الآيات 17 - 22

﴿هَلْ أَتـكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى تَكْذِيب (19) وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ (21) فِى لِوْح مَّحْفُوظ (22)﴾

التّفسير:

ألم تَرَ ما حلّ بجيش فرعون وثمود؟!

فيما تعرضت الآيات السابقة لقدرة اللّه المطلقة وحاكميته، ولتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين... تتعرض الآيات أعلاه لما يؤكّد هذا التهديد...فتخاطب النّبي (ص) قائلة: (هل أتاك حديث الجنود).

تلك الكتائب الجرارة التي وقفت بوجه أنبياء اللّه (ع) بتصورها الساذج بأنّها ستقف أمام قدرة اللّه عزّوجلّ.

وتشير إلى نموذجين واضحين، أحدهما من غابر الزمان، والآخر في زمن قريب من صدر دعوة الاسلام: (فرعون وثمود).

فأحدهما ملك الشرق والغرب، والآخر وصلت مدنيته لأن يحفر الجبال لبناء البيوت والقصور الفخمة، ولهما من الجبروت ما لم يستطع أحد من الوقوف بوجههم، ولكنّ العزيز الجبار أهلكهم بالماء والهواء، مع ما لهاتين المادتين من لطافة وليونة، وما يمثلانه باعتبارهما من الوسائل المهمّة المستلزمة لاساسيات حياة الإنسان، فقد أغرقت أمواج وتيارات نهر النيل ذلك الطاغي (فرعون) وجنوده، فيما سلّط اللّه الهواء القارص بأعاصير مدمرة اجتاحت قوم ثمود حتى قطعت دابرهم، فأهلكوا جميعهم.

القرآن الكريم يذكّر مشركي مكّة بذلك النموذجين ليعرفوا أنفسهم أمام اللّه تعالى، فإنّ كان اللّه قد أهلك تلك الجيوش العظيمة وبما تملك من عناصر القوّة بماء وهواء، فهل سيبقى لزمام أُمورهم من شيء، وهم أضعف من اُولئك! علماً بأنّ البشر أمام اللّه بكلّ ما يحملون من قوّة فهم سواء، فلا فرق بين ضعيف وقوي... فأين الخالق من المخلوق!

وإنّما اختير قوم "فرعون" و"ثمود" دون بقية الأقوام السالفة كنموذجين للعصاة والضالين، باعتبارهما كانا يمتلكان قدرة وقوّة مميزة على بقية الأقوام، وأهل مكّة على معرفة بتاريخهما إجمالاً.

وتقول الآية التالية: (بل الذين كفروا في تكذيب).

فآيات ودلائل الحق ليست بخافية على أحد، ولكن العناد واللجاجة هما اللذان يحجبان عن رؤية طريق الحق والإيمان.

وكأن"بل" تشير إلى أنّ عناد وتكذيب أهل مكّة أشدّ وأكثر من قوم فرعون وثمود وهم مشغولون دائماً بتكذيب الحق وانكاره ويستخدمون كلّ وسيلة في هذا الطريق، (بلحاظ أن "بل" تستعمل عادة للاضراب: أي للعدول من شيء إلى شيء آخر).

وعليهم أن يعلموا بقدرة اللّه: (واللّه من ورائهم محيط).

فلا يدل الإمهال على الضعف أو العجز، ولا يعني عدم تعجيل إنزال العقوبة الإلهية بأنّهم قد خرجوا عن قدرته جلّ شأنه.

وما مجيء (من ورائهم) إلاّ للتعبير عن كونهم في قبضة القدرة الإلهية من جميع الجهات، وهو محيط بهم، وليس لهم من مخلص عن العذاب بحكم العدل الإلهي.

وثمّة من يذهب بإرادة الإحاطة العلميّة في الآية، أي... إنّ اللّه تعالى محيط بأعمالهم من كلّ جهة، فلا يغيب عنه سبحانه أي قول أو عمل أو نيّة.

وتقول الآية التالية: (بل هو قرآن مجيد) ذو مكانة سامية ومقام عظيم. (في لوح محفوظ)، لا تصل إليه يد العبث، والشيطنة، ولا يصيبه أيَّ تغيير أو تبديل، أو زيادة أو نقصان.

فلا تبتأس يا محمّد بما ينسبونه إليك افتراءً، كأن يتهموك بالشعر، السحر، الكهانة والجنون... فاُصولك ثابتة، وطريقك نيّر، والقادر المتعال معك.

"مجيد": - كما قلنا - من (المجد)، وهو السعة في الكرم والجلال، وهو ما يصدق على القرآن تماماً، فمحتواه واسع العظمة، ومعانيه سامية على كافة الأصعدة العلميّة، العقائدية، الأخلاقية الوعظ والإرشاد، وكذا في الأحكام والسنن.

"لوح" - بفتح اللام - : هو الصفحة العريضة التي يكتب عليها، و (اللوح) - بضم اللام - : العطش، والهواء بين السماء والارض.

الفعل الذي يشتق من الأوّل يأتي بمعنى الظهور والإنكشاف.

ويراد باللوح هنا: الصفحة التي كتب فيها القرآن، لكنّها ليست كالألواح المتعارفة عندنا، بل (وعلى قول ابن عباس) : إنّ اللوح المحفوظ طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب!

ويبدو أنّ اللوح المحفوظ، هو "علم اللّه" الذي يملاء الشرق والغرب، ومصان من أيّ اختلاق أو تحريف.

نعم، فالقرآن من علم المطلق، وما فيه يشهد على أنّه ليس نتيجة إشراقة عقلية في عقل بشر، ولا هو بنتاج الشياطين.

ويحتمل أن يكون هو المقصود به "اُم الكتاب" و"كتاب مبين" الواردان في الآية (39) من سورة الرعد: (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب)، والآية (59) من سورة الأنعام: (ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين).

علماً بأنّ تعبير (لوح محفوظ) لم يرد في القرآن إلاّ في هذا الموضع فقط.

اللّهم! زدنا معرفة بكتابك العظيم...

اللّهم! ضمّنا بين جناح رحمتك يوم يفوز المؤمنون، وقنا غضبك يوم يهلك الكافرون والمجرمون في عذاب الحريق...

اللّهم! أنت الغفور الودود الرحيم، فعاملنا بمقتضى صفاتك، ولا تعاملنا بمقتضى أعمالنا...

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة البروج