الآيات 1 - 11
﴿وَالَّيلِ إِذَا يَغشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّآ مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسرَى (7) وأَمّآ مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)﴾
سبب النّزول:
روي عن ابن عباس في نزول هذه السّورة: "أنّ رجلاً كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، وكان الرجل إذا جاء فدخل الدار وصعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربّما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة حتى يأخذ التمر من أيديهم، فإنّ وجدها في فيّ أحدهم أدخل إصبعه حتى يأخذ التمرة من فيه.
فشكا ذلك الرجل إلى النّبي (ص)، وأخبره بما يلقي من صاحب النخلة، فقال له النّبي (ص) : إذهب.
ولقي رسول اللّه صاحب النخلة فقال: تعطيني نخلتك المائلة التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنّة؟ فقال له
الرجل: إنّ لي نخلاً كثيراً، وما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها.
قال: ثمّ ذهب الرجل، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول اللّه: يا رسول اللّه: أتعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنّة إن أنا أخذتها؟ قال: نعم.
فذهب الرجل ولقي صاحب النخلة فساومها منه فقال له: أشعرت أنّ محمّداً أعطاني بها نخلة في الجنّة فقلت له يعجبني تمرتها وإنّ لي نخلاً كثيراً فما فيه نخلة أعجب إليّ ثمرة منها؟
فقال له الآخر: أتريد بيعها؟
فقال: لا إلاّ أن أعطى ما لا أظنه أعطى.
قال: فما مُناك؟
قال: أربعون نخلة
فقال الرجل: جئت بعظيم، تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة؟!
ثمّ سكت عنه، فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة.
فقال له: إشهد إن كنت صادقاً، فمرّ إلى أُناس فدعاهم فأشهد له بأربعين نخلة، ثمّ ذهب إلى النّبي فقال: يا رسول اللّه إنّ النخلة صارت في ملكي، فهي لك.
فذهب رسول اللّه إلى صاحب الدار، فقال له: النخلة لك ولعيالك، فأنزل اللّه تعالى: (والليل إذا يغشى) السّورة وعن عطاء قال: اسم الرجل (أبو الدحداح) " (1)
التّفسير:
التقوى والإمداد الإلهي:
هذه السّورة المباركة أيضاً تبتديء بثلاثة أقسام تثير التفكير في المخلوقات وفي الخالق.
تقول: (والليل إذا يغشى)
فالقسم الأوّل بالليل حين يغطّي... يغطّي بظلامه نصف الكرة الأرضية... أو يغطّي قرص الشمس، وهذا القسم تأكيد على أهمية الليل ودوره الفاعل في حياة الأفراد، من تعديله لحرارة الشمس، ونشره السكينة على كل الموجودات الحية، وتوفير الجوّ لعبادة المتهجّدين ومناجاة الصالحين.
ويستمر السياق القرآني في القسم بالقول: (والنّهار إذا تجلّى) (2).
والنهار يبدأ من اللحظة التي يطلع فيها الفجر، فيشقّ قلب ظلام الليل، ثمّ يمتدّ ليملاء كلّ السماء، ويغمر كلّ شيء بالنور... بهذا النور الذي هو رمز الحركة والحياة، والعامل على نمو كلّ الموجودات الحية.
في القرآن الكريم تركيز على مسألة نظام "النور" و"الظلمة" ودورهما في حياة البشر، لأنّهما من نعم اللّه الكبرى ومن آياته العظمى سبحانه.
ثمّ القسم الأخير في السّورة بالخالق المتعال: (وما خلق الذكر والاُنثى).
فوجود الجنسين في عالم "الإنسان" و"الحيوان" و"النبات"... والمراحل التي تمرّ بها النطفة منذ انعقادها حتى الولادة... والخصائص التي يمتاز بها كلّ جنس متناسبة مع دوره ونشاطه... والأسرار العميقة المخبوءة في مفهوم الجنسية... كلّها من دلالات وآيات عالم الخليقة الكبير... وبها يمكن الوقوف على عظمة الخالق.
والتعبير بـ "ما" عن الخالق سبحانه كناية عن عظمة الذات الإلهية، وما يحيط بهذه الذات من غموض تجعله سبحانه فوق كلّ وهم وخيال وظن وقياس.
قال بعضهم أن "ما" في الآية مصدرية، ومعناها أقسم بخلق الذكر والاُنثى وهذا الإحتمال ضعيف في معنى الآية.
الحقيقة أنّ القَسَمين الأوّل والثّاني يشيران إلى الآيات "الآفاقية"، والقَسم الثّالث إلى الآيات "الأنفسية". (3)
ثمّ يأتي الهدف النهائي من كلّ هذه الأقسام بقوله سبحانه: (إن سعيكم لشتى) اتجاهات سعيكم مختلفة، ونتائجها مختلفة أيضاً، هذا يعني أن أفراد البشر لا يستقرون في حياتهم على حال... بل هم في سعي مستمر... وفي استثمار دائم للطاقة التي أودعها اللّه في نفوسهم... فانظر أيّها الإنسان في أي مسير تبذل هذه الطاقة التي هي رأس مال وجودك... في أيّ اتجاه... وفي سبيل أيّة غاية؟!
حذار من تبديد كلّ هذه الطاقات في سبيل نتيجة تافهة... وحذار من بيعها بثمن بخس!
"شتى" جمع "شتيت" من مادة "شتَّ" أيّ فرّق الجمع، وهنا بمعنى التفرق والتشعب في المساعي من حيث الكيفية والهدف والنتيجة.
ثمّ يأتي تقسيم النّاس على قسمين، ويبيّن خصائص كلّ قِسم، يقول سبحانه: (فأمّا من أعطى واتقى، وصدّق بالحسنى، فسنيسره لليسرى).
المقصود من الإعطاء في قوله: "أعطى" هو الإنفاق في سبيل اللّه ومساعدة المحتاجين.
والتأكيد على " التقوى" عقب الإعطاء قد يشير إلى ضرورة تنزيه النية وإخلاص القصد عند الإنفاق، وإلى الحصول على المال من طريق مشروع، وإنفاقه في طريق مشروع أيضاً، وإلى خلوه من المنّ والأذى... فكلّ هذه الصفات تجتمع في عنوان التقوى.
قال بعض إن "أعطى" إشارة إلى العبادات المالية و"اتقى" إشارة إلى سائر العبادات العملية من أداء الواجبات وترك المحرمات، غير أن التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية،ومع سبب نزولها.
و"الحسنى" مؤنث "أحسن" إشارة إلى مثوبة اللّه وجزاءه الأوفى، والتصديق بالحسنى هو الإيمان بها، وفي سبب النزول ذكرنا أن "أبا الدحداح" أنفق أمواله لإيمانه بما سيعوضه اللّه في الآخرة.
والحسنى وردت بهذا المعنى أيضاً في قوله سبحانه: (وكلاًّ وعد اللّه الحسنى) (4).
قيل إن المقصود هو "الشريعة الحسنى"، والتصديق بالحسنى هو الإيمان بالإسلام، الذي هو أكمل الأديان.
وقيل إنّها كلمة "لا إله إلاّ اللّه"، وقيل: إنّها الشهادتان.
غير أنّ سياق الآيات وسبب النزول وذكر "الحسنى" بمعنى "الجزاء الحسن" في كثير من الآيات كلّه يرجح التّفسير الأوّل.
عبارة (فسنيسره لليسرى) قد تكون إشارة إلى التوفيق الإلهي وإلى تيسير الطاعة لمثل هؤلاء الأفراد، أو فتح طريق الجنّة أمامهم وما يقابلونه من استقبال الملائكة وتحيتهم، أو كلّ ذلك.
من المؤكّد أنّ الذين سلكوا طريق الإنفاق والتقوى، واطمئنوا إلى جزاء اللّه وثوابه في الآخرة، تتذلل أمامهم المشاكل وينعمون في الدنيا والآخرة بالسكينة والإطمئنان.
أضف إلى ما سبق، قد يكون الإنفاق المالي شاقاً وثقيلاً على طبع الإنسان في البداية، ولكن بتوطين النفس على ذلك والإستمرار فيه، يتحول إلى أمر ميسور... بل أمر فيه لذّة وارتياح.
ما أكثر الأفراد الأسخياء الذين ينشرحون لحضور الضيف على مائدتهم، ولا يرتاحون إذا خلت مائدتهم يوماً من ضيف... وهذا نوع من تيسير الاُمور لهؤلاء.
ولا يفوتنا أن نذكر أيضاً أنّ الإيمان بالمعاد وبثواب الآخرة يهون المشاكل والصعاب، ويجعل بذل المال بل النفس ميسوراً، ويخلق الدافع نحو طلب الشهادة في ميادين الجهاد عن رغبة مقرونة باحساس باللذة والنشوة.
"اليسرى" من اليُسر، وهي في الأصل بمعنى إسراج الفرس والجامها وإعدادها للركوب.
ثمّ اُطلقت الكلمة على كلّ عمل سهل ممهّد (5).
وفي الجهة المقابلة تقف المجموعة الاُخرى التي تتحدث عنها الآيات التالية:
(وأمّا من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى).
"من بخل" في هذه المجموعة مقابل "من أعطى" في تلك.
كلمة "استغنى" أيّ طلب الغنى، قد تكون إشارة إلى ذريعتهم لبخلهم، ووسيلتهم لإكتناز المال، أو قد تكون إشارة إلى ظنهم بأنّهم مستغنون عن ثواب الآخرة، عكس الطائفة الاُولى المنشدة إلى مثوبة اللّه، أو قد تكون بمعنى الإحساس بالاستغناء عن طاعة اللّه وبالتالي التخبط المستمر في الآثام.
من بين هذه التفاسير الثلاثة يبدو التّفسير الأوّل أنسب، وإن أمكن أيضاً الجمع بين الثلاثة.
المقصود من التكذيب بالحسنى، هو إنكار ثواب الآخرة، أو إنكار الدين الإلهي. (فسنيسّره للعُسرى)... والتيسير للعسر بالنسبة لهذه المجموعة، يقابله التيسير لليسر للمجموعة الاُولى التي يشملها الله بتوفيقه، وييسر لها طريق الطاعة والإنفاق، وبذلك تتذلل أمامها مشاكل الحياة... أمّا هذه المجموعة فتُحرم التوفيق، ويتعسّر عليها شقّ الطريق وتواجه الضنك والنصب في الدنيا والآخرة، وهؤلاء البخلاء الخاوون من الإيمان يشقّ عليهم فعل الخير وخاصّة الإنفاق، بينما هو للمجموعة الاُولى مقرون باللذة والإنشراح. (6)
ثمّ يأتي التحذير لهؤلاء البخلاء المغفلين بالآية: (وما يغني عنه ماله إذا تردى).
لا يستطيع أن يصطحب ماله من هذه الدنيا، ولا يستطيع هذا المال - إذا اصطحبه - أن يقيه من السقوط في نار جهنّم.
"ما" في الآية قد تكون نافية، وقد تكون للإستفهام الإنكاري، أيّ ماذا يجديه المال إذا سقط في حفرة القبر أو في هاوية جهنّم؟!
"تردى" من (الردى) بمعنى الهلاك، وبمعنى السقوط من مكان مرتفع يؤدي إلى الهلاك، وقيل إن أصل الكلمة بمعنى السقوط: ولما كان السقوط من مكان مرتفع يؤدي إلى الهلاك، فقد اُطلقت الكلمة واُريد بها الهلاك، والتردى في الآية قد يعني السقوط في القبر، أو في جهنّم، أو بمعنى الهلاك الذي هو جزاء هؤلاء.
وبهذا... تحدثت الآيات الكريمات عن مجموعتين: الاُولى: مؤمنة، تقية، سخية; والثّانية: خاوية الإيمان، عديمة التقوى، بخيلة ونموذج المجموعتين موجود في سبب نزول الآيات بوضوح.
المجموعة الاُولى، طوت طريقها بيسر بتوفيق اللّه، واتجهت نحو الجنّة ونعيمها، بينما المجموعة الثّانية، واجهت في مسيرتها الحياتية المشاكل المتفاقمة جمعت الأموال الطائلة، وتركتها وولت تجرّ أذيال الحسرة والهّم والويال، ولم تنل سوى العقاب الإلهي.
1- مجمع البيان، ج10، ص501.
2- يلاحظ في السّورة المباركة أن الفعل "يغشى" بصيغة المضارع، أمّا "تجلّى" فبصيغة الماضي، قيل إنّ ذلك يعود إلى عصر نزول السّورة، حيث كانت الجاهلية في بداية الدعوة مخيّمة بظلامها على الأرض، وفي هذه الحالة سيكون القسم بظلام الجاهلية، وليس ذلك بجيّد، ومن الأفضل القول إن هذا الفعل الماضي يفيد معنى المضارع لوقوعه بعد "إذا" الشرطية; أو إنّ أصل الفعل "تتجلى" حذفت إحدى التائين، عندئذ سيكون الفعل مؤنثاً، ولا يكون فاعله "نهار"، بل سيكون التقدير: "إذا تتجلى الشمس فيه".
3- هذا التقسيم للآيات مستلهم من قوله سبحانه: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم).
4- النساء، 95.
5- تفسير الكشّاف، ج4 ، ص762.
6- "اليسرى" مؤنث أيسر، و"العسرى" مؤنث أعسر، إنّما جاءا بصيغة المؤنث إمّا لأنّهما صفتان للأعمال والتقدير: فسنيسره لأعمال يسرى... أو - لأعمال عسرى، أو صفتان لحوادث الحياة، وإن كان الموصوف مفرداً فقد يكون "طريقة" أو "خلة".