الآيات 1 - 3
﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الاِْنْسَـنَ لَفِى خُسْرٌ (2) إِلاَّ الَّذِينَ اءَمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلحَـتِ وَتَوَاصَواْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوا بِالصَّبْرِ (3)﴾
التّفسير:
طريق النجاة الوحيد:
في بداية هذه السّورة نواجه قَسَماً قرآنيا جديداً، يقول سبحانه:
(والعصر).
كلمة (العصر) في الأصل الضغط، وإنّما اطلق على وقت معين من النهار لأنّ الأعمال فيه مضغوطة.
ثمّ أطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية، أو مقطع زماني معين، كأن نقول عصر صدر الإسلام.
ولذلك ذكر المفسّرون في معنى العصر احتمالات كثيرة:
1 - قيل: إنّه وقت العصر من النهار، بقرينة وجود مواضع اُخرى أقسم اللّه فيها بأوّل النهار كقوله تعالى: (والضحى) (1) أو (والصبح إذا أسفر) (2).
وإنّما أقسم بالعصر لأهميته، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر، الأعمال اليومية تنتهي، والطيور تعود إلى أوكارها، وقرص الشمس يميل إلى الغروب، ويتجه الجو إلى أن يكون مظلماً بالتدريج.
هذا التغيير يلفت نظر الإنسان إلى قدرة اللّه المطلقة في نظام الكون، وهو في الواقع أحد علامات التوحيد، وأية من آيات اللّه تستحق أن يقسم بها.
2 - قيل: إنّه كلّ الزمان وتاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة، والأحداث الجسيمة.
وهو لذلك عظيم يستحق القسم الإلهي.
3 - بعضهم قال: إنّه مقطع خاص من الزمان مثل عصر البعثة النبوية المباركة، أو عصر قيام المهدي المنتظر (ع)، وهي مقاطع زمنية ذات خصائص متميزة وعظمة فائقة في تاريخ البشر.
والقسم في الآية إنّما هو بتلك الأزمنة الخاصّة (3).
4 - بعضهم عاد إلى الأصل اللغوي للكلمة، وقال إنّ القَسَم في الآية بأنواع الضغوط والمشاكل التي تواجه الإنسان في حياته، وتبعث فيه الصحوة وتوقظه من رقاده، وتذكره باللّه سبحانه، وتربّي فيه روح الإستقامة.
5 - قيل: إنّها إشارة إلى "الإنسان الكامل" الذي هو في الواقع عصارة عالم الوجود والخليقة.
6 - وأخيراً قيل إنّ الكلمة يراد بها صلاة العصر، لأهميتها الخاصّة بين بقية الصلوات، لأنّها (الصلاة الوسطى) التي أمر اللّه أن يحافظ عليها خاصّة.
مع أنّ التفاسير أعلاه غير متضادة، ويمكن أن تجتمع كلّها في معنى الآية، ويكون القَسَم بكل هذه الاُمور الهامّة، ولكن الأنسب فيها هو القَسَم بالزمان وتاريخ البشرية.
لأنّ القَسَم القرآني - كما ذكرنا مراراً - يتناسب مع الموضوع الذي أقسم اللّه من أجله ومن المؤكّد أن خسران الإنسان في الحياة ناتج عن تصرّم عمرهم، أو أنّه عصر بعثة الرسول (ص)، لأنّ المنهج ذا المواد الأربع في ذيل هذه السّورة نزل في هذا العصر.
تتّضح ممّا سبق عظمة آيات القرآن وسعة مفاهيمها.
فكلمة واحدة تحمل من المعاني العميقة ما يجعلها صالحة لكل هذه التفاسير المتنوعة.
الآية التالية تحمل الموضوع الذي جاء القَسَم من أجله، يقول سبحانه: (إنّ الإنسان لفي خسر)
الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى.
تمرّ الساعات والأيّام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة، تضعف قواه المادية والمعنوية، تتناقص قدرته باستمرار.
نعم، إنّه كشخص عنده ثروة عظيمة، وهذه الثروة يؤخذ منها كلّ يوم شيء باستمرار رغم إرادته، هذه طبيعة الحياة الدنيوية... طبيعة الخسران المستمر!
القلب له قدرة معينة على الضربان، وحين تنفد هذه القدرة يتوقف القلب تلقائياً دون علّة من عيب أو مرض.
هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض.
وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان، وثروات قدراته المختلفة.
"خُسر" وخُسران، كما يقول الراغب، انتقاص رأس المال، وينسب ذلك إلى الإنسان، فيقال خَسِرَ فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته.
قال تعالى: (تلك إذن كرة خاسرة).
ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر، وفي المقتنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب، وهو الذي جعله اللّه تعالى الخسران المبين، وقال: "الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين" (4).
الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ينقل عن أحد الصالحين ما ملخصه أنّه تعلم معنى هذه الآية الكريمة من بائع ثلج كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله (5) على أي حال، الدنيا في المنظور الإسلامي سوق تجارة.
كما يقول الإمام علي بن محمّد الهادي (ع) : "الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون" (6) الآية الكريمة التي نحن بصددها تقول: كلّ النّاس في هذه السوق الكبرى خاسرون إلاّ مجموعة تسير على المنهج الذي تبيّنه الآية التالية.
نعم، هناك طريق واحد لا غير لتفادي هذا الخسران العظيم القهري الإجباري، وهو الذي تبيّنه آخر آيات هذه السّورة.
(إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
بعبارة آُخرى: ما يستطيع أن يحول دون هذا الخسران الكبير، وأن يبدله إلى منفعة كبيرة وربح عظيم هو أنّه مقابل فقدان رأس المال، يحصل على رأس مال أغلى وأثمن، يستطيع أن يسدّ مسدّ رأس المال المفقود، بل أن يكون أفضل وأكثر منه عشرات، بل مئات، بل آلاف المرات.
كلّ نفس من أنفاس الإنسان يقربه خطوة نحو الموت، أمير المؤمنين علي (ع) يقول: "نَفَسُ المرء خُطاه إلى أجله" (7).
وهكذا كلّ ضربة من ضربات القلب تقرب الإنسان من الموت من هنا لابدّ من المبادرة إلى ملء الفراغ الذي يولده هذا الخسران الحتمي.
هناك من ينفق رأس مال عمره وحياته مقابل الحصول على مال قليل أو كثير، على بيت صغير أو فخم.
هناك من ينفق كل رأس المال هذا من أجل الوصول إلى منصب أو مقام.
وهناك من ينفقه في سبيل أهوائه وملذاته.
ليس أي واحد من هذه الاُمور - دون شك - يمكن أن يكون ثمناً لتلك الثروة العظيمة... ثروة العمر... ثمنها الوحيد رضا اللّه سبحانه ومقام قربه لا غير.
قال أمير المؤمنين علي (ع) : "إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها" (8).
وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) في دعاء شهر رجب: "خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلاّ لك".
ومن هنا كان أحد آسماء يوم القيامة "يوم التغابن" كما جاء في قوله سبحانه: (ذلك يوم التغابن) (9).
أي ذلك اليوم الذي يظهر من هو المغبون والخاسر.
إنّه لتنظيم رائع في علاقة العبد بربّه.
فهو سبحانه من جهة يشتري رأس مال وجود الإنسان: (إنّ اللّه اشترى من المؤمنين...) (10).
ومن جهة اُخرى يشتري سبحانه رأس المال القليل: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) (11).
ومن جانب آخر يدفع مقابل ذلك ثمناً عظيماً يبلغ أحياناً عشرة أضعاف وأحياناً سبعمائة ضعف، وأحياناً أكثر: (في كلّ سنبلة مائة حبّة، واللّه يضاعف لمن يشاء) (12).
وكما ورد في الدعاء: "يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير".
ومن جهة رابعة، فإنّ كلّ رؤوس أموال الإنسان وثرواته قد وهبها اللّه إيّاه... واللّه بفضله ومنّه ولطفه يعود ليشتري هذه الثروات نفسها بأغلى الأثمان!
1- والضحى، الآية 1.
2- المدثر، الآية 34.
3- عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(ع) قال في تفسير آية:(والعصر إنّ الإنسان لفي خسر): العصر عصر خروج القائم (أي خروج الإمام المهدي المنتظر سلام اللّه عليه). نور الثقلين، ج5، ص666، الحديث 5.
4- مفردات الراغب، مادة خسر.
5- تفسير الفخر الرازي، ج32، ص85.
6- تحف العقول، ص 361، كلمات الإمام الهادي(ع).
7- نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 74.
8- المصدر السابق، الكلمة 456.
9- التغابن، الآية 9.
10- التوبة، الآية 111.
11- الزلزال، الآية 7.
12- البقرة، الآية 261.