الآيات 1 - 10
﴿وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنَّ كُلُّ نَفْس لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنظُرِ الإِنسَـنُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّآء دَآفِق (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّة وَلاَ نَاصِر (10)﴾
التّفسير:
ممَّ خُلق الإنسان؟!
تبتدأ السّورة - كمثيلاتها من سور الجزء الأخير من القرآن الكريم - بعدّة أقسام بليغة تبعث على التأمل، وهي مقدمة لبيان أمر مهم. (والسماء والطارق)... (وما أدراك ما الطارق)... (النجم الثاقب).
"الطارق": من (الطرق) - على زنة برق - وهو الضرب، ولهذا قيل (الطريق) لما تطرقه أرض المشاة، و (المطرقة) هي الآلة التي يطرق بها الحديد وغيره.
ويقال للقادم ليلاً (الطارق)، لإنّ البيوت عادةً ما تغلق أبوابها ليلاً، فكلُّ قادم يلزمه والحال هذه طرق الباب.
وعندما جاء المنافق (الأشعث بن قيس) لزيارة أمير المؤمنين (ع) ليلاً، جلب معه الحلوى، ظناً منه أنّ هذه الحلوى ستجعل من أمير المؤمنين (ع) ظهيراً له في قضية معينة.
فذكر الأمير (ع) هذه الواقعة متعجباً وذاماً: "وأعجب من ذلك طرقنا بملفوفة في وعائها". (1)
ويفسّر القرآن الكريم "الطارق" بقوله: (النجم الثاقب)، النجم اللامع الذي مع علوّه الشاهق وكأنّه يريد أن يثقب سقف السماء، وكأنّ نوره المتشعشع يريد أن يثقب ستار الليل الحالك، فيجلب الأنظار بميزته هذه.
ولكن، أيُّ نجم هو الطارق؟ هل هو الثريا (لبعدها الغائر في عمق السماء)، زحل، الزهرة، أم الشهب (لما لها من نور جذّاب)، أم كل النجوم؟
ثمّة احتمالات متباينة في هذا الموضوع، ولكن وجود صفة "الثاقب" لهذا النجم تعطي الإشارة إلى أنّ النجوم المتلألئة التي تثقب أنوارها ظلمة الليل، وتجذب الأنظار إليها، هي المرادة وليس كلّ نجم.
وفسّرت بعض الرّوايات "النجم الثاقب" بكوكب (زحل) من المنظومة الشمسية لشدّة نوره ولمعانه.
وروي أنّ منجماً سأل الإمام الصادق (ع)، بقوله: فما يعني بالثاقب؟ قال: "لأنّ مطلعه في السماء السابعة، وأنّه ثقب بضوءه حتى أضاء السماء الدنيا، فمن ثمّ سمّاه اللّه النجم الثاقب". (2)
ويعتبر (زحل) من أبعد النجوم أو الكواكب في مجموعتنا الشمسية التي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، ويقع في المدار السابع للشمس، ولذا عبّر عنه الإمام (ع) بأنّه في السماء السابعة.
وما لهذا الكوكب من خصائص تؤهله لأن يُقسم به، فهو أبعد ما يمكن رؤيته من منظومتنا الشمسية، لذا فالعرب يشبهون كلّ عال به، ويطلقون عليه أحياناً (شيخ النجوم) (3)، وله حلقات رائعة تحيط به، وله أيضاً ثمانية أقمار، وتعتبر من حلقاته من أعجب ظواهر السماء.
ومع كلّ ما توصل إليه علماء الفلك بخصوصه، فثمّة أسرار لم يكشف عنها الستار بعد.
وقيل: إنّ لزحل عشرة أقمار، يمكن رؤية ثمانية منها بالناظور العادي (تلسكوب)، ولا يمكن رؤية الآخرين إلاّ بالنواظير الكبيرة (4).
وممّا لا شك فيه، إنّ هذه الحقائق ما كانت مكتشفة في عصر نزول الآية المباركة، وتوصل إليها بعد قرون من نزولها.
وعلى أية حال، فيمكن تفسير: (النجم الثاقب) بكوكب زحل، على اعتبار كونه أحد مصاديقه الواضحة، ولا ينافي تفسيره بأية نجوم اُخرى عالية ووضاءة، فالتّفسير المصداقي كثير الإستعمال في رواياتنا.
وفي الآية (10) من سورة الصافات: (إلاّ من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب)، فوصف "الشهاب" بأنّه "ثاقب" يحمل الإشارة لاحتمال أنّ تكون الظاهرة السماوية المذكورة هي ظاهرة "الشهب"، لتكون أحد تفاسير الآية المبحوثة، ويؤيد ذلك أيضاً بعض ما ذكر في شأن نزول الآية. (5)
ولنرى لأي شيء كان هذا القسم: (إن كلّ نفس لمّا عليها حافظ) (6).
يحفظ عليه أعماله، وتسجل كل أفعاله، ليوم الحساب.
كما جاء في الآيات (10 - 12) من سورة الإنفطار: (وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون).
فلا تظنوا بأنّكم بعيدون عن الأنظار، بل أينما تكونوا فثمّة عليكم ملائكة مأمورين يسجلون كلّ ما يبدر منكم... وهذا ما له الأثر البالغ في عملية إصلاح وتربية الإنسان.
مع أنّ الآية لم تحدد هوية "الحافظ"، ولكن الآيات الاُخرى تبيّن بأن "الحفظة" هم الملائكة وأنّ "المحفوظ" هو أعمال الإنسان من الطاعات والمعاصي.
وقيل: يراد بها حفظ الإنسان من الحوادث والمهالك، ولولا ذلك لما خرج الإنسان من الدنيا بالموت الطبيعي، والأطفال بالخصوص.
أو المراد هو: حفظ الإنسان من وساوس الشيطان، ولولا هذا الحفظ لما سلم أحد من وساوس شياطين الجنّ والأنس.
وبلحاظ ما تتطرق إليه الآيات التالية (حول المعاد والحساب الإلهي)، يكون التّفسير الأول أقرب من غيره وأنسب، ولو أنّ الجمع بين هذه التفاسير الثلاثة غير بعيد عن مراد الآية.
والعلاقة ما بين المقسوم به وما أُقسم له وثيقة، حيث أنّ السماء العالية والنجوم التي تتحرك في مسارات منظمة، دليل على وجود النظم والحساب الدقيق في عالم الوجود، فكيف يمكن أنّ نتصور بأنّ أعمال الإنسان دون باقي الأشياء لا تخضع لهذه السُّنة، لتبقى سائبة بلا ضبط وتسجيل وليس عليها من حافظ؟!!...
ثمّ يستدل القرآن الكريم على المعاد في مقابل من يقول باستحالة المعاد: (فلينظر الإنسان ممّ خلق).
وبهذا... أخذ القرآن الكريم بأيدي الجميع وأرجعهم إلى أول خلقهم، مستفهماً عمّا خلق منه الإنسان.
وبدون أن ينتظر الجواب من أحد يجيب القرآن على استفهامه: (خلق من ماء دافق)، وهو ماء الرجل الذي تسبح فيه الحيامن، ويخرج بدفق.
ويستمر في تقريب المراد: (يخرج من بين الصلب والترائب).
"الصلب": الظهر: و"الترائب": جمع (تريبة)، وهي - على ما هو مشهور بين علماء اللغة - عظام الصدر العليا وضلوعه.
وكما يقول ابن منظور في لسان العرب: قال أهل اللغة أجمعون: الترائب موضع القلادة من الصدر.
وذكرت معان اُخرى للترائب، منها: إنّها القسم الأمامي للإنسان (في قبال الصلب، الذي هو ظهر الإنسان)، إنّها اليدان والرجلان والعينان، إنّها عظام الصدر، أو ما يلي الترقوتين منه، وقيل: أربعة أضلاع من يمين الصدر وأربعة من يساره.
وأدناه، نذكر بعض الآراء الكثيرة للمفسّرين بخصوص المراد من "الصلب والترائب" الواردة في الآية المباركة.
1 - "الصلب" إشارة إلى الرجال، و"الترائب" إشارة إلى النساء، لأنّ في الرجال مظهر الصلابة، وفي النساء مظهر الرقة واللطافة.
وعليه، فالآية بصدد ذكر حيمن الرجل وبويضة المرأة، ومنهما تتشكل نطفة خلق الإنسان.
2 - "الصلب" إشارة إلى ظهر الرجل، و"الترائب" إشارة إلى صدره، فيكون مراد الآية نطفة الرجل التي تقع ما بين ظهره وصدره.
3 - إرادة، خروج الجنين من رحم اُمّه، لأنّه يكون بين ظهرها والجزء الأمامي لبدنها.
4 - قيل: إنّ في الآيتين سرّاً من أسرار التنزيل، ووجهاً من وجوه الأعجاز، إذ فيهما معرفة حقائق علميّة لم تكن معروفة حينذاك وقد كشف عنها العلم أخيراً.
وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا في منشأ خصيّة الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات، التي حيرت الألباب، فقد ثبت أن خصيّة الرجل ومبيض المرأة في بداية ظهورهما في الجنين يقعان في مجاورة كلية الجنين، أي بين وسط الفقرات (الصلب) والاضلاع السفلى للصدر (الترائب) ثمّ مع نمو الجنين ينتقلان تدريجياً إلى الأسفل، وبما أن تكون الإنسان يمثل تركيباً من نطفة الرجل والمرأة والمحل الأصلي لجهاز توليد النطفة فيهما هو بين الصلب والترائب، أختار القرآن لذلك هذا التعبير.
وهذا ما لم يكن معروفاً حينذاك.
وبعبارة اُخرى: إنّ كلّ من الخصيّة والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلي ويقع بين الصلب والترائب، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريباً ومقابل أسفل الضلوع. (7)
ويشكل على هذا التّفسير بـ : إنّ القرآن إنّما يقول: (ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب)، فهو يمرّ من بينهما حال الخروج، في حين لا يقول التّفسير المذكور ذلك، ويشير إلى محل توليده بينهما أثناء النمو الجنيني، بالإضافة إلى أنّ تفسير "الترائب" بأسفل الضلوع لا يخلو من نقاش.
5 - مراد الآية، هو المني، لأنّه في الحقيقة مأخوذ من جميع أجزاء البدن، ولذا عندما يقذف إلى الخارج فإنّه يقترن مع انفعال وهيجان البدن كلّه وبعده فتور البدن بأجمعه، فيكون مقصود "الصلب" و"الترائب" في هذه الحال تمام قسمي بدن الإنسان، الإمامي والخلفي.
6 - وقيل أيضاً: إنّ المصدر الأساس لتكوين المني هو النخاع الشوكي الواقع في ظهر الإنسان، ثمّ القلب والكبد، فالأوّل يقع تحت أضلاع الصدر، والآخر بين المكانين المذكورين، وعلى هذا الأساس قالت الآية: (من بين الصلب والترائب).
ويكفينا الرجوع إلى الآيات المبحوثة لدفع الغموض الحاصل، فالآيات تشير إلى ماء الرجل دون المرأة، بقرينة "ماء دافق"، وهذا لا يصدق إلاّ على الرجل، وعليه يعود الضمير في "يخرج".
وعليه، فينبغي إخراج المرأة من هذه الدائرة، ليكون البحث منصباً على الرجل فقط، وهو المشار إليه في الآية.
و"الصلب والترائب" هما ظهر الرجل وقسمه الأمامي، لأنّ ماء الرجل إنّما يخرج من هاتين المنطقتين (8).
وهذا التّفسير واضح، خال من أيّ تكلف، ينسجم مع ما ورد في كتب اللغة بخصوص المصطلحين.
كما ويمكن أن تكون الآية قد أشارت إلى حقيقة علمية مهمّة لم يتوصل إلى اكتشافها بعد، وربّما المستقبل سيكشف ما لم يكن بالحسبان.
ونصل مع القرآن إلى نتيجة ما تقدم من الذكر الحكيم: (إنّه على رجعه لقادر).
فالإنسان تراباً قبل أن يكون نطفة، ثمّ مرّ بمراحل عديدة مدهشة حتى أصبح إنساناً كاملاً، وليس من الصعوبة بحال على الخالق أن يعيد حياة الإنسان بعد أن نخرت عظامه وصار تراباً، فالذي خلقه من التراب أوّل مرّة قادر على إعادته مرّة اُخرى.
وقد ورد هذا المعنى في الآية (رقم 5) من سورة الحج: (يا أيّها النّاس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة)، بالإضافة إلى الآية (67) من سورة مريم: (أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً).
وتصف لنا الآية التالية ذلك اليوم الذي سيرجع فيه الإنسان: (يوم تبلى السرائر). (9)
"تبلى": من (البلوى)، بمعنى الإختبار والإمتحان، وهو هنا الظهور والبروز، لأنّ الإمتحان يكشف عن حقيقة الأشياء ويظهرها.
"السرائر": جمع (سريرة)، وهي صفات ونوايا الإنسان الداخلية.
نعم، فأسرار الإنسان الدفينة ستظهر في ذلك اليوم، "يوم البروز" و"يوم الظهور"، فسيظهر على الطبيعة كلّ من: الإيمان، الكفر، النفاق، نيّة الخير، نيّة الشر، الإخلاص، الرياء....
وسيكون ذلك الظهور مدعاة فخر ومزيد نعمة للمؤمنين، ومدعاة ذلّة ومهانة وحسرة للمجرمين...وما أشد ما سيلاقي من قضى وطراً من عمره بين النّاس بظاهر حسن ونوايا خبيثة! وما أتعسه حينما تهتك أقنعته المزيفة فيظهر على حقيقته أمام كلّ الخلائق! وربّما ذلك من أشدّ عذاب جهنم عليه...وتصف لنا الآية (41) من سورة الرحمن هيئتهم بالقول: (يعرف المجرمون بسيماهم)، وكذا الآيات (38 - 41) من سورة عبس: (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة).
نعم، فكما إنّ "الطارق" والنجوم الاُخرى تظهر من خفائها ليلاً على صفحة السماء، فكذا حال الإنسان في عرصة يوم القيامة، فالحفظة والمراقبين الإلهيين المكلفين لتسجيل أعمال الإنسان سيظهرون كلّ شيء، كظهور ضوء النجم في الليل الداج.
عن معاذ بن جبل أنّه قال، سألت رسول اللّه (ص) : وما هذه السرائر التي تبلى بها العباد في الآخرة؟
فقال: "سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة وكلّ مفروض، لأنّ الأعمال كلّها سرائر خفيّة، فإن شاء الرجل قال صليت ولم يصل، وإنّ شاء قال توضيت ولم يتوضأ، فذلك قوله تعالى يوم تبلى السرائر" (10).
ولكن أشدّ صعاب ذلك اليوم على الإنسان: (فما له من قوة ولا ناصر).
فلا يملك تلك القوّة التي تخفي أعماله ونياته، وليس له ذلك الظهير الذي يعينه عن الخلاص من عذاب اللّه سبحانه وتعالى.
وقد ورد هذا المعنى في آيات قرآنية اُخرى، ففي ذلك اليوم: لا ناصر ولا معين، ولا يقبل فداء، ولا رجعة، وليس من وسيلة للفرار من قبضة العدل حينها، إلاّ وسيلة واحدة للنجاة وهي "الإيمان والعمل الصالح" فقط.
1- نهج البلاغة، الخطبة 224.
2- نور الثقلين، ج5، ص550، ح4.
3- دائرة المعارف دهخدا مادة زحل.
4- دائرة المعارف دهخدا مادة زحل.
5- روح البيان، ج10، ص397.
6- "إنْ" في الآية: نافية، و"لمّا": بمعنى (إلاّ).
7- تفسير المراغي، ج30، ص113.
8- عندما تتحدث الآيات القرآنية الاُخرى عن خلق الإنسان، فإنّها غالباً ما تشير إلى نطفة الرجل، باعتبارها أمراً محسوساً (راجع الآية 46 من سورة النجم، والآية 37 من سورة القيامة).
9- "يوم" ظرف زمان متعلق بالرجع في الآية السابقة.
10- مجمع البيان، ج10، ص472. ومثله في تفسير الدر المنثور، ج6، ص336.