الآيات 11 - 15
﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَـهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَـهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيهِم رَبُّهُم بِذَنْبِهِم فَسَوَّاهَا (14) وَلاَ يَخَافُ عُقْبَـهَا (15)﴾
التّفسير:
عاقبة مرّة للطغاة:
عقب التحذير الذي اطلقته الآية السابقة بشأن عاقبة من ألقى بنفسه في أوحال العصيان، قدمت هذه الآيات مصداقاً تاريخياً واضحاً لهذه السنّة الإلهية، وتحدثت عن مصير قوم "ثمود" بعبارات قصيرة قاطعة ذات مدلول عميق.
"الطغوى" و"الطغيان" بمعنى واحد وهو تجاوز الحد، وفي الآية تجاوز الحدود الإلهية والعصيان أمام أوامره (1).
"قوم ثمود" من أقدم الاقوام التي سكنت منطقة جبلية بين "الحجاز" و"الشام".
كانت لهم حياة رغدة مرفهة، وأرض خصبة، وقصور فخمة، غير أنّهم لم يؤدوا شكر هذه النعم، بل طغوا وكذبوا نبيّهم صالحاً، واستهزأوا بآيات اللّه، فكان عاقبة أمرهم أن أبيدوا بصاعقة سماوية.
ثمّ تستعرض السّورة مقطعاً بارزاً من طغيان القوم وتقول: (إذا انبعث اشقاها).
و"أشقى" ثمود، هو الذي عقر الناقة التي ظهرت باعتبارها معجزة بين القوم، وكان قتلها بمثابة إعلان حرب على النّبي صالح.
ذكر المفسّرون أنّ اسم هذا الشقي "قدار بن سالف"
وروي أنّ رسول اللّه (ص) قال لعلي بن أبي طالب (ع) : من أشقى الأولين؟
قال: عاقر الناقة.
قال: صدقت، فمن أشقى الآخرين؟
قال: قلت لا أعلم يا رسول اللّه.
قال: الذي يضربك على هذه، وأشار إلى يافوخه (2)
في الآية التالية تفاصيل أكثر عن طغيان قوم ثمود:
(فقال لهم رسول اللّه ناقة اللّه وسقياها)
المقصود من "رسول اللّه" نبيّ قوم ثمود صالح (ع)، وعبارة "ناقة اللّه" إشارة إلى أنّ هذه الناقة لم تكن عادية، بل كانت معجزة، تثبت صدق نبوة صالح، ومن خصائصها - كما في الرّواية المشهورة أنّها خرجت من قلب صخرة في جبل لتكون حجة على المنكرين.
"الناقة" منصوبة بفعل محذوف، والتقدير "ذروا ناقة اللّه وسقياها"، ويستفاد من مواضع اُخرى في القرآن الكريم أنّ النّبي صالحاً (ع) كان قد أخبرهم أنّ ماء القرية يجب تقسيمه بينهم وبين الناقة، يوم لهم ويوم للناقة: (ونبئهم أنّ الماء قسمة بينهم كلّ شرب محتضر) (3).
وحذّرهم من أن الإساءة إلى الناقة: (فلا تمسّوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) (4).
الآية التالية تقول: (فكذبوه فعقروها)، و"العقر" - على وزن كفر - معناه الأساس والأصل والجذر، و"عقر الناقة" قطع أساسها وإهلاكها.
وقيل: "العقر" بتر أسافل أطراف الناقة، ممّا يؤدي إلى سقوطها وهلاكها.
ويلاحظ أنّ قاتل الناقة شخص واحد أشارت إليه الآية بأشقاها، بينما نسب العقر إلى كلّ طغاة قوم ثمود: "فعقروها"، وهذا يعني أنّ كلّ هؤلاء القوم كانوا مشاركين في الجريمة، وذلك أوّلاً: لأنّ مثل هذه المؤامرات يخطط لها مجموعة ثمّ ينفذها فرد واحد أو أفراد.
وثانياً: لأنّ هذه الجريمة تمّت برضا القوم فهم شركاء في الجريمة بهذا الرضا، وعن أمير المؤمنين علي (ع) قال: "إنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم اللّه بالعذاب لما عموه بالرضى، فقال سبحانه: (فعقروها فاصبحوا نادمين) " (5)
وعقب هذا التكذيب أنزل اللّه عليهم العقاب فلم يترك لهم أثراً: (فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم فسواها).
"دمدم" تعني أهلك، وتأتي أحياناً بمعنى عذّب وعاقب وأحياناً بمعنى سحق واستأصل، وبمعنى سخط أو أحاط (6).
و"سوّاها" من التسوية وهي تسوية الأبنية بالأرض نتيجة صيحة عظيمة وصاعقة وزلزلة، أو بمعنى إنهاء حالة هؤلاء القوم، أو تسويتهم جميعاً في العقاب والعذاب، حتى لم يسلم أحد منهم.
ومن الممكن أيضاً الجمع بين هذه المعاني.
الضمير في "سوّاها" يعود إلى قبيلة ثمود، وقد يعود إلى مدنهم وقراهم التي سوّاها ربّ العالمين مع الارض.
وقيل إنّ الضمير يعود إلى مصدر "دمدم" أي إنّ اللّه سوّى غضبه وسخطه على القوم ليشملهم جميعاً على حدٍّ سواء، والتّفسير الأوّل أنسب.
ومن الآية نستنتج بوضوح أنّ عقاب هؤلاء القوم كان نتيجة لذنوبهم وكان متناسباً مع تلك الذنوب، وهذا عين الحكمة والعدالة.
في تاريخ الاُمم نرى غالباً بروز حالة الندم فيهم حين يرون آثار العذاب ولجوءهم إلى التوبة، أمّا قوم ثمود، فالغريب أنّهم حين رأوا علامات العذاب طفقوا يبحثون عن نبيّهم صالح ليقتلوه (7).
وهذا دليل على ارتكاسهم في العصيان والطغيان أمام اللّه ورسوله.
لكن اللّه نجّا صالحاً وأهلك قومه شرّ إهلاك.
وتختتم السّورة الحديث عن هؤلاء القوم بتحذير قارع لكل الذين يتجهون في نفس هذه المسيرة المنحرفة فتقول: (ولا يخاف عقباها).
كثيرون من الحكّام قادرون على انزال العقاب لكنّهم يخشون من تبعات عملهم، ويخافون ردود الفعل التي قد تحدث نتيجة فعلهم، ولذلك يكفّون عن المعاقبة.
قدرتهم - إذن - محفوفة بالضعف وعلمهم ممزوج بالجهل.
لا يعلمون مدى قدرتهم على مواجهة التبعات.
بينما اللّه سبحانه قادر متعال، علمه محيط بكّل الاُمور وعواقبها، وقدرته على مواجهة النتائج لا يشوبها ضعف، فهو سبحانه وتعالى لا يخاف عقباها، ولذلك فإنّ مشيئته في العقاب نافذة حازمة.
فالطغاة - إذن - عليهم أن يتنبّهوا ويحذروا غضب اللّه وسخطه ونقمته.
والضمير في "عقباها" يعود إلى "الدمدمة" والهلاك.
1- ذكر بعض علماء اللغة أن "الطغوى" مشتقّة من مادة ناقص واوي (طغَوَ) و"الطغيان" من مادة ناقص يائي (طَغَيَ).
2- مجمع البيان، ج10، ص499، ووردت الرّواية باختصار في تفسير القرطبي، ج6، ص7168.
3- القمر، الآية 28.
4- الشعراء، الآية 156.
5- نهج البلاغة، الخطبة 201.
6- مفردات الراغب، ولسان العرب، ومجمع البيان.
7- روح البيان، ج20، ص446.