الآيات 1 - 5

﴿إِنَّآ أَنزَلنَـهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر (3) تَنَزَّلُ الْمَلَـئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر (4) سَلـْمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجرِ (5)﴾

التّفسير:

ليلة القدر ليلة نزول القرآن:

يستفاد من آيات الذكر الحكيم أنّ القرآن نزل في شهر رمضان: (شهر رمضان الذي اُنزل فيه القرآن) (1)، وظاهر الآية يدل على أن كل القرآن نزل في هذا الشهر.

والآية الاُولى من سورة القدر تقول:

(إنّا أنزلناه في ليلة القدر).

اسم القرآن لم يذكر صريحاً في هذه الآية، ولكن الضمير في "أنزلناه" يعود إلى القرآن قطعاً.

والإبهام الظاهري في ذكر اسم القرآن إنّما هو لبيان عظمته وأهميته.

عبارة (إنّا أنزلناه) فيها إشارة اُخرى إلى عظمة هذا الكتاب السماوي.

فقد نسب اللّه نزوله إليه، وبصيغة المتكلم مع الغير أيضاً، وهي صيغة لها مفهوم جمعي وتدل على العظمة.

نزول القرآن في ليلة "القدر" وهي الليلة التي يقدر فيها مصير البشر وتعين بها مقدراتهم، دليل آخر على الأهمية المصيرية لهذا الكتاب السماوي.

لو جمعنا بين هذه الآية وآية سورة البقرة لاستنتجنا أنّ "ليلة القدر" هي إحدى ليالي شهر رمضان، ولكنّها أية ليلة؟ القرآن لا يبيّن لنا ذلك، ولكن الرّوايات تتناول هذا الموضوع بإسهاب.

وسنتناولها في نهاية تفسير هذه السّورة إن شاء اللّه.

وهنا يطرح سؤال له طابع تاريخي وله ارتباط بما رافق أحداث حياة النّبي (ص) من نزول القرآن.

من المؤكّد أنّ القرآن الكريم نزل تدريجياً خلال (23) عاماً.

فكيف نوفق بين هذا النزول التدريجي وما جاء في الآيات السابقة بشأن نزول القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر؟

الجواب على هذا السؤال كما ذكره المحققون يتلخص في أنّ للقرآن نزولين:

النزول الدفعي، وهو نزول القرآن بأجمعه على قلب النّبي (ص) أو على البيت المعمور، أو من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.

والنزول التدريجي، وهو ما تمّ خلال (23) سنة من عصر النبوّة (ذكرنا شرح ذلك في تفسير الآية 3 من سورة الدخان).

وقال بعضهم إن ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر لا كلّه، ولكن هذا خلاف ظاهر الآية التي تقول: (إنّا انزلناه في ليلة القدر).

ويذكر أنّ تعبير الآيات عن نزول القرآن يكون مرّة بكلمة "إنزال" ومرّة اُخرى بكلمة "تنزيل".

ويستفاد من كتب اللغة أن التنزيل للنزول التدريجي، والإنزال له مفهوم واسع يشمل النزول الدفعي أيضاً (2).

وهذا التفاوت في التعبير القرآني قد يكون إشارة إلى النزولين المذكورين.

في الآيتين التاليتين يبيّن اللّه تعالى عظمة ليلة القدر ويقول سبحانه:

(وما أدراك ما ليلة القدر). (ليلة القدر خير من ألف شهر).

والتعبير هذا يوضح أنّ عظمة ليلة القدر كبيرة إلى درجة خفيت على رسول اللّه (ص) أيضاً قبل نزول هذه الآيات، مع ما له من علم واسع.

و"ألف شهر" تعني أكثر من ثمانين عاماً، حقّاً ما أعظم هذه الليلة التي تساوي قيمتها عُمُراً طويلاً مباركاً.

وجاء في بعض التفاسير أنّ النّبي (ص) ذكر رجلاً من بني اسرائيل لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل اللّه (إنّا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر)، التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل اللّه ألف شهر (3).

وروي أنّ أربعة أشخاص من بني اسرائيل عبدوا اللّه تعالى ثمانين سنة من دون ذنب، فتمنى الصحابة ذلك التوفيق لهم، فنزلت الآية المذكورة.

وهل العدد (ألف) في الآية للعدّ أو التكثير؟:، قيل إنّه للتكثير، وقيمة ليلة القدر خير من آلاف الأشهر أيضاً، ولكن الرّوايات أعلاه تبيّن أنّ العدد المذكور للعدّ، والعدد عادة للعد إلاّ إذا توفرت قرينة واضحة تصرفه إلى التكثير.

ولمزيد من وصف هذه الليلة تقول الآية التالية: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربّهم من كلّ أمر).

و"تنزل" فعل مضارع يدل على الإستمرار (والأصل تتنزل) ممّا يدل على أنّ ليلة القدر لم تكن خاصّة بزمن النّبي الاكرم (ص)، وبنزول القرآن، بل هي ليلة تتكرر في كل عام باستمرار.

وما المقصود بـ "الروح"؟ قيل: إنّه جبرائيل الأمين، ويسمّى أيضاً الروح الأمين.

وقيل: إنّ الروح بمعنى الوحي بقرينة قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) (4).

وللروح تفسير آخر يبدو أنّه أقرب، هو أنّ الروح مخلوق عظيم يفوق الملائكة.

وروي أنّ الإمام الصادق (ع) سئل عن الروح وهل هو جبرائيل، قال: "جبرائيل من الملائكة، والروح أعظم من الملائكة، أليس أنّ اللّه عزّوجلّ يقول: تنزل الملائكة والروح"؟ (5)

فالإثنان متفاوتان بقرينة المقابلة.

وذكرت تفاسير اُخرى للروح هنا نعرض عنها لإفتقادها الدليل. (من كلّ أمر) أي لكل تقدير وتعيين للمصائر، ولكل خير وبركة.

فالهدف من نزول الملائكة في هذه الليلة إذن هو لهذه الاُمور.

أو بمعنى بكل خير وتقدير، فالملائكة تنزل في ليلة القدر ومعها كل هذه الاُمور (6).

وقيل: المقصود أنّ الملائكة تنزل بأمر اللّه، لكن المعنى الأوّل أنسب.

عبارة "ربّهم" تركز على معنى الربوبية وتدبير العالم، وتتناسب مع عمل الملائكة في تلك الليلة حيث تنزل لتدبير الاُمور وتقديرها، وبذلك يكون عملها جزء من ربوبية الخالق.

بإيجاز الآية الكريمة تقول: الملائكة والروح تتنزل في هذه الليلة بأمر ربّهم لتقدير كلّ أمر من الاُمور. (سلام هي حتى مطلع الفجر) والآية الأخيرة هذه تصف الليلة بأنّها مفعمة بالخير والسلامة والرحمة حتى الصباح.

القرآن نزل فيها، وعبادتها تعادل عبادة ألف شهر، وفيها تنزل الخيرات والبركات، وبها يحظى العباد برحمة خاصّة، كما إنّ الملائكة والروح تتنزل فيها... فهي إذن ليلة مفعمة بالسلامة من بدايتها حتى مطلع فجرها.

والرّوايات تذكر أنّ الشيطان يكبل بالسلاسل هذه الليلة فهي ليلة سالمة مقرونة بالسلامة.

وإطلاق كلمة "سلام" على هذه الليلة بمعنى "سلامة" (بدلاً من سالمة) هو نوع من التأكيد كأن نقول فلان عدل، للتأكيد على أنّه عادل.

وقيل: إنّ إطلاق كلمة (سلام) على تلك الليلة يعني أنّ الملائكة تسلّم باستمرار على بعضها أو على المؤمنين، أو أنّها تأتي إلى النّبي (ص) وخليفته المعصوم، تسلّم عليه.

ومن الممكن أيضاً الجمع بين هذه التفاسير.

إنّها على أي حال ليلة ملؤها النور والرحمة والخير والبركة والسلامة والسعادة من كلّ الجهات.

وسئل الإمام محمّد بن علي الباقر (ع) عمّا إذا كان يعرف ليلة القدر، قال: "كيف لا نعرف والملائكة تطوف بنا فيها".

وجاء في قصّة إبراهيم (ع) أنّ عدداً من الملائكة جاءت إليه وبشرته بالولد وسلمت عليه (هود - 69) وفي الرّواية أنّ إبراهيم أحسّ بلذة من سلام الملائكة لا تعدلها لذّة، إذن، فأية لذّة وبركة ولطف في سلام الملائكة على المؤمنين وهي تتنزل في ليلة القدر!!

وحين اُلقي إبراهيم (ع) في نار نمرود، جاءت إليه الملائكة وسلمت عليه فتحولت النّار إلى جنينة.

ألا تتحول نار جهنم ببركة سلام الملائكة على المؤمنين في ليلة القدر إلى برد وسلام.

نعم هذه كرامة لاُمّة محمّد وتعظيم لها حيث تنزل الملائكة هناك على الخليل (ع) وتنزل هنا على اُمّة الإسلام (7)


1- البقرة، الآية 185.

2- مفردات الراغب، مادة نزل.

3- الدر المنثور، ج8، ص568.

4- الشورى، الآية 52.

5- تفسير البرهان، ج4، ص481.

6- حسب التّفسير الأوّل (من) هنا بمعنى لام التعليل أي لأجل كلّ أمر. وبناء على التّفسير الثّاني (من) تعني باء المصاحبة.

7- تفسير الفخر الرازي، ج32، ص36.