الآيات 10 - 16
﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤمِنِـتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ لَهُمْ جَنَّـتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَـرُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرشِ الَْمجِيدُ (15) فَعَّالٌ لَمَّا يُرِيدُ (16)﴾
التّفسير:
العذاب الالهي للمجرمين:
بعد ذكر عظم جريمة أصحاب الاُخدود التي ارتكبت ضد المؤمنين بحرقهم وهم أحياء، يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى ما ينتظر اُولئك الجناة من عذاب إلهي شديد، ويشير أيضاً إلى ما اُعدّ للمؤمنين من ثواب ونعيم جراء صبرهم وثباتهم على إيمانهم باللّه.
فتقول الآية الاُولى: (إنّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم
عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق).
"فتنوا": من مادة (فتن)، - على زنة متن - وهو إدخال الذهب النّار لتظهر جودته من رداءته، وقد استعملت (الفتنة) بمعنى (الاختبار)، وبمعنى (العذاب والبلاء)، وبمعنى (الضلال والشرك) أيضاً.
وهي في الآية بمعنى (العذاب)، على غرار ما جاء في الآيتين (13 و14) من سورة الذاريات: (يوم هم على النّار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون). (ثمّ لم يتوبوا) : تدلّ على أنّ باب التوبة مفتوح حتى لاُولئك الجناة المجرمين، وتدلّ أيضاً على مدى لطف الباري جلّوعلا على الإنسان حتى وإن كان مذنباً، وفي الجملة تنبيه لأهل مكّة ليسارعوا في ترك تعذيب المؤمنين ويتوبوا إلى اللّه توبة نصوح.
فباب التوبة لا يغلق بوجه أحد، وذكر العقاب الإلهي الشديد الأليم إنّما جاء لتخويف الفاسدين والمنحرفين عسى أن يرعووا ويعودوا إلى الحق مولاهم.
وقد ورد في الآية لونين من العذاب الإلهي، (عذاب جهنم) و (عذاب الحريق)، للإشارة إلى أن لعذاب جهنم ألوان عديدة، منها (عذاب النّار)، وتعيين "عذاب الحريق"، للإشارة أيضاً إلى أن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات وأحرقوهم بالنّار، سوف يجازون بذات أساليبهم، ولكن، أين هذه النّار من تلك؟!
فنار جهنم قد سجّرت بغضب اللّه، وهي نار خالدة ويصاحب داخليها الذلّ والهوان، أمّا نار الدنيا، فقد أوقدها الإنسان الضعيف، ودخلها المؤمنون بعزّة وإباء وشرف ملتحقين بصفوف شهداء رسالة السماء الحقة.
وقيل: إنّ (عذاب جهنم) جزاء كفرهم، و (عذاب الحريق) جزاء ما اقترفوا بحق المؤمنين الأخيار من جريمة بشعة.
وتعرض لنا الآية التالية ما سيناله المؤمنون من ثواب: (إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير).
وأيّ فوز أرقى وأسمى من الوصول إلى جوار اللّه، والتمتع في نعيمه الذي لا يوصف! نعم، فمفتاح ذلك الفوز العظيم هو (الإيمان والعمل الصالح)، وما عداه فروع لهذا الأصل. (عملوا الصالحات) : إشارة إلى أنّ العمل الصالح لا يختص بشيء محدد، بل ينبغي أن يكون محور حياة الإنسان هو: "العمل الصالح".
"ذلك": إشارة للبعيد، واستعملت هنا لتبيان عظمة وأهمية المشار إليه، أيّ: إنّ فوزهم الكبير من عظمة الشأن، بقدر لا يخطر على بال أحد.
ويعود القرآن مرّة اُخرى لتهديد الكفار الذين يفتنون المؤمنين، فيقول: (إنّ بطش ربّك لشديد).
ولا تظنوا بأن القيامة أمر خيالي، أو إنّ المعاد من الاُمور التي يشك في صحة تحققها، بل: (إنّه هو يُبديء ويعيد).
"البطش": تناول الشيء بصولة وقهر، وباعتباره مقدّمة للعقاب، فقد استعمل بمعنى العقاب والمجازاة.
"ربّك": تسلية للنبيّ (ص)، وتأكيد دعم اللّه اللامحدود له.
والجدير بالملاحظة، إنّ الآية تضمّنت جملة تأكيدات، لتبيان صرامة التهديد الإلهي بجدّية وقطع.
فـ "البطش" يحمل معنى الشدّة المؤكّدة، والجملة الإسمية عادةً ما تأتي للتأكيد، ووصف البطش بأنّه "شديد"، وكذا وجود "إن"، ووجود لام التأكيد في "لشديد"، هذا بالإضافة إلى التأكيد المتضمّن في قوله تعالى: (إنّه يبديء ويعيد) كدليل إجمالي على المعاد (1).
ثمّ يعرض لنا القرآن الكريم خمسة أوصاف اللباري جلّ شأنه: (وهو الغفور الودود) الذي يغفر للتائبين ويحب المؤمنين. (ذو العرش المجيد) صاحب الحكومة المقتدرة على عالم الوجود وذو المجد والعظيمة. (فعال لما يريد).
"الغفور" و"الودود": كلاهما صيغة مبالغة، ويشيران إلى منتهى الغفران والود الإلهي، "الغفور" لعبادة المذنبين، و"الودود" المحب لعباده الصالحين.
فذكر هذه الأوصاف بعد ما تضمّنته الآيات السابقة من تهديد ووعيد، يبيّن أنّ طريق العودة إلى اللّه سالك وأنّ باب التوبة مفتوح لكلّ مَن ولغ في الذنوب، فالباري جلّت عظمته في الوقت الذي هو شديد العقاب فهو الغفور الرحيم أيضاً.
وعلى هذا الضوء فـ "الودود" جاء بصيغة اسم الفاعل، وليس كما قيل من أنّه اسم مفعول، ليكون المعنى: بأنّ اللّه له محبّون كثيرون، فهذا المعنى لا ينسجم مع الصفة السابقة "الغفور" ولا يتناسب مع سياق الكلام.
وصفة: "ذو العرش": كناية عن قدرته وحاكميته ومالكيته سبحانه وتعالى، ويتبيّن بهذا الوصف أنّ حكم عالم الوجود بيده جلّ وعلا، فما شاء كان، وقوله تعالى: (فعال لما يريد) من لوازم هذه الحاكمية المطلقة.
فـ "ذو العرش" تشير إلى قدرته تعالى على: المعاد، إحياء الموتى ومعاقبة الجبابرة والمجرمين والذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات.
"المجيد": من (المجد)، وهو السعة في الكرم والجلال، وهي من الصفات المختصة باللّه سبحانه، وقلّما تستعمل لغيره. (2)
وبنظرة بسيطة إلى هذه الصفات المذكورة سيتراءى أمامنا ذلك الإنسجاموالترابط فيما بينها فالغفور والودود لمن له القدرة وسعة الكرم كي يفعل ما يريد، لا يمنعه شيء ولا يصد إرادته أمر، لأنّ إرادته في مطلق القوّة والدوام ولا يصيبها تردد أو فسخ، سبحانه وتعالى.
1- وهذا يشبه دليل الآية (79) من سورة "يس": (قل يحييها الذي أنشأها أول مرّة وهو بكل خلق عليم)، يقال: إنّ الفارابي تمنى لو كان أرسطو "الفيلسوف اليوناني المعروف" حيّاً ليرى جمال هذا الدليل المحكم في القرآن الكريم.
2- جاءت كلمة "المجيد" في الآية مرفوعة (طبق القراءة المشهورة)، تكون صفة للّه تعالى وليس صفة للعرش، وإلاّ لكانت مجرورة.