بحوث

1 - ما هي الاُمور التي تُقدّر في ليلة القدر؟

في سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر قيل الكثير من ذلك:

1 - لأنّها الليلة التي تعيّن فيها مقدرات العباد لسنة كاملة، يشهد على ذلك قوله تعالى: (إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إنّا كنّا منذرين، فيها يفرق كلّ أمر حكيم) (1)

هذه الآية الكريمة تنسجم مع ما جاء من الرّوايات تقول: في هذه الليلة تعيّن مقدرات النّاس لسنة كاملة، وهكذا أرزاقهم، ونهاية أعمارهم، وأُمور اُخرى تفرق وتبيّن في تلك الليلة المباركة.

هذه المسألة طبعاً لا تتنافى مع حرية إرادة الإنسان ومسألة الإختيار، لأنّ التقدير الإلهي عن طريق الملائكة إنّما يتمّ حسب لياقة الأفراد وميزان إيمانهم وتقواهم وطهر نيّتهم وأعمالهم.

أي يقدر كلّ فرد ما يليق له; وبعبارة اُخرى، أرضية التقدير يوفرها الإنسان نفسه، وهذا لا يتنافى مع الإختيار بل يؤكّده.

2 - وقال بعض إنّها سمّيت بالقدر لما لها من قدر عظيم وشرف كبير في القرآن جاء قوله سبحانه: (ما قدروا اللّه حقّ قدره) (2).

3 - وقيل لأنّ القرآن بكل قدره ومنزلته نزل على رسول الأكرم (ص) بواسطة المَلك العظيم في هذه الليلة.

4 - إنّها الليلة التي قُدّر فيها نزول القرآن.

5 - إنّها الليلة التي من أحياها نال قدراً ومنزلة.

6 - وقيل أيضاً لأنّها الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتى تضيق بهم الأرض لكثرتهم.

لأنّ القدر جاء بمعنى الضيق أيضاً كقوله تعالى: (ومن قدر عليه رزقه) (3).

كل هذه التفاسير يستوعبها المفهوم الواسع لليلة القدر مع أنّ التّفسير الأوّل أنسب وأشهر.

2 - أية ليلة هي ليلة القدر؟

لا شك أنّ ليلة القدر من ليالي شهر رمضان، لأنّ الجمع بين آيات القرآن يقتضي ذلك.

فالقرآن نزل في شهر رمضان من جهة (البقرة - 185)، ومن جهة اُخرى تقول آيات السّورة التي نحن بصددها أنّه نزل في ليلة القدر.

ولكن، آية ليلة من شهر رمضان؟ قيل في ذلك كثير، وذكرت تفاسير عديدة من ذلك: أنّها أوّل ليلة من شهر رمضان المبارك، الليلة السابعة عشرة، الليلة التاسعة عشرة، الليلة الحادية والعشرون، الليلة الثّالثة والعشرون، الليلة السابعة والعشرون، والليلة التاسعة والعشرون.

والمشهور في الرّوايات أنّها في العشر الأخيرة من شهر رمضان، وفي الليلتين الحادية والعشرين أو الثّالثة والعشرين.

لذلك ورد في الرّوايات أنّ النبيّ (ص) كان يحيي كل الليالي العشر الأخيرة من الشهر المبارك بالعبادة.

وروي عن الإمام الصادق (ع) أنّها الليلة الحادية والعشرون أو الثّالثة والعشرون.

وعندما أصر عليه أحدهم في تعيين واحدة بين الليلتين لم يزد الإمام على أن يقول: "ما أيسر ليلتين فيما تطلب!!" (4).

ثمّة روايات متعددة عن أهل البيت (ع) تركز على الليلة الثّالثة والعشرين.

بينما روايات أهل السنة تركز على الليلة السابعة والعشرين.

وروي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) قال: "التقدير في ليلة القدر تسعة عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين" (5).

ليلة القدر إذن محاطة بهالة من الإبهام سنذكر سببه فيما يلي.

3 - لماذا خفيت ليلة القدر؟

الإعتقاد السائد أنّ اختفاء ليلة القدر بين ليالي السنة، أو بين ليالي شهر رمضان المبارك يعود إلى توجيه النّاس إلى الإهتمام بجميع هذه الليالي; مثلما أخفى رضاه بين أنواع الطاعات كي يتجه النّاس إلى جميع الطاعات، وأخفى غضبه بين المعاصي، كي يتجنب العباد جميعها، وأخفى أحباءه بين النّاس كي يُحترم كلّ النّاس، وأخفى الإجابة بين الأدعية لتقرأ كل الأدعية، وأخفى الاسم الأعظم بين أسمائه كي تعظم كل أسمائه، وأخفى وقت الموت كي يكون النّاس دائماً على استعداد.

ويبدو أن هذا دليل مقبول:

4 - هل كانت ليلة القدر معروفة بين الاُمم السابقة؟

من ظاهر آيات هذه السّورة نفهم أنّ ليلة القدر ليست خاصّة بزمان نزول القرآن وعصر الرّسول (ص)، بل تتكرر كلّ سنة حين يرث اللّه الأرض ومن عليها.

التعبير بالفعل المضارع "تنزل" الدال على الإستمرار، وهكذا التعبير بالجملة الإسمية (سلام هي حتى مطلع الفجر) الدالة أيضاً على الدوام يؤيد ذلك.

مضافاً إلى ذلك الرّوايات التي ربّما بلغت حدّ التواتر في تأييد هذه المسألة.

ولكن هل كانت هذه الليلة في الاُمم السابقة؟

روايات متعددة تصرّح أنّ هذه الليلة من المواهب الإلهية على هذه الاُمّة، وعن النبيّ (ص) قال: "إنّ اللّه وهب لاُمّتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم".

وفي تفسير الآيات التي نحن بصددها روايات تؤيد ذلك أيضاً.

5 - ليلة القدر خير من ألف شهر

لماذا كانت خيراً من ألف شهر... الظاهر لأهمية العبادة والإحياء فيها.

وما جاء من روايات بشأن فضيلة ليلة القدر وفضيلة العبادة فيها في كتب الشيعة وأهل السنة كثير، ويؤيد هذا المعنى.

أضف إلى ذلك، فإنّ نزول القرآن في هذه الليلة، ونزول البركات والرحمة الإلهية فيها يجعلها خيراً من ألف شهر.

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) قال: لعلي بن أبي حمزة الثمالي: "فاطلبها (أي ليلة القدر) في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة وأحيهما إن استطعت إلى النور، واغتسل فيهما"

قال: قلت: فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟

قال: فصلِّ وأنت جالس.

قال: قلت: فإن لم أستطع؟

قال: فعلى فراشك، لا عليك أن تكتحل أوّل الليل بشيء من النوم إنّ أبواب السماء تفتح في رمضان وتصفد (تقيّد) الشياطين، وتقبل أعمال المؤمنين... نعم الشهر رمضان!" (6).

6 - لماذا نزل القرآن في ليلة القدر؟

ليلة القدر - كما علمنا - ليلة تقدير مصائر البشر لسنة كاملة حسب ما يليق بكلّ فرد.

فينبغي أن يكون الإنسان فيها مستيقظاً وفي حالة تقرب إلى اللّه وتكامل على طريق بناء الشخصية الإسلامية ليرفع من مستوى لياقته لمزيد من رحمة اللّه.

نعم، في اللحظات التي يتقرر فيها مصيرنا ينبغي أن لا نكون غافلين، وإلاّ فسيواجهنا المصير المؤلم.

والقرآن... باعتباره الكتاب القادر على أن يرسم للبشرية مستقبلها ومصيرها ويهديها إلى طريق سعادتها وهدايتها، يجب أن ينزل في ليلة القدر... ليلة تعيين المصير... وما أجمل هذه العلاقة بين "القرآن" و"ليلة القدر"، وما أعمق معنى الإرتباط بين الإثنين!!

7 - هل ليلة القدر واحدة في المعمورة؟

نعلم أن بدء الشهر القمري ليس واحداً في جميع البلدان.

وقد يكون يومنا هذا أوّل الشهر في بلد ويكون الثّاني في بلد آخر.

من هنا لا يمكن أن تكون ليلة القدر ليلة معينة في السنة.

على سبيل المثال قد تكون ليلة الثّالث والعشرين في الحجاز هي ليلة الثّاني والعشرين في ايران والعراق.

وبهذا يكون لكل بلد ليلة قدر! وهل هذا ينسجم مع ما جاء في الرّوايات المؤكّدة على أنّ ليلة القدر ليلة معينة؟

الجواب يتّضح بالإلتفات إلى ما يلي:

الليل هو ظل نصف الكرة الأرضية على النصف الآخر من هذه الكرة، ونعلم أن هذا الظل يتحرك بتحرك الكرة الأرضية، ويدور دورة كاملة في أربع وعشرين ساعة من هنا يمكن أن تكون ليلة القدر دورة كاملة لليل حول الأرض، أي تكون هذه الليلة مدّة أربع وعشرين ساعة من دوران الظلام حول الكرة الأرضية بأجمعها، تبدأ من نقطة وتنتهي عند نقطة اُخرى.

(تأمل بدقّة).

اللّهم! مُنَّ علينا بيقظة ووعي كي نتزوّد من فضيلة ليلة القدر.

ربّنا! آمالنا منشدّة إلى لطفك وكرمك، فقدّر لنا وفق ما نأمله فيك.

يا ربّ العالمين! لا تجعلنا من محرومي هذا الشهر فما بعد هذا الحرمان حرمان.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة القدر


1- الدخان، الآية 3 - 4.

2- الحج، الآية 74.

3- الطلاق، الآية 7.

4- نور الثقلين، ج5، ص625، الحديث 58.

5- المصدر السابق، الحديث 626.

6- نور الثقلين، ج5، ص626، مقطع من الحديث 58.