الآيات 6 - 14

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد (6) إِرَمِ ذَاتِ الْعمَادِ (7) الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَـدِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفرِعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِى الْبِلَـدِ (11) فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾

التّفسير:

إمهال الظالمين... والإنتقام!

بعد أن تضمّنت الآيات الاُولى خمسة أقسام حول معاقبة الطغاة، تأتي هذه الآيات لتعرض لنا نماذج من طواغيت الأرض من الذين توفرت لهم بعض سبل القوّة والقدرة، فأهوتهم أهوائهم في قاع الغرور والكفر والطغيان، وتبيّن لنا الآيات المباركة ما حلّ بهم من عاقبة أليمة، محذرة المشركين في كلّ عصر ومصر على أن يرعووا ويعودوا إلى رشدهم بعد أن يعيدوا حسابهم ويستيقظوا من غفلتهم، لأنّهم مهما تمتعوا بقوّة وقدرة فلن يصلوا لما وصل إليه الأقوام السالفة، وينبغي الإتعاظ بعاقبتهم، وإلاّ فالهلاك والعذاب الأبدي ولا غير سواه.

وتبتدأ الآيات بـ : (ألم تر كيف فعل ربّك بعاد).

المراد "بالرؤية" هنا، العلم والمعرفة لما وصلت إليه تلك الأقوام من الشهرة بحال بحيث أصبح من جاء بعدهم يعرف عنهم الشيء الكثير وكأنّه يراهم باُمّ عينيه ولذا جاء في الآية: (ألم تر).

ومع أنّ المخاطب في الآية هو النّبي الأكرم (ص)، إلاّ أنّ الخطاب موجّه إلى الجميع.

"عاد": هم قوم نبي اللّه هود (ع)، ويذكر المؤرخون أنّ اسم "عاد" يطلق على قبيلتين... قبيلة كانت في الزمن الغابر البعيد، ويسميها القرآن الكريم بـ "عاد الاُولى"، كما في الآية (50) من سورة النجم، (ويحتمل أنّها كانت قبل التاريخ).

ويحددون تاريخ القبيلة الثّانية بحدود (700) سنة قبل الميلاد، وكانت تعيش في أرض الأحقاف أو اليمن.

وكان أهل عاد أقوياء البنية، طوال القامة، لذا كانوا يعتبرون من المقاتلين الأشداد، هذا بالإضافة إلى ما كانوا يتمتعون به من تقدّم مدني، وكانت مدنهم عامرة وقصورهم عالية وأراضيهم يعمها الخضار.

وقيل: إنّ "عاد" هو اسم جدّ تلك القبيلة، وكانت تسمى القبيلة بـ (عادة).

ويضيف القرآن قائلاً: (ارم ذات العماد).

اختلف المفسّرون في علام يطلق اسم "إرم".

هل هو شخص أم قبيلة أم مدينة؟

ينقل الزمخشري في الكشاف عن بعضهم، قوله: إنّ عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وسمّيت القبيلة باسم الجدّ وهو (إرم).

ويعتقد آخرون: إنّ (إرم) هم "عاد الاُولى"، و"عاد" هي القبيلة الثّانية، يقال أيضاً: إنّ "إرم" هو اسم مدينتهم. (1)

وما يناسب الآية التالية، أن يكون (إرم) هو اسم مدينتهم.

"عماد": بمعنى العمود وجمعه "عُمُد" وهي على ضوء التّفسير الأوّل، تشير إلى ضخامة أجسادمهم كأعمدة البناء، وعلى ضوء التّفسير الثّاني تشير إلى عظمة أبنيتهم وعلو قصورهم وما فيها من أعمدة كبيرة.

وعلى القولين فهي: إشارة إلى قدرة وقوّة قوم عاد. (2)

ولكنّ التّفسير الثّاني (أعمدة قصورهم العظيمة) أنسب.

ولذا تقول الآية التالية: (التي لم يخلق مثلها في البلاد).

والآية تبيّن أنّ المراد بـ "إرم" المدينة وليس شخص أو قبيلة، ولعل هذه الآية هي التي دعت بعض كبار المفسّرين من اختيار هذا التّفسير، ونراه كذلك راجحاً (3).

وقد ذكر بعض المفسّرين قصّة اكتشاف مدينة "إرم" العظيمة في صحاري شبه الجزيرة العربية وصحاري عدن، وتحدثوا بتفصيل عن رونقها وبنائها العجيب، ولكنّ القصّة أقرب للخيال منها للواقع.

وعلى أيّة حال، فقوم "عاد" كانوا من أقوى القبائل في حينها، ومدنهم من أرقى المدن من الناحية المدنية، وكما أشار إليها القرآن الكريم: (التي لم يخلق مثلها في البلاد).

وثمّة قصص كثيرة عن "جنّة شداد بن عاد" في كتب التاريخ، حتى أنّها أصبحت مضرباً للأمثال لما شاع عنها بين النّاس وعلى مرّ العصور، إلاّ أنّ ما ورد بين متون كتب التاريخ لا يخرج عن إطار الأساطير التي لا واقع لها.

وتذكر الآية التالية جمع آخر من الطغاة السابقين: (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد)، وصنعوا منها البيوت والقصور.

"ثمود": من أقدم الأقوام، ونبيّهم صالح (ع)، وكانوا يعيشون في (وادي القرى) بين المدينة والشام، وكانوا يعيشون حياة مرفهة، ومدنهم عامرة.

و قيل: "ثمود" اسم جدّ القبيلة، وقد سميت به (4).

"جابوا": من (الجوبة) - على زنة توبة - وهي الأرض المقطوعة، ثمّ استعملت في قطع كلّ أرض، وجواب كلام، هو ما يقطع الهواء فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع، (أو لأنّه يقطع السؤال وينهيه).

وعلى أيّة حال، فمراد الآية: قطع أجزاء الجبال وبناء البيوت القوية، كما أشارت إلى ذلك الآية (82) من سورة الحجر - حول ثمود أنفسهم - : (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين)، والآية (149) من سورة الشعراء، والتي جاء فيها: (...بيوتاً فارهين).

وقيل: قوم ثمود أوّل من قطع الأحجار من الجبال، وصنع البيوت المحكمة في قلبها.

"واد": في الأصل (وادي)، وهو الموضع الذي يجري فيه النهر، ومنه سمي المفرج بين الجبلين وادياً، لأنّ الماء يسيل فيه.

والمعنى الثّاني أكثر مناسبة بقرينة ما ورد في القرآن من آيات تتحدث عن هؤلاء القوم، وما ذكرناه آنفاً يظهر بأنّهم كانوا ينحتون بيوتهم في سفوح الجبال (5).

وروي: إنّ النّبي الأكرم (ص) عندما وصل إلى وادي ثمود - شمال الجزيرة العربية - في طريقه إلى تبوك، قال وهو راكب على فرسه: "أسرعوا، فهي أرض ملعونة" (6).

ممّا لا شكّ فيه أنّ ثمود قوم قد وصلوا إلى أعلى درجات التمدن في زمانهم، ولكنّ ما يذكر عنهم في بعض كتب التّفسير، يبدو وكأنّه مبالغ فيه أو اسطورة، كأن يقولوا: إنّهم بنوا ألفاً وسبعمائة مدينة من الحجر!

وتتعرض الآية التالية لقوم ثالث: (وفرعون ذي الأوتاد).

أي: ألم تر ما فعل ربّك بفرعون الظالم المقتدر؟!

"أوتاد":جمع (وتد)، وهو ما يثبّت به.

ولِمَ وصف فرعون بذي الأوتاد؟

وثمّة تفاسير مختلفة:

الأوّل: لأنّه كان يملك جنوداً وكتائباً كثيرة، وكانوا يعيشون في الخيم المثبتة بالأوتاد.

الثّاني: لما كان يستعمل من أساليب تعذيب من يغضب عليهم، حيث غالباً ما كان يدق على أيديهم وأرجلهم بأوتاد ليثبتها على الأرض، أو يضعهم على خشبة ويثبتهم بالأوتاد، أو يدخل الأوتاد في أيديهم وأرجلهم ويتركهم هكذا حتى يموتوا.

وورد هذا الكلام في رواية نقلت عن الإمام الصادق (ع) (7).

وتنقل كتب التاريخ إنّه قد عذّب زوجته "آسية" بتلك الطريقة البشعة حتى الموت، لأنّها آمنت بما جاء به موسى (ع) وصدّقت به.

الثّالث: "ذي الأوتاد": كناية عن قدرة واستقرار الحكم.

ولا تنافي فيما بين التفاسير الثلاثة، ويمكن إدخالها جميعها في معنى الآية.

وينتقل القرآن العرض ما كانوا يقومون به من أعمال: (الذين طغوا في البلاد)... (فأكثروا فيها الفساد).

الفساد الذي يشمل كلّ أنواع الظلم والإعتداء والإنحراف، والذي هو نتيجة طبيعية من نتائج طغيانهم، فكلّ مَن يطغى سيؤول أمره إلى الفساد لا محال.

ويذكر عقابهم الأليم وبعبارة موجزة: (فصبّ عليهم ربّك سوط عذاب) "السوط": هو الجلد المضفور الذي يُضرب به، وأصل السوط: خلط الشيء بعضه ببعض، وهو هنا كناية عن العذاب، العذاب الذي يخلط لحم الإنسان بدمه فيؤذيه أشدّ الإيذاء.

وجاء في كلام أمير المؤمنين (ع) عن الإمتحان: "والذي بعثه بالحقّ للتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر". (8)

"صبّ عليهم": تستعمل في الأصل لانسكاب الماء، وهنا إشارة إلى شدّة واستمرار نزول العذاب، ويمكن أن يكون إشارة لتطهير الأرض من هؤلاء الطغاة أمّا أنسب معاني "السوط" فهو المعروف بين النّاس به.

فعلى إيجاز الآية، لكنّها تشير إلى أنواع العذاب الذي أصابهم، فعاد اُصيبوا بريح باردة، كما تقول الآية (رقم 6) من سورة الحاقة: (وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية)، وأُهلك قوم ثمود بصيحة سماوية عظيمة، كما جاء في الآية (رقم 5) من سورة الحاقة أيضاً: (فأمّا ثمود فأُهلكوا بالطاغية)، والآية (55) من سورة الزخرف تنقل صورة هلاك قوم فرعون: (فأغرقناهم أجمعين).

وتحذر الآية التالية كلّ مَن سار على خطو اُولئك الطواغيت: (إنّ ربّك لبالمرصاد).

"المرصاد": من (الرصد)، وهو الإستعداد للترقب، وهو في الآية يشير إلى عدم وجود أيّ ملجأ أو مهرب من رقابة اللّه وقبضته، فمتى شاء سبحانه أخذ المذنبين بالعقاب والعذاب.

وبديهي، أنّ التعبير لا يعني أنّ اللّه تعالى له مكان وكمين يرصد فيه الطواغيت، بل كناية عن إحاطة القدرة الإلهية بكلّ الجبارين والطغاة والمجرمين، وسبحانه وتعالى عن التجسيم وما شابه.

وقد ورد في معنى الآية عن الإمام علي (ع) قوله: "إنّ ربك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم" (9).

وعن الإمام الصادق (ع)، أنّه قال:"المرصاد قنطرة على الصراط، لا يجوزها عبد بمظلمة عبد" (10).

وهذا مصداق جلّي للآية، حيث أنّ المرصاد الإلهي لا ينحصر بيوم القيامة والصراط، بل هو تعالى بالمرصاد لكلّ ظالم حتى في هذه الدنيا، وما عذاب تلك الأقوام الآنفة الذكر إلاّ دليل واضح على هذا.

"ربّك": إشارة إلى أنّ هذه السنّة الإلهية لم تقف عند حدّ الذين خلوا من الأقوام السالفة، بل هي سارية حتى على الظالمين من اُمّتك يا محمّد (ص)... وفي ذلك تسلية لقلب النّبي (ص) وتطميناً لقلوب المؤمنين، فالوعد الإلهي قد أكّد على عدم انفلات الأعداء المعاندين من قبضة القدرة الإلهية أبداً أبداً، وفيه تحذير أيضاً لاُولئك الذين يؤذون النّبي (ص) ويظلمون المؤمنين، تحذير بالكف عن ممارساتهم تلك وإلاّ سيصيبهم ما أصاب الأكثر منهم قدرة وقوّة، وعندها فسوف لن تقوم لهم قائمة إذا ما أتتهم ريح عاصفة أو صيحة مرعبة أو سيل جارف يقطع دابرهم.

روي عن النّبي الأكرم (ص)، أنّه قال: "أخبرني الروح الأمين أنّ اللّه لا إله غيره إذا وقف الخلائق وجميع الأولين والآخرين، أتى بجهنّم ثمّ يوضع عليها صراط أدق من الشعر وأحدُّ من السيف، عليه ثلاث قناطر... الاُولى: الأمانة والرحم، والثّانية: عليها الصلاة، والثّالثة: عليها عدل ربّ العالمين لا إله غيره، فيكلّفون الممر عليها، فتحبسهم الرحم والأمانة، فإن نجوا منها حبستهم الصلاة، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين جلّ ذكره، وهو قول اللّه تبارك وتعالى: (إنّ ربّك لبالمرصاد) (11).

وعن الإمام علي (ع) : "ولئن أمهل اللّه الظالم فلن يفوت أخذه، وهو له بالمرصاد، على مجاز طريقه، وبموضع الشجى من مساغ ريقه". (12)


1- تفسير الكشّاف، ج4، ص747، وذكر ذلك أيضاً القرطبي في تفسيره، وغيره.

2- وعلى ضوء التّفسير الأوّل يكون التعبير بـ "ذات" لأنّ الطائفة والقبيلة مؤنث لفظي.

3- "إرم" ممنوع من الصرف، لذا فقد نصب في حالة الجر.

4- "ثمود": من (الثمد)، وهو الماء القليل الذي لا مادة له، والمثمود: إذا كثر عليه السؤال حتى فقد مادة ما له، ويقال أنّها كلمة أعجمية (مفردات الراغب).

5- الباء في "الواد": تعطي معنى الظرفية.

6- روح البيان، ج10، ص425 (ما مضمونه).

7- تفسير نور الثقلين، ج5، ص571، الحديث (6)، كما نقله عن علل الشرائع.

8- نهج البلاغة، الخطبة 16.

9- مجمع البيان، ج10، ص487.

10- المصدر السابق.

11- نور الثقلين، ج5، ص573، عن روضة الكافي الحديث 486، إقتباس.

12- نهج البلاغة، الخطبة 97.