الآيات 6 - 14
﴿كَلاَّ إِنَّ الاِْنَسـنَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّءاهُ استَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)﴾
التّفسير:
سبب الطغيان:
استتباعاً للآيات السابقة التي تحدثت عن النِعم المادية والمعنوية الإلهية على الإنسان... والنِعَم التي تستلزم شكر الإنسان وتسليمه أمام اللّه، هذه الآيات تبدأ بالقول: ليست نِعَم اللّه تحيي روح الشكر في الإنسان دائماً، بل إنّه يطغى:
(كلاّ إنّ الإنسان ليطغى) (1) ومتى يكون ذلك؟ فيما لو رأى نفسه مستغنياً وغير محتاج. (أن رآه استغنى) (2).
هذه طبيعة أغلب أفراد البشر... الأفراد الذين لم يتربوا في مدرسة العقل والوحي، حين يرون أنفسهم مستغنين غير محتاجين يعمدون إلى الطغيان، وينسلخون من عبودية اللّه، ويرفضون الإعتراف بأحكامه، ويصمّون أذانهم عن ندائه، ولا يراعون حقّاً ولا عدلاً.
لا الإنسان ولا أي مخلوق آخر قادر على أن يستغني، بل كلّ الموجودات الممكنة بحاجة إلى لطف اللّه ونِعَمِه، وإذا انقطع فيضه سبحانه عنها لحظة واحدة، ففي هذه اللحظة بالذات تفنى بأجمعها، غير أنّ الإنسان يحسّ خطأ أحياناً أنّه مستغن غير محتاج.
والقرآن يشير إلى هذا الإحساس بعبارة دقيقة يقول: (أن رآه استغنى) لم يقل أن استغنى.
قيل: إنّ المقصود بالإنسان في الآية أبو جهل الذي كان يطغى أمام الدعوة لكن مفهوم الإنسان هنا عام، وأمثال أبي جهل مصاديق له.
يبدو أنّ الهدف من الآية الفات نظر الرّسول (ص) بمنعطفات الطبيعة البشرية كي لا يتوقع قولاً سريعاً من النّاس لدعوته، وليعدّ نفسه لإنكار المنكرين ومعارضة الطغاة المستكبرين، وليعلم أنّ الطريق أمامه وعر مليء بالمصاعب.
ثمّ يأتي التهديد لهؤلاء الطغاة المستكبرين وتقول الآية التالية:
(إن إلى ربّك الرجعى) وهو الذي يعاقب الطغاة على ما اقترفوه، وكما إنّ رجوع كلّ شيء إليه، وميراث السماوات والأرض له سبحانه: (وللّه ميراث السماوات والأرض) (3) فكل شيء في البداية منه، ولا مبرّر للإنسان أن يشعر بالإستغناء ويطغى.
ثمّ تتحدث الآيات التالية عن بعض أعمال الطغاة المغرورين، مثل صدّهم عباد اللّه عن السير في طريق الحقّ. (أرأيت الذي ينهى). (عبداً إذا صلّى) ؟!
ألا يستحق مثل هؤلاء عذاباً سحيقاً؟!
وفي الحديث أن أبا جهل قال: "هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم (أي هل يسجد محمّد بينكم) قالوا: نعم، قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته.
فقيل له: ها هو ذاك يصلّي، فانطلق ليطأ على رقبته، فما فاجأهم إلاّ وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه.
فقالوا: مالك يا أبا الحكم؟!
قال: إنّ بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً، وأجنحة.
وقال نبيّ اللّه: والذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضواً عضواً.
فأنزل اللّه سبحانه: (أرأيت الذي ينهى) إلى آخر السّورة" (4) حسب هذه الرّواية: الآيات التي نحن بصددها لم تنزل في بداية البعثة، بل نزلت حين أعلنت الدعوة، ولذلك قيل إنّ الآيات الخمس الاُولى هي التي كانت أوّل مانزل من الوحي والباقي بعد ذلك بمدّة.
على أي حال، سبب نزول الآيات لا يمنع من سعة مفهومها.
الآيات التالية تأكيد على نفس المفاهيم. (أرأيت إن كان على الهدى). (أو أمر بالتقوى).
أي أرأيت إن كان هذا العبد المصلّي على الهدى أو أمر بالتقوى فهل يصح نهيه؟ ألا يستحق من ينهاه النّار؟ (أرأيت إن كذّب وتولّى) ولو كذّب هذا الطاغية بالحق وتولى وأعرض عنه فماذا سيكون مصيره؟
(ألم يعلم بأن اللّه يرى) ويثبت كلّ شيء ليوم الجزاء والحساب.
والتعبير بالقضية الشرطية في الآيتين إشارة إلى أن هذا الطاغي المغرور ينبغي أن يحتمل - على الأقل - أنّ النّبي على طريق الهداية ودعوته تتجه إلى التقوى،.
وهذا الإحتمال وحده كاف لصده عن الطغيان.
من هنا فمفهوم الآيات ليس فيه ترديد في هداية النّبي ودعوته إلى التقوى، بل ينطوي على إشارة دقيقة إلى المعنى المذكور.
بعض المفسّرين أرجع الضمير في "كان" و"أمر" إلى الشخص الطاغي الناهي، مثل أبي جهل، ويكون المعنى عندئذ: أرأيت إن قبل هذا هداية الإسلام، وأمر بالتقوى بدلاً من نهيه عن الصلاة، فما أنفع ذلك له!
لكن التّفسير الأوّل أنسب!
ملاحظة:
عالم الوجود محضر اللّه:
حين يؤمن الإنسان بأنّه في كلّ حركاته وسكناته بين يدي اللّه، وأنّ عالم الوجود محضر اللّه سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه شيء من عمل الفرد بل من نواياه، فإنّ ذلك سيؤثر على منهج هذا الإنسان في الحياة تأثيراً بالغاً، ويصدّه عن الإنحراف، إذا كان إيمانه - طبعاً - متوغلاً في قلبه، وكان اعتقاده قطعي لا تردد فيه.
جاء في الحديث: "اعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك".
يقال أنّ عارفاً تاب بعد ذنب، وكان بعد ذلك يبكي كثيراً قيل له: لِمَ هذا البكاء؟ ألا تعلم أنّ اللّه تعالى غفور؟ قال: بلى، قد يعفو سبحانه.
ولكن كيف أبعد عن نفسي الإحساس بالخجل، وقد رآني أذنب؟!
1- حسب المعنى الذي ذكرناه للآية (كلا) هنا للردع بالنسبة لما يستلزمه مضمون الآيات السابقة وقيل أيضاً أنّها بمعنى "حقّاً" للتأكيد.
2- جملة "أن رآه استغنى" مفعول لأجله، والتقدير: لأنّ... والرؤية هنا بمعنى العلم ولذا نصبت مفعولين، ويحتمل أيضاً أن تكون الرؤية هنا حسّية. و"استغنى" تكون عندئذ بمثابة الحال.
3- آل عمران، الآية 180.
4- مجمع البيان، ج10، ص515.