الآيات 1 - 5
﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـبِ والْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفَاً مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البَيِّنَةُ (4) وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الْدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلوةَ وَيُؤْتُوا الْزَّكَـوة وَذَلِكَ دِيْنُ الْقَيِّمَةِ (5)﴾
التّفسير:
ذلك دين القيّمة:
في بداية السّورة ذكر لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومشركي العرب قبل ظهور الإسلام، فهؤلاء كانوا يدّعون أنّهم غير منفكين عن دينهم إلاّ بدليل واضح قاطع. (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيّنة).
و"البيّنة" التي أرادوها: رسول من اللّه يتلو عليهم كتاباً مطهّراً من ربّ العالمين: (رسول من اللّه يتلو صحفاً مطهّرة).
وهذه الصحف فيها من الكتابة ما هو صحيح وثابت وذو قيمة. (فيها كتب فيّمة).
كان هذا ادعاؤهم قبل ظهور الإسلام، وحينما ظهر ونزلت آياته تغيّر هؤلاء، واختلفوا وتفرقوا.
وما تفرقوا إلاّ بعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبيّ الصادح بالحق. (وما تفرق الذين اُوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة).
ممّا تقدم، الآيات الاُولى لهذه السّورة المباركة تتحدث عن أهل الكتاب والمشركين الذين كانوا يدعون أنّهم سوف يقبلون الدعوة إنّ جاءهم نبيّ بالدلائل الساطعة.
لكنّهم أعرضوا حين ظهر، وجابهوه، إلاّ فريق منهم آمن واهتدى.
وهذا المعنى يشبه ما جاء في قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند اللّه مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين). (1)
نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور، ولابدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الإنتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة، ولكن حين تحققت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا باعداء الدعوة.
جمع من المفسّرين لهم رأي آخر في تفسير الآية، يقولون: مقصود الآية هو أنّ أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكّين عن دينهم حقيقةً - لا إدعاءً - حتى تأتيهم البيّنة.
وهذا يعني أنّ هؤلاء آمنوا بعدما جاءتهم البيّنة، لكن الآيات التالية تدل على غير ذلك، اللّهم إلاّ إذا قيل أنّ المقصود إيمان مجموعة منهم وإن كانت قليلة وتكون المسألة من قبيل ما يسمى في المنطق "موجبة جزئية".
ولكن على أي حال نستبعد هذا التّفسير، ويبدو أنّ الفخر الرازي لهذا السبب وصف الآية الاُولى من هذه السّورة بأنّها أعقد آية في القرآن لتعارضها مع الآيات التالية، ولحل هذا التعارض ذكر طرقاً متعددة أفضلها هو الذي ذكرناه أعلاه.
ثمّة تفسير ثالث للآية هو أنّ اللّه لا يترك أهل الكتاب والمشركين لحالهم حتى يتمّ الحجّة عليهم ويرسل إليهم البيّنة ويبيّن لهم الطريق.
ولذلك أرسل إليهم نبيّ الإسلام لهدايتهم.
بناء على هذا التّفسير، هذه الآية تشير إلى قاعدة اللطف التي يتناولها علم الكلام وتقرر أن اللّه يبعث إلى كلّ قوم دلائل واضحة ليتمّ الحجّة عليهم (2).
على أي حال، "البيّنة" في الآية هي الدليل الواضح، ومصداقها حسب الآية الثّانية شخص "رسول اللّه" وهو يتلو عليهم القرآن.
"صحف" جمع "صحيفة"، وتعني ما يكتب عليه من الورق، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق، إذ نعلم أنّ الرّسول الأعظم (ص) لم يكن يتلو شيئاً عليهم من الأوراق.
و"مطهرّة" أي طاهرة من كلّ ألوان الشرك والكذب والباطل.
ومن تلاعب شياطين الجن والإنس.
كما جاء أيضاً في قوله تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) (3) جملة (فيها كتب قيمة) إشارة إلى أنّ ما في هذه الصحف السماوية خال من الإنحراف والإعوجاج.
من هنا فإنّ هذه "الكتب" تعني المكتوبات، أو تعني الأحكام والتشريعات المنصوصة من اللّه، لأنّ الكتابة جاءت بمعنى تعيين الحكم أيضاً، كقوله تعالى: (كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم) (4).
وبهذا يكون معنى "قيمة" السويّة والمستقيمة، أو الثابتة والمستحكمة، أو ذات قيمة، أو كل هذه المعاني مجتمعة.
ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أن القرآن فيه الكتب السماوية القيّمة السابقة لأنّه يضم جميع محتوياتها وزيادة.
ويلفت النظر تقدم ذكر أهل الكتاب على المشركين في الآية الاُولى، والإقتصار على ذكر أهل الكتاب في الآية الرابعة دون ذكر المشركين، بينما الآية تريد الإثنين.
وهذا يعود ظاهراً إلى أنّ أهل الكتاب كانوا هم الروّاد في هذه المواقف، وكان المشركون تابعين لهم.
أو لأنّ أهل الكتاب كانوا أهلاً لذم أكثر لما عندهم من علماء كثيرين، وبذلك كانوا ذا مستوى أرفع من المشركين.
معارضتهم - إذن - أفظع وأبشع وتستحق مزيداً من التقريع.
ثمّ يتوالى التقريع لأهل الكتاب، ومن بعدهم للمشركين، لأنّهم اختلفوا في الدين الجديد، منهم مؤمن ومنهم كافر، بينما: (وما اُمروا إلاّ ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) (5).
ثمّ تضيف الآية القول:
(وذلك دين القيمة).
قيل في معنى "وما اُمروا..." أن المقصود هو: إنّ التوحيد والصلاة والزكاة من المسائل الثابتة في دين أهل الكتاب، لكنّهم لم يبقوا أوفياء لهذه التعاليم.
وقيل: المقصود هو إنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم.
وهذه اُمور معروفة فلماذا يعرضون عنها؟.
يبدو أنّ المعنى الثّاني أقرب.
لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الإختلاف في قبول الدين الجديد، والمناسب هنا أن يكون المراد في "اُمروا..." هو الدين الجديد أيضاً.
أضف إلى ذلك أنّ المعنى الأوّل يصدق على أهل الكتاب وحدهم، بينما المعنى الثّاني يشمل المشركين أيضاً.
المقصود بـ "الدين" في عبارة (مخلصين له الدين حنفاء) قد يكون "العبادة"، وعبارة "إلاّ ليعبدوا اللّه" في الآية تؤكّد هذا المعنى.
ويحتمل أيضاً أن يكون المقصود مجموع الدين والشريعة، أي أنّهم اُمروا أن يعبدوا اللّه وأن يخلصوا له الدين والتشريع في جميع المجالات.
وهذا المعنى يتناسب أكثر مع المفهوم الواسع للدين.
وجملة (وذلك دين القيمة) تؤيد هذا المعنى لأنّها طرحت الدين بمفهومه الواسع.
"حنفاء" جمع "حنيف"، من الفعل الثّلاثي حَنَفَ، أي عدل عن الضلال إلى الطريق المستقيم، كما يقول الراغب في المفردات.
والعرب تسمي كلّ من حج أو خُتِنَ "خَنيفا" إشارة إلى أنّه على دين إبراهيم.
و"الأحنف" من كانت رجله عوجاء.
ويبدو أنّ الكلمة كانت في الأصل تستعمل للإنحراف والإعوجاج، والنصوص الإسلاميّة استعملتها بمعنى الإنحراف عن الشرك إلى التوحيد والهداية.
ومن الممكن أن تكون المجتمعات الوثنية قد اطلقت على من يترك الأوثان ويتجه إلى التوحيد اسم "حنيف"، أي منحرف.
ثمّ أصبحت الكلمة بالتدريج اسماً لسالكي طريق التوحيد ومن مستلزمات الكلمة الإخلاص في التوحيد والإعتدال التام واجتناب أي إفراط أو تفريط; غير أنّ هذه معان ثانوية للكلمة.
جملة (وذلك دين القيمة) (6) إشارة إلى أنّ الاُصول المذكورة في الآية وهي: التوحيد الخالص، والصلاة (الارتباط باللّه) والزكاة (الارتباط بالنّاس) من الاُصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان، بل إنّها قائمة في أعماق فطرة الإنسان.
ذلك لأنّ مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره، ثمّ إنّ الروح الإجتماعية المدنية للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين.
من هنا، هذه التعاليم لها جذور في أعماق الفطرة، وهي لذلك كانت في تعاليم كلّ الأنبياء السابقين وتعاليم خاتم النبيين (ص).
1- البقرة، الآية 89.
2- يجب ملاحظة أن "منفكين" جمع (منفك) يمكن أن تكون اسم فاعل أو اسم مفعول، فعلى التّفسيرين الأوّل والثّاني تعطي معنى اسم الفاعل، وعلى التّفسير الثّالث معنى اسم المفعول، فلاحظ.
3- فصلت، الآية 42.
4- البقرة، الآية 183.
5- جملة "وما اُمروا" قد تكون حالية أو استثنافية. واللام في "ليعبدوا" لام الغرض، والمقصود هنا الغرض الذي يعود على العباد، لا الغرض الذي يعود على اللّه كما تصور بعض المفسّرين وأدى بهم هذا التصور إلى إنكار "لام الغرض" في مثل هذه المواضع. كل أفعال اللّه معللة بالأغراض، لكنّها أغراض تعود على العباد. بعضهم اعتبر اللام هنا بمعنى "أن" كما في قوله تعالى: (يريد اللّه ليبيّن لكم) النساء، الآية 26.
6- دين القيمة، مضاف مضاف إليه، وليس صفة وموصوف ومفهومها أنّه دين ورد في الكتب السابقة مستقيم وذو قيمة أو أنّه دين فيه احكام وتعليمات ذات قيمة، فعلى هذا جاءت الكلمة بصيغة المؤنث لأنّها صفة للكتب أو الملة والشريعة.