الإنكار، والمراد بمعرفة الإنكار في وجوههم معرفة أثر الإنكار والكراهة، و﴿يسطون﴾ من السطوة وهي على ما في مجمع البيان،: إظهار الحال الهائلة للإخافة يقال سطا عليه يسطو سطوة وسطاعة والإنسان مسطو عليه، والسطوة والبطشة بمعنى.

والمعنى: وإذا تتلى عليهم آياتنا والحال أنها واضحات الدلالة تعرف وتشهد في وجوه الذين كفروا أثر الإنكار يقربون من أن يبطشوا على الذين يتلون ويقرءون عليهم آياتنا لما يأخذهم من الغيظ.

وقوله: ﴿قل أفأنبئكم بشر من ذلكم﴾ تفريع على إنكارهم وتحرزهم من استماع القرآن أي قل: أفأخبركم بما هو شر من هذا الذي تعدونه شرا تحترزون منه وتتقون أن تسمعوه أ فأخبركم به لتتقوه إن كنتم تتقون.

وقوله: ﴿النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير﴾ بيان للشر أي ذلكم الذي هو شر من هذا هي النار، وقوله: ﴿وعدها الله﴾ إلخ بيان لكونه شرا.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له﴾ إلى آخر الآية خطاب للناس جميعا والعناية بالمشركين منهم.

وقوله: ﴿ضرب مثل فاستمعوا له﴾ المثل هو الوصف الذي يمثل الشيء في حالة سواء كان وصفا محققا واقعا أو مقدرا متخيلا كالأمثال التي تشتمل على محاورات الحيوانات والجمادات ومشافهاتها، وضرب المثل نصبه ليتفكر فيه كضرب الخيمة ليسكن فيها.

وهذا المثل هو قوله: ﴿إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه﴾ والمعنى أنه لو فرض أن آلهتهم شاءوا أن يخلقوا ذبابا وهو أضعف الحيوانات عندهم لم يقدروا عليه أبدا وإن يسلبهم الذباب شيئا مما عليهم لا يستنقذوه بالانتزاع منه.

فهذا الوصف يمثل حال آلهتهم من دون الله في قدرتهم على الإيجاد وعلى تدبير الأمر حيث لا يقدرون على خلق ذباب وعلى تدبير أهون الأمور وهو استرداد ما أخذه الذباب منهم وأضرهم بذلك وكيف يستحق الدعوة والعبادة من كان هذا شأنه؟.

وقوله: ﴿ضعف الطالب والمطلوب﴾ مقتضى المقام أن يكون المراد بالطالب الآلهة وهي الأصنام المدعوة فإن المفروض أنهم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون واستنقاذ ما سلبه إياهم فلا يقدرون، والمطلوب الذباب حيث يطلب ليخلق ويطلب ليستنقذ منه.

وفي هذه الجملة بيان غاية ضعفهم فإنهم أضعف من أضعف ما يستضعفه الناس من الحيوانات التي فيها شيء من الشعور والقدرة.

قوله تعالى: ﴿ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز﴾ قدر الشيء هندسته وتعيين كميته ويكنى به عن منزلة الشيء التي تقتضيها أوصافه ونعوته يقال: قدر الشيء حق قدره أي نزله المنزلة التي يستحقها وعامله بما يليق به.

وقدره تعالى حق القدر أن يلتزم بما يقتضيه صفاته العليا ويعامل كما يستحقه بأن يتخذ ربا لا رب غيره ويعبد وحده لا معبود سواه لكن المشركين ما قدروه حق قدره إذ لم يتخذوه ربا ولم يعبدوه بل اتخذوا الأصنام أربابا من دونه وعبدوها دونه وهم يرون أنها لا تقدر على خلق ذباب ويمكن أن يستذلها ذباب فهي من الضعف والذلة في نهايتهما، والله سبحانه هو القوي العزيز الذي إليه ينتهي الخلق والأمر وهو القائم بالإيجاد والتدبير.

فقوله: ﴿ما قدروا الله حق قدره﴾ إشارة إلى عدم التزامهم بربوبيته تعالى وإعراضهم عن عبادته ثم اتخاذهم الأصنام أربابا من دونه يعبدونها خوفا وطمعا دونه تعالى.

وقوله: ﴿إن الله لقوي عزيز﴾ تعليل للنفي السابق وقد أطلق القوة والعزة فأفاد أنه قوي لا يعرضه ضعف وعزيز لا تعتريه ذلة كما قال: ﴿إن القوة لله جميعا﴾ البقرة: 165، وقال: ﴿فإن العزة لله جميعا﴾ النساء: 139، وإنما خص الاسمين بالذكر لمقابلتهما ما في المثل المضروب من صفة آلهتهم وهو الضعف والذلة فهؤلاء استهانوا أمر ربهم إذ عدلوا بينه تعالى وهو القوي الذي يخلق ما يشاء والعزيز الذي لا يغلبه شيء ولا يستذله من سواه وبين الأصنام والآلهة الذين يضعفون من خلق ذباب ويستذلهم ذباب ثم لم يرضوا بذلك حتى قدموهم عليه تعالى فاتخذوهم أربابا يعبدونهم دونه تعالى.

قوله تعالى: ﴿الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير﴾ الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وخالصته، قال الراغب: الاصطفاء تناول صفو الشيء كما أن الاختيار تناول خيره والاجتباء تناول جبايته.

فاصطفاء الله تعالى من الملائكة رسلا ومن الناس اختياره من بينهم من يصفو لذلك ويصلح.

وهذه الآية والتي بعدها تبينان وجوب جعل الرسالة وصفتها وصفة الرسل وهي العصمة، وللكلام فيها بعض الاتصال بقوله السابق: ﴿لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه﴾ لإنبائه عن الرسالة.

تبين الآية أولا أن لله رسلا من الملائكة ومن الناس، وثانيا أن هذه الرسالة ليست كيفما اتفقت وممن اتفق بل هي بالاصطفاء وتعيين من هو صالح لذلك.

وقوله: ﴿إن الله سميع بصير﴾ تعليل لأصل الإرسال فإن الناس أعني النوع الإنساني يحتاج حاجة فطرية إلى أن يهديهم الله سبحانه نحو سعادتهم وكمالهم المطلوب من خلقهم كسائر الأنواع الكونية فالحاجة نحو الهداية عامة، وظهور الحاجة فيهم وإن شئت فقل: إظهارهم الحاجة من أنفسهم سؤال منهم واستدعاء لما ترتفع به حاجتهم والله سبحانه سميع بصير يرى ببصره ما هم عليه من الحاجة الفطرية إلى الهداية ويسمع بسمعه سؤالهم ذلك.

فمقتضى سمعه وبصره تعالى أن يرسل إليهم رسولا ويهديهم به إلى سعادتهم التي خلقوا لنيلها والتلبس بها فما كل الناس بصالحين للاتصال بعالم القدس وفيهم الخبيث والطيب والطالح والصالح، والرسول رسولان رسول ملكي يأخذ الوحي منه تعالى ويؤديه إلى الرسول الإنساني ورسول إنساني يأخذ الوحي من الرسول الملكي ويلقيه إلى الناس وبالجملة قوله: ﴿إن الله سميع بصير﴾ يتضمن الحجة على لزوم أصل الإرسال، وأما معنى الاصطفاء والحجة على لزومه فهو ما يشير إليه قوله: ﴿يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم﴾.

قوله تعالى: ﴿يعلم بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور﴾ ظاهر السياق أن ضمير الجمع في الموضعين للرسل من الملائكة والناس، ويشهد وقوع هذا التعبير فيهم في غير هذا الموضع كقوله تعالى حكاية عن ملائكة الوحي: ﴿وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا﴾ مريم: 64، وقوله: ﴿فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم﴾ الجن: 28.

والآية - كما ترى - تنادي بأن ذكر علمه بما بين أيديهم وما خلفهم لدلالة على أنه تعالى مراقب للطريق الذي يسلكه الوحي فيما بينه وبين الناس حافظ له أن يختل في نفسه بنسيان أو تغيير أو يفسد بشيء من مكائد الشياطين وتسويلاتهم كل ذلك لأن حملة الوحي من الرسل بعينه وبمشهد منه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وهو بالمرصاد.

ومن هنا يظهر أن المراد بما بين أيديهم هو ما بينهم وبين من يؤدون إليه فما بين أيدي الرسول الملكي هو ما بينه وبين الرسول الإنساني وما بين يدي الرسول الإنساني هو ما بينه وبين الناس، والمراد بما خلفهم هو ما بينهم وبين الله سبحانه والجميع سائرون من جانب الله إلى الناس.

فالوحي في مأمن إلهي منذ يصدر من ساحة العظمة والكبرياء إلى أن يبلغ الناس ولازمه أن الرسل معصومون في تلقي الوحي ومعصومون في حفظه ومعصومون في إبلاغه للناس.

وقوله: ﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾ في مقام التعليل لعلمه بما بين أيديهم وما خلفهم أي كيف يخفى عليه شيء من ذلك؟ وإليه يرجع جميع الأمور وإذ ليس هذا الرجوع رجوعا زمانيا حتى يجوز معه خفاء حاله قبل الرجوع وإنما هو مملوكية ذاته له تعالى فلا استقلال له منه ولا خفاء فيه له فافهم ذلك.

قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون﴾ الأمر بالركوع والسجود أمر بالصلاة ومقتضى المقابلة أن يكون المراد بقوله: ﴿واعبدوا ربكم﴾ الأمر بسائر العبادات المشرعة في الدين كالحج والصوم ويبقى لقوله: ﴿وافعلوا الخير﴾ سائر الأحكام والقوانين المشرعة فإن في إقامتها والعمل بها خير المجتمع وسعادة الأفراد وحياتهم كما قال: ﴿استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ الأنفال: 24.

وفي الآية أمر بإجماع الشرائع الإسلامية من عبادات وغيرها.

قوله تعالى: ﴿وجاهدوا في الله حق جهاده﴾ إلى آخر الآية.

الجهاد بذل الجهد واستفراغ الوسع في مدافعة العدو، ويطلق في الأكثر على المدافعة بالقتال لكن ربما يتوسع في معنى العدو حتى يشمل كل ما يتوقع منه الشر كالشيطان الذي يضل الإنسان والنفس الأمارة بالسوء وغير ذلك فيطلق اللفظ على مخالفة النفس في هواها والاجتناب عن طاعة الشيطان في وسوسته، وقد سمى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مخالفة النفس جهادا أكبر.

والظاهر أن المراد بالجهاد في الآية هو المعنى الأعم وخاصة بالنظر إلى تقييده بقوله: في الله وهو كل ما يرجع إليه تعالى، ويؤيده أيضا قوله: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ العنكبوت: 69.

وعلى ذلك فمعنى كون الجهاد فيه حق جهاده أن يكون متمحضا في معنى الجهاد ويكون خالصا لوجهه الكريم لا يشاركه فيه غيره نظير تقوى الله حق تقواه في قوله: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾ آل عمران: 124.

وقوله: ﴿هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ امتنان منه تعالى على المؤمنين بأنهم ما كانوا لينالوا سعادة الدين من عند أنفسهم وبحولهم غير أن الله من عليهم إذ وفقهم فاجتباهم وجمعهم للدين، ورفع عنهم كل حرج في الدين امتنانا سواء كان حرجا في أصل الحكم أو حرجا طارئا عليه اتفاقا فهي شريعة سهلة سمحة ملة أبيهم إبراهيم الحنيف الذي أسلم لربه.

وإنما سمي إبراهيم أبا المسلمين لأنه (عليه السلام) أول من أسلم لله كما قال تعالى: ﴿إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين﴾ البقرة: 131، وقال حاكيا عنه (عليه السلام): ﴿فمن تبعني فإنه مني﴾ إبراهيم: 36 فنسب اتباعه إلى نفسه، وقال أيضا: ﴿واجنبني وبني أن نعبد الأصنام﴾ إبراهيم: 35، ومراده ببنيه المسلمون دون المشركين قطعا وقال: ﴿إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا﴾ آل عمران: 68.

وقوله: ﴿هو سماكم المسلمين من قبل﴾ وفي هذا امتنان ثان منه تعالى على المؤمنين بعد الامتنان بقوله: هو اجتباكم فالضمير له تعالى وقوله: ﴿من قبل﴾ أي من قبل نزول القرآن وقوله: ﴿وفي هذا﴾ أي وفي هذا الكتاب وفي امتنانه عليهم بذكر أنه سماهم المسلمين دلالة على قبوله تعالى إسلامهم.

وقوله: ﴿ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس﴾ المراد به شهادة الأعمال وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة الآية 143 وغيرها وفي الآية تعليل ما تقدم من حديث الاجتباء ونفي الحرج وتسميتهم مسلمين.

وقوله: ﴿فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله﴾ تفريع على جميع ما تقدم مما امتن به عليهم أي فعلى هذا يجب عليكم أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة - وهو إشارة إلى العمل بالأحكام العبادية والمالية - وتعتصموا بالله في جميع الأحوال فأتمروا بكل ما أمر به وتنتهوا عن جميع ما نهى عنه ولا تنقطعوا عنه في حال لأنه مولاكم وليس للعبد أن ينقطع عن مولاه في حال ولا للإنسان الضعيف أن ينقطع عن ناصره - بوجه على الاحتمالين في معنى المولى -.

فقوله: ﴿هو مولاكم﴾ في مقام التعليل لما قبله من الحكم، وقوله: فنعم المولى ونعم النصير كلمة مدح له تعالى وتطييب لنفوس المؤمنين وتقوية لقلوبهم بأن مولاهم ونصيرهم هو الله الذي لا مولى غيره ولا نصير سواه.

واعلم أن الذي أوردناه من معنى الاجتباء وكذا الإسلام وغيره في الآية هو الذي ذكره جل المفسرين بالبناء على ظاهر الخطاب بيا أيها الذين آمنوا في صدر الكلام وشموله عامة المؤمنين وجميع الأمة.

وقد بينا غير مرة أن الاجتباء بحقيقة معناه يساوق جعل العبد مخلصا - بفتح اللام - مخصوصا بالله لا نصيب لغيره تعالى فيه، وهذه صفة لا توجد إلا في آحاد معدودين من الأمة دون الجميع قطعا، وكذا الكلام في معنى الإسلام والاعتصام، والمعنى بحقيقته مراد في الكلام قطعا.

وعلى هذا فنسبة الاجتباء والإسلام والشهادة إلى جميع الأمة توسع من جهة اشتمالهم على من يتصف بهذه الصفات بحقيقتها نظير قوله في بني إسرائيل: ﴿وجعلكم ملوكا﴾ المائدة: 20، وقوله فيهم: ﴿وفضلناهم على العالمين﴾ الجاثية: 16 ونظائره كثيرة في القرآن.

بحث روائي:

عن جوامع الجامع، في قوله تعالى: ﴿فلا ينازعنك في الأمر﴾ روي أن بديل بن ورقاء وغيره من كفار خزاعة قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله يعنون الميتة.

أقول: سياق الآية لا يساعد عليه.

وفي الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بياع الأنماط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كانت قريش تلطخ الأصنام التي كانت حول الكعبة بالمسك والعنبر، وكان يغوث قبال الباب ويعوق عن يمين الكعبة، وكان نسر عن يسارها، وكانوا إذا دخلوا خروا سجدا ليغوث ولا ينحنون ثم يستديرون بحيالهم إلى يعوق ثم يستديرون عن يسارها بحيالهم إلى نسر ثم يلبون فيقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.

قال: فبعث الله ذبابا أخضر له أربعة أجنحة فلم يبق من ذلك المسك والعنبر شيئا إلا أكله، وأنزل الله عز وجل: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له الآية.

وفيه، بإسناده عن بريد العجلي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا - واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون - وجاهدوا في الله حق جهاده﴾ قال: إيانا عنى ونحن المجتبون ولم يجعل الله تبارك وتعالى لنا في الدين من حرج فالحرج أشد من الضيق.

﴿ملة أبيكم إبراهيم﴾ إيانا عنى خاصة ﴿هو سماكم المسلمين﴾ الله عز وجل سمانا المسلمين ﴿من قبل﴾ في الكتب التي مضت ﴿وفي هذا﴾ القرآن ﴿ليكون الرسول عليكم شهيدا - وتكونوا شهداء على الناس﴾ فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الشهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك وتعالى ونحن الشهداء على الناس يوم القيامة فمن صدق يوم القيامة صدقناه ومن كذب كذبناه.

أقول: والروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذا المعنى كثيرة، وقد تقدم في ذيل الآية ما يتضح به معنى هذه الروايات.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة: أنها سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ قال: الضيق.

وفي التهذيب، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل قال الله: ﴿ما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ امسح عليه.

أقول: وفي معناها روايات أخر تستشهد بالآية في رفع الحكم الحرجي وفي التمسك بالآية في الحكم دلالة على صحة ما قدمناه في معنى الآية.

وفي الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وإسحاق بن راهويه في مسنده عن مكحول أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تسمي الله باسمين سمى بهما أمتي هو السلام وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن وسمى أمتي المؤمنين.