الآيات 1 - 5

﴿اقْرَأ باسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ (1) خَلَقَ الاِْنسَـنَ مِنْ عَلَق (2) اقْرَأ وَرَبُّكَ الاَْكْرَمُ (3) الَّذِى عَلَّمَ بالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الاِْنسَـنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾

سبب النّزول:

ذكرنا أنّ أكثر المفسّرين يذهبون إلى أنّ هذه السّورة أوّل ما نزل من القرآن، وقيل إنّ المفسّرين يجمعون على نزول الآيات الخمس الأوائل في بداية نزول الوحي على الرسول (ص)، ومضمون الآيات يؤيد ذلك.

وجاء في الرّوايات أن محمّداً (ص) كان في غار حراء حين نزل عليه جبرائيل وقال له: إقرأ يا محمّد.

قال: ما أنا بقاريء، فاحتضنه جبرائيل وضغطه وقال له: إقرأ يا محمّد وتكرر الجواب.

ثمّ أعاد جبرائيل عمله ثانية وسمع نفس الجواب.

وفي المرّة الثّالثة قال: (إقرأ باسم ربّك الذي خلق...) إلى آخر الآيات الخمس الأوّل من السّورة.

قال ذلك واختفى عن أنظار النّبي (ص).

رسول اللّه أحسّ بتعب شديد بعد هبوط أولى أشعة الوحي عليه فذهب إلى خديجة وقال: "زملوني ودثروني". (1)

"الطبرسي" في مجمع البيان يروي عن الحاكم النيسابوري قصّة أوّل نزول الوحي ما ينبيء أنّ سورة الحمد كانت أوّل ما نزل على النّبي (ص) يقول: إنّ رسول اللّه قال لخديجة إنّي إذا خلوت وحدي سمعت نداء.

فقالت: ما يفعل اللّه بك إلاّ خيراً، فواللّه إنّك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث، قالت خديجة: فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمّ خديجة فاخبره رسول اللّه (ص) بما رأى، فقال له ورقة: إذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول ثمّ إيتني فأخبرني، فلمّا خلا ناداه يا محمّد: قل بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد للّه ربّ العالمين... حتى بلغ ولا الضّالين، قل لا إله إلاّ اللّه، فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له: أبشر ثمّ أبشر، فأنا أشهد أنّك الذي بشر به ابن مريم، وإنّك على مثل ناموس موسى، وإنّك نبيّ مرسل، وإنّك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لاُجاهدنَّ معك، فلمّا توفي ورقة، قال رسول اللّه (ص) : "لقد رأيت القس في الجنّة عليه ثياب الحرير لأنّه آمن بي وصدّقني" (2).

جدير بالذكر أنّ في بعض كتب التّفسير والتاريخ كلاماً حول حياة الرّسول الأكرم (ص)، في هذه البرهة الزمنية لا تتناسب أبداً مع شخصية النّبي الأكرم (ص)، وتستند حتماً إلى أحاديث مختلفة أو إلى اسرائيليات، من ذلك أنّ النّبي (ص) اغتم كثيراً لدى نزول الوحي عليه أوّل مرّة، وخشي أن يكون إلقاءات شيطانية! ومن ذلك أنّه (ص) همّ مرّات أن يلقي بنفسه من أعلى الجبل! وأمثال هذه الخزعبلات التي لا تنسجم اطلاقاً مع ما ذكرته كتب السيرة حول ما يتمتع به الرّسول (ص) من رجاحة في العقل، وضبط كبير في النفس، وصبر وسعة صدر، وثقة بالدور الكبير الذي ينتظره.

ويبدو أنّ أعداء الإسلام دسّوا هذه الرّوايات للطعن في الإسلام وللحط من شخصية النّبي (ص).

التّفسير:

(اقرأ باسم ربّك)

الآية الاُولى فيها خطاب للنّبي (ص) تقول له:

(اقرأ باسم ربّك الذي خلق) (3)، قيل إنّ مفعول إقرأ محذوف وتقديره: إقرأ القرآن باسم ربّك، وإستدلّ بعضهم بهذه الآية على أنّ البسملة جزء من سور القرآن. (4)

وقيل: إنّ الباء هنا زائدة، أي إقرأ اسم ربّك، وهذا بعيد لأنّ المناسب وهذه الحالة أن يقال اذكر اسم ربّك لا إقرأ...

ويلاحظ هنا قبل كلّ شيء التركيز على مسألة الربوبية، ونعلم أنّ "الربّ" يعني "المالك المصلح"، أي الشخص الذي يملك شيئاً، ويتعهد إصلاحه وتربيته أيضاً.

ولإثبات ربوبية اللّه جاء ذكر الخلقة... خلقة الكون، إذ إن أفضل دليل على ربوبيته خالقيته، فالذي يُدبّر العالم هو خالقه.

وهذا في الحقيقة ردّ على مشركي العرب الذين قبلوا خالقية اللّه، وأوكلوا الربوبية والتدبير إلى الأوثان، ثمّ إنّ ربوبية اللّه وتدبيره لنظام الكون أفضل دليل على إثبات ذاته المقدسة.

ثمّ اختارت الآية التالية "الإنسان" باعتباره أهم مظاهر الخليقة وقالت:

(خلق الإنسان من علق).

"العلق" في الأصل الإلتصاق بشيء، ولذلك سمّي الدم المنعقد المتلاصق، وهكذا الحيوان الذي يلتصق بالجسم لمصّ الدم، بـ "العلق" والنطفة بعد أن تطوي المراحل الجنينية الاُولى تتحول إلى قطعة دم متلاصقة هي العلق، وهي مع تفاهتها الظاهرية تعتبر مبدأ خلقة الإنسان، والآية تركز على هذه الظاهرة لتبيّن قدرة الرّب العظيمة على خلق هذا الإنسان العجيب من هذه العلقة التافهة.

وقيل: إنّ العلق في الآية يعني الطين الذي خلق منه آدم، وهو أيضاً مادة متلاصقة، وبديهي أنّ الربّ الذي خلق آدم من طين لازب يستحق كلّ تمجيد وثناء.

وقيل أيضاً: أنّ العلق يعني "صاحب العلاقة"، وفيه إشارة إلى الروح الإجتماعية للإنسان، والعلاقة الموجودة بين أفراد البشر هي في الواقع أساس تكامل البشر وتطور الحضارات.

وقال آخرون: إنّ العلق إشارة إلى نطفة الرجل (الحيمن)، وهي تشبه دودة العلق إلى حدّ كبير، وهذا الموجود المجهري يسبح في ماء النطفة، ويتجه إلى بويضة المرأة في الرحم، ويلقحها ويكون منها النطفة الكاملة للإنسان.

والقرآن الكريم بطرحه هذه المسألة يسجل معجزة علمية اُخرى من معاجزه، إذ لم تكن هذه الاُمور معروفة أبداً في عصر نزوله.

ومن بين التفاسير الأربعة، يبدو أنّ التّفسير الأوّل أوضح، وإن كان الجمع بين التّفاسير الأربعة ممكن أيضاً.

ممّا تقدم نفهم أنّ "الإنسان" في الآية هو آدم حسب أحد التّفاسير وهو مطلق الإنسان حسب التفاسير الثلاثة الاُخرى.

وللتأكيد، تقول الآية مرّة اُخرى: (إقرأ وربّك الأكرم). (5)

قيل: إنّ "إقرأ" في هذه الآية تأكيد لإقرأ في الآية السابقة، وقيل: إنّها تختلف عن الآية الاُولى، فالاُولى قراءة النبيّ لنفسه، وفي الثّانية القراءة للناس غير أنّ الرأي الأوّل أنسب، إذ لا يوجد دليل على اختلاف الإثنين.

وهذه الآية في الواقع جواب على قول الرّسول (ص) لجبرائيل: ما أنا بقاريء، وهذه الآية تقول: إنّك قادر على القراءة بكرم الرّب وفضله ومنّه.

ثمّ تصف الآيتان التاليتان الربّ الأكرم:

(الذي علم بالقلم). (علم الإنسان ما لا يعلم).

وهاتان الآيتان أيضاً تتجهان إلى الجواب على قول رسول اللّه (ص) : ما أنا بقاريء، أي إنّ اللّه الذي علم البشر بالقلم وكشف لهم المجاهيل، قادر على أن يعلم عبده الأمين القراءة والتلاوة.

جملة (الذي علم بالقلم) تحتمل معنيين.

الأوّل: أنّ اللّه علم الإنسان الكتابة، وأعطاه هذه القدرة العظيمة التي هي منبثق تاريخ البشر، ومنطلق جميع العلوم والفنون والحضارات.

والثّاني: المقصود أنّ اللّه علم الإنسان جميع العلوم عن طريق القلم وبوسيلة الكتابة.

وبإيجاز إمّا أن يكون التعليم، تعليم الكتابة، أو تعليم العلوم عن طريق الكتابة.

وهو - على أي حال - تعبير عميق المعنى في تلك اللحظات الحساسة من بداية نزول الوحي

بحثان:

1 - بداية نزول الوحي مقرون ببداية حركة علمية

هذه الآيات كما ذكرنا هي أوّل ما نزل على رسول اللّه (ص) على ما ذهب إليه أغلب المفسّرين أو جميعهم، وبذلك بدأ فصل جديد في تاريخ البشرية، وأضحت الإنسانية مشمولة بأعظم الألطاف الإلهية وبأكمل الأديان وخاتمها.

واستمرّ نزول الوحي حتى اكتمل التشريع الإلهي بمصداق قوله سبحانه:

(اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) (6)، وبذلك أتمّ اللّه نعمته على الأجيال البشرية المتعاقبة حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها.

والمهمّ في الإمر أنّ هذه الآيات نزلت على نبيّ اُمي لم يتعلم القراءة والكتابة وفي بيئة اجتماعية تسودها الاُمية والجهل لتتحدث أوّل ما تتحدث عن العلم وعن القلم مباشرة بعد ذكر نعمة الخلق!

هذه الآيات تتحدث في الواقع أوّلاً عن تكامل "جسم" الإنسان من موجود تافه هو "العلقة"، ثمّ عن تكامل "روحه" بواسطة التعليم والتعلّم خاصّة عن طريق القلم.

حين نزلت هذه الآيات لم تكن بيئة الحجاز وحدها بل كان العالم المتحضر في ذلك العصر أيضاً لا يعير أهمية تذكر للقلم.

أمّا اليوم فإنّنا نعلم أنّ القلم محور كل الحضارات والعلوم، وكلّ تقدم في أي مجال من المجالات، ونعلم تفوق أهمية "مداد العلماء" على "دماء الشهداء"، لأنّ هذا المداد هو الذي يكون الأساس القويم لدماء الشهداء والسند المتين له.

ولا نكون مغالين إذا قلنا أنّ مصير المجتمعات البشرية مرتبط بما تفرزه الأقلام.

إصلاح المجتمعات البشرية يبدأ من الأقلام الملتزمة المؤمنة، وفساد المجتمعات أيضاً ينطلق من الأقلام المسمومة.

ولأهمية القلم يقسم القرآن به وبما يفرزه، أي بآلة الكتابة وبمحصولها: (ن والقلم وما يسطرون) (7).

نعلم أنّ حياة البشرية تقسم على مرحلتين:

- عصر التاريخ.

- عصر ما قبل التاريخ.

وعصر التاريخ يبدأ من استعمال القلم والكتابة والقراءة... من زمن اقتدار الإنسان على أن يكتب بالقلم، وأن يخلف تراثاً للأجيال، من هنا فتاريخ البشرية مقرون بتاريخ ظهور القلم والخط.

وحول دور القلم في حياة البشرية كان لنا وقفة طويلة في بداية تفسير سورة القلم.

من هنا فإنّ أساس الإسلام أقيم منذ البداية على أساس العلم والقلم... ولذلك استطاع قوم متخلفون أن يتقدموا في العلم والمعرفة حتى تأهّلوا - باعتراف الأعداء والأصدقاء - لتصدير علومهم إلى العالم! إن علم المسلمين ومعارفهم هو الذي مزّق ظلام القرون الوسطى في أوروبا وأدخلها عصر الحضارة.

وهذا ما يعترف به علماء أوروبا أنفسهم فيما كتبوه في حقل تاريخ الحضارة الإسلامية وفي تراث الإسلام.

وما أبشع وأفظع أن تكون أخلاق أُمّة كتلك تمتلك بين ظهرانيها ديناً كهذا متخلفة في ميادين العلم والمعرفة ومحتاجة إلى الآخرين بل وتابعة لهم!!

2 - باسم اللّه في كلّ حال

بدأت دعوة النّبي (ص) باسم اللّه وذكره: (اقرأ باسم ربّك).

واستمرت حياة الرّسول مقرونة في كلّ حال بذكر اللّه... اقترن الذكر بأنفاسه... بقيامه... بجلوسه... بنومه... بمشيه... بركوبه... بترجله... بتوقفه... كان كلّه باسم اللّه.

عندما كان يستيقظ يقول: "الحمد للّه الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور".

يقول ابن عباس: بتّ ليلة مع النّبي، وعندما استيقظ رفع رأسه إلى السماء، وتلا الآيات العشر الأخيرة من سورة آل عمران: (إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار...) ثمّ قال: "اللّهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهنّ...اللّهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت...".

حين كان يخرج من البيت يقول: "بسم اللّه، توكلت على اللّه، اللّهم إنّي أعوذ بك أن أضِلّ، أو أضَل، أو أزل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل، أو يُجهل عليَّ".

وحين يرد المسجد يقول: "أعوذ باللّه العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم".

وحين يرتدي لباساً جديداً يقول: "اللّهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له".

وحين يعود إلى المنزل يقول: "الحمد للّه الذي كفاني وأواني، والحمد للّه الذي أطعمني وسقاني".

وبذلك فإنّ حياة الرّسول الأكرم (ص) بكل مرافقها كانت مقرونة بذكر اللّه واسمه الكريم. (8)


1- التّفسير الكبير، ج12، ص96 (بتلخيص قليل)، وهذا المعنى أورده كثير من المفسّرين بإضافات وزوائد لا يمكن قبول بعضها.

2- تفسير مجمع البيان، ج10، ص514.

3- الراغب في المفردات يقول: إنّ القراءة تعني ضم الحروف والكلمات إلى بعضها. ولذلك لا يقال لنطق الحرف قراءة.

4- الباء في هذه الحالة للملابسة.

5- جملة "وربّك الأكرم" جملة استئنافية مكونة من مبتدأ وخبر.

6- المائدة، الآية 3.

7- القلم، الآية 1.

8- في ظلال القرآن، ج8، ص619 وما يليها بتلخيص.