الآيات 1 - 7
﴿هَلْ أَتَـكَ حَدِيثُ الْغَـشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذ خَـشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصلَى نَارَاً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْن ءَانِيَة (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيع (6) لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوع (7)﴾
التّفسير:
المتعبون... الأخسرون!
تبتدأ السّورة بذكر اسم جديد ليوم القيامة: (هل أتاك حديث الغاشية).
"الغاشية": من (الغشاوة)، وهي التغطية، وسمّيت القيامة بذلك لأنّ حوادثها الرهيبة ستغطي فجاءة كلّ شيء.
وقيل: بما أنّ الأوّلين والآخرين سيجمعون في ذلك اليوم، فالقيامة تغشاهم جميعاً.
وقيل أيضاً: يراد بها نار جهنم، لأنّها ستغطي وجوه الكافرين والمجرمين ويبدو لنا التّفسير الأوّل أنسب من غيره.
وظاهر الآية: إنّها خطاب للنبيّ (ص)، وما حوته من صيغة الإستفهام فلبيان عظمة وأهمية يوم القيامة.
ويبدو بعيداً ما احتمله البعض من كون خطاب الآية موجّه إلى كلّ إنسان.
وتصف الآيات التالية، حال المجرمين في يوم القيامة، فتقول أولاً: (وجوه يؤمئذ خاشعة).
لا شك أنّ الوضع النفسي والروحي، تنعكس آثاره على وجه صاحبه، لذا فسترى تلك الوجوه وقد علتها علائم الخسران والخشوع لما أصابها من ذلّ وخوف ووحشة وهم بانتظار ما سيحل بهم من عذاب مهين أليم.
وقيل: "الوجوه" هنا، بمعنى وجهاء القوم ورؤساء الكفر والطغيان، لما سيكون لهم من ذل وهوان وعذاب أشد من غيرهم.
ولكنّ المعنى الأوّل أنسب وتصف حال تلك الوجوه ثانياً: (عاملة ناصبة).
فكلّ ما سعوا وكدوّا فيه في الحياة الدنيا سوف لا يجنون منه إلاّ التعب والنصب، وذلك: لأنّ أعمالهم غير مقبولة عند اللّه، وما جمعوه من أموال وثروات قد ذهبت لغيرهم، ولا يملكون من ذكر صالح يعقبهم في الدنيا ولا ولد صالح يدعو ويستغفر اللّه لهم، فما اصدق هذا القول بحقّهم: (عاملة ناصبة).
وقيل: المراد، إنّهم يعملون في الدنيا، ولهم التعب والألم في الآخرة.
وقيل أيضاً: إنّ المجرمين سيقومون بأعمال شاقّة داخل جهنم، زيادة في عذابهم.
ويبدو التّفسير الأوّل أصح من غيره.
وخاتمة مطاف تلك الوجوه التعبة الذليلة أنّ: (تصلى ناراً حامية).
"تصلى": من (صلى) - على زنة نفى - وهو دخول النّار والبقاء فيها، والإحتراق بها (1).
ولن يقف عذابهم عند هذا الحد، بل أنّهم وبسبب حرارة النيران يصيبهم العطش الشديد وحينئذ: (تسقى من عين آنية).
"آنية": مؤنث آني من (الأني) - على زنة حلي - وهو التأخير، ويستعمل لما يقرب وقته، وجاء في الآية بمعنى: الماء الحارق الذي بلغ أقصى درجة حرارته وجاء في الآية (29) من سورة الكهف: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) وتحكي لنا الآية التالية عن طعام المجرمين: (ليس لهم طعام إلاّ من ضريع) وقد تعددت الآراء في معنى "الضريع".
فقال بعض: نبت ذو شوك لاصق بالأرض، تسمّيه قريش (الشبرق) إذا كان رطباً، فإذا يبس فهو (الضريع)، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه، وهو سم قاتل. (2)
وقال الخليل (أحد علماء اللغة) : الضريع نبات أخضر منتن الريح، يرمي به البحر.
وعن ابن عباس: هو شجر من نار، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها.
وجاء في الحديث النبوي الشريف: "الضريع شيء يكون في النّار يشبه الشوك، أشدّ مرارة من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النّار، سمّاه اللّه ضريعاً".
وقال بعض آخر: هو طعام يضرعون عنده ويذلون، ويتضرعون منه إلى اللّه تعالى طلباً للخلاص منه. (3)
(ويُذكر أن (الضرع) بمعنى الضعف والذلة والخضوع). (4)
ولا تعارض بين هذه التفاسير، ويمكن قبولها كلها في تفسير الآية المذكورة.
وتصف لنا الآية التالية ذلك الطعام: (لا يُسمن ولا يُغني من جوع).
فهو ليس لسد جوع أو تقوية بدن، وإنّما هو طعام يغص به، ايغالاً في العذاب، كما ورد هذا المعنى في الآية (13) من وسورة المزمل: (وطعاماً ذا غصّة وعذاباً أليماً).
فالذين شرهوا في تناول ألذ المأكولات في دنياهم، على حساب ظلم النّاس والتجاوز على حقوقهم، ومنعوا لقمة العيش عن كثير من المحرومين، فليس في طعام آخرتهم سوى العذاب الأليم.
ونعود لنكرر القول: إنّ ما نصفه ونتصوره عن نعيم الجنّة وعذاب جهنم، لا يتعدى عن كونه مجرد إشارات وأشباح نراها من بعيد ونحن نعيش في سجن الدنيا المحدود، وإلاّ فحقيقة ما سينعم به أهل الجنّة وما يعانيه أهل النّار فمما لا يمكن لأحد وصفه!.
1- صلي بالنّار، لزمها واحترق بها.
2- تفسير القرطبي، ج10، ص7119.
3- تفسير القرطبي، ج10، ص7120.
4- بحثنا موضوع طعام أهل النّار، الذي يسميه القرآن تارة بـ "الضريع" واُخرى بـ "الزقوم" وثالثة بـ "غسلين"، وما بينها من تفاوت.. في ذيل الآية (36) من سورة الحاقة.