الآيات 6 - 12

﴿يَـأَيُّهَا الإِنْسَـنُ مَا غَرَّكَ بِرَّبِكَ الكَرِيمِ (6) الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِى أَىِّ صُورَة مَّآ شَآءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وإِنَّ عَلَيكُمْ لَحَـفِظِينَ (10) كِرَامَاً كَـتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)﴾

التفسير:

لا داعي للغرور:

تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان، ببيان إيقاظي عسى أنْ ينتبه الإنسان من غفلة ما في عنقه من حقّ وما على عاتقه من مسؤوليات جسام أمام خالقه سبحانه وتعالى، فتخاطب الآية الاُولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط بالحنان والرأفة الرّبانية: (يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم).

فالقرآن يذكّر الإنسان بإنسانيته، وما لها من إكرام وأفضلية، ثمّ جعله أمام "ربّ" "كريم"، فالرّب وبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبّر لأمر تربية وتكامل الإنسان، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته، ورعاه بما أنعم عليه مادياً ومعنوياً ودون أنْ يطلب منه أيّ مقابل، بل ويعفو عن كثير من ذنوب الإنسان لفضل كرمه...فهل من الحكمة أنْ يتمرد هذا الموجود المكرّم على هكذا ربّ رحيم كريم؟!

وهل يحقُّ لعاقل أنْ يغفل عن ذكر ربّه ولو للحظة واحدة، ولا يطيع أمر مولاه الذي يتضمن سعادته وفوزه؟!

ولهذا فقد ورد عن النّبي (ص) عند تلاوته للآية المباركة أنّه قال: "غرّه جهله" (1).

ومن هنا، يتقرّب لنا هدف الآية، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره وتجاوز حالة الغفلة، وذلك بالإستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي، وليس كما يحلو للبعض من أنْ يصور هدف الآية، على أنّه تلقين الإنسان عذره، فيقول: غرّني كرمك! أو كما قيل للفضيل بن عياض: "لو أقامك اللّه ويوم القيامة بين يديه، فقال: (ما غرّك بربّك الكريم)، ماذا كنت تقول له؟ قال: أقول: غرّني ستورك المرخاة" (2).

فهذا ما يخالف تماماً، لأنّها في صدد كسر حالة غرور الإنسان وإيقاظه من غفلته، وليست في صدد إضافة حجاب آخر على حجب الغفلة!

فلا ينبغي لنا أنْ نذهب بالآية بما يحلو لنا ونوجهها في خلاف ما تهدف إليه!

"غرّك": من (الغرور)، و"الغرّة": غفلة في اليقظة، وبعبارة اُخرى: غفلة في وقت لا ينبغي فيه الغفلة، ولما كانت الغفلة أحياناً مصدراً للإستعلاء والطغيان فقد استعملت (الغرور) بهذه المعاني.

والغرور): كلُّ ما يغرُّ الإنسان من مال، جاه، شهوة وشيطان، وقد فُسّر الغَرور بالشيطان، لأنّه أخبث مَنْ يقوم بهذا الدور الدنيء في الدّنيا.

وذُكر في تفسير "الكريم" آراءً كثيرة، منها: إنّه المنعم الذي تكون جميع أفعاله إحسانٌ، وهو لا ينتظر منها أيَّ نفع أو دفع ضرر.

ومنها: هو الذي يعطي ما يلزمه وما لا يلزمه.

ومنها: هو مَنْ يعطي الكثير بالقليل.

ولو جمعنا كلّ ما ذُكر وبأعلى صورة لدخل في كرم اللّه عزّوجلّ، فيكفي كرم اللّه جلالاً أنّه لا يكتفي عن المذنبين، بل يبدل (لمن يستحق) سيئاتهم حسنات.

وروي عن أمير المؤمنين (ع) عند تلاوته لهذه الآية، أنّه قال: (إنّ الإنسان) "أدحض مسؤول حجّة، وأقطع مغترّ معذرة، لقد أبرح (أي اغتر) جهالة بنفسه.

يا أيّها الإنسان، ما جرّأك عل ذنبك، وما غرّك بربّك، وما أنسك بهلكة نفسك؟ أمَا من دائك بلول (أي شفاء)، أمْ ليس من نومتك يقظة؟ أمَا ترحم نفسك ما ترحم من غيرك؟ فلربّما ترى الضاحي من حرِّ الشمس فتظلّه، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمةً له! فما صبرك على دائك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على نفسك وهي أعزّ الأنفس عليك، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (أي تبيت بنقمة من اللّه) وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداوَ من داء الفترة في قلبك بعزيمة، ومن كرى (أي النوم) الغفلة في ناظرك بيقظة، وكن للّه مطيعاً وبذكره آنساً، وتمثل (أي تصور) في حال توليك عنه إقباله عليك، يدعوك إلى عفوه ويتغمدك بفضله وأنت متول عنه إلى غيره، فتعالى من قوي ما أكرمه! وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته!..." (3).

وتعرض لنا الآية التالية جانباً من كرم اللّه ولطفه على الإنسان: (الذي خلقك فسّواك فعدلك في أيّ صورة ما (4) شاء ركّبك).

فالآية قد طرحت مراحل خلق الإسنان الأربعة... أصل الخلقة، التسوية، التعديل، ومن ثمّ التركيب.

ففي المرحله الاُولى: يبدأ خلق الإنسان ومن نطفة في ظلمات رحم الاُم.

وفي مرحله الثّانية: مرحلة "التسوية والتنظيم" وفيها يقدر الباري سبحانه خلق كلّ عضو من أعضاء الإنسان بميزان متناهي الدّقة.

فلو أمعن الإنسان النظر في تكوين عينه اُذنه أو قلبه، عروقه وسائر أعضاءه، وما اُودع فيها من ألطاف ومواهب وقدرات إلهية، لتجسم أمامه عالماً من العلم والقدرة واللطف والكرم الإلهي.

عطاء ربّاني قد شغل العلماء آلاف السنين بالتفكير والبحث والتأليف، ولا زالوا في أوّل الطريق...وفي المرحلة الثّالثة: يكون التعديل بين "القوى" و"الأعضاء" وتحكيم الإرتباط فيما بينها.

وبدن الإنسان قد بُني على هذين القسمين المتقاربين، فـ: اليدين، الرجلين، العينين، الاُذنين، العظام، العروق، الأعصاب والعضلات قد توزعت جميعها على هذين القسمين متجانس ومترابط.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأعضاء في عملها يكمل بعضها للبعض الآخر، فجهاز التنفس مثلاً يساعد في عمل الدورة الدموية بدورها تقدم يد العون إلى عملية التنفس، ولأجل ابتلاع لقمة غذاء، لا تصل إلى الجهاز الهضمي إلاّ بعد أنْ يؤدّي كلُّ من: الأسنان، اللسان،الغدد وعضلات الفم دوره الموكل به، ومن ثمّ تتعاضد أجزاء الجهاز الهضمي على إتمام عملية الهضم وامتصاص الغذاء، لينتج منه القوّة اللازمة للحركة والفعالية...وكلُّ ما ذكر، وغيره كثير، قد جمع قصيرة رائعة... (فعدلك).

وقيل: "عدلك" إشارة إلى اعتدال قامة الإنسان، وهو ما يمتاز به عن بقية الحيوانات، وهذا المعنى أقرب للمرحلة القادمة ولكن المعنى الأوّل أجمع.

وفي المرحلة الرابعة: تكون عملية "التركيب" وإعطاء الصورة النهائية للإنسن نسبةً إلى بقية الموجودات.

نعم، فقد تكرم الباري بإعطاء النوع الإنساني صورة موزونة عليها مسحة جمالية بديعة قياساً مع بقية الحيوانات، وأعطى الإنسان فطرة سليمة، وركّبه بشكلٍّ يكون فيه مستعداً لتلقي كلَّ علم وتربية.

ومن حكمة الباري أن جعل الصور الإنسانية مختلفة متباينة، كما أشارت إلى ذلك الآية (22) من سورة الروم: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم)، ولولا الإختلاف المذكور لاختل توازن النظام الإجتماعي البشري.

ومع الإختلاف في المظهر فإنّ الباري جلّ شأنه قدّر الإختلاف والتفاوت في القابليات والإستعدادات والأذواق والرغبات، وجاء هذا النظم بمقتضى حكمته، وبه يمكن تشكيل مجتمع متكامل سليم وكلّ حوائجه ستكون مؤمَّنَة.

وتلخص الآية (رقم 4) من سورة التين خلق اللّه للإنسان بصورة إجمالية: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).

والخلاصة: فالآيات المبحوثة، إضافة لآيات أُخرَ كثيرة تهدف وبشكلٍّ دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته، منذ كان نطفة قذرة، مروراً بتصويره وتكامله في رحم اُمّه، حتى أشدّ حالات نموه وتكامله، وتؤكّد على أنّ حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم اللّه، وكلُّ حيّ يفعم برحمة اللّه في كل لحظات حياته، ولابدّ لكلّ حي ذي لبّ وبصيرة من أنْ يترحل من مطية غروره وغفلته، ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته، وإلاّ فالهلاك الحتمي.

وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة: (كلاّ بل تكذبون بالدّين).

فالكرم الإلهي، ولطف الباري منعمه ليست بمحفز لغروركم، ولكنكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة، فوقعتم بتلك الهاوية الموهمة.(5)

ولو دققنا النظر في حال المغرورين والغافلين، لرأينا أنّ الشك بيوم القيامة أو إنكاره هو الذي استحوذ على قلوبهم وما دونه مجرّد مبررات واهية، ومن هنا يأتي لتشديد على أصل المعاد، فلو قوي الإيمان بالمعاد في القلوب لارتفع الغرور وانقشعت الغفلة عن النفوس.

"الدين": يراد به هنا، الجزآء يوم الجزاء، وما احتمله البعض من أنّه (دين الإسلام) فبعيد عن سياق حديث الإيات، لأنّها تتحدث عن "المعاد".

وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولابدّ الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور، فتقول... (وإنّ عليكم لحافظين) (6).

وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند اللّه تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم: (كراماً كاتبين).

(يعلمون ما تفعلون).

و"الحافظين": هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ، كما سمّتهم الآية (17) من سورة (ق) بالرقيب العتيد: (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد)، كما وذكرتهم الآية (16) من نفس السورة: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد).

وثمّة آيات قرآنية اُخرى تشير إلى رقابة الملائكة لما يفعله الإنسان في حياته.

إنّ نظر وشهادة اللّه عزّوجلّ على أعمال الإنسان، ممّا لا شك فيه، فهو الناظر لما يبدر من الإنسان قبل أيَّ أحد، وأدق من كلِّ شيء، ولكنّه سبحانه ولزيادة التأكيد ولتحسيس الإنسان بعظم مسؤولية ما يؤديه، فقد وضع مراقبين يشهدون على الإنسان يوم الحساب، ومنهم هؤلاء الملائكة الكرام.

وقد فصّلنا أقسام المراقبين الذين يحفون بالإنسان من كلِّ جهة، وذلك ذيل الآيتين (20 و21) من سورة فصّلت، ونوردها هنا إجمالاً، وهي على سبعة أقسام.

أوّلاً: ذات اللّه المقدّسة، كما في قوله تعالى: (ولا تعملون من عمل إلاّ كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه) (7).

ثانياً: الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، بدلالة قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) (8).

ثالثاً: أعضاء بدن الإنسان، بدلالة قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) (9).

رابعاً: جلد الإنسان وسمعه وبصره، بدلالة قوله تعالى: (حتّى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) (10).

خامساً: الملائكة، بدلالة قوله تعالى: (وجاءت كلّ نفس معها سائق

وشهيد) (11)، وبدلالة الآية المبحوثة أيضاً.

سادساً: الأرض... المكان الذي يعيش عليه الإنسان، بدلالة قوله تعالى: (يومئذ تُحدِّثُ أخبارها) (12).

سابعاً: الزمان الذي تجري فيه أعمال الإنسان، بدلالة ما روي عن الإمام علي (ع) في وقوله: "ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلاّ قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد" (13).

وفي كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي: إنّ شخصاً سأل الإمام الصادق (ع) عن علّة وضع الملائكة لتسجيل أعمال الإنسان في حين أنّ اللّه عزّوجلّ عالم السرّ وأخفى؟

فقال الإمام (ع): "اسعبدهم بذلك، وجعلهم شهوداً على خلقه، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة اللّه مواظبة، وعن معصيته أشدّ انقباضاً، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ، فيقول ربّي يراني، وحفظتي عليّ بذلك يشهد، وأنّ برأفته ولطفه وكّلهم بعباده، يذبّون عنهم مردة الشياطين، وهوام الأرض، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن اللّه، إلى أن يجيء أمر اللّه عزّوجلّ" (14).

ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف أُخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.

(وقد بحثنا موضوع وظائف ومهام الملائكة بتفصيل في ذيل الآية (رقم 1) من سورة فاطر - فراجع).

وقد وصفت الآيات المبحوثة هؤلاء الملائكة بأنّهم "كرام"، ليكون الإنسان أكثر دقّة في مراقبة نفسه وأعماله، لأنّ الناظر كلّما كان ذا شأن كبير، تحفظ الإنسان منه أكثر وأكثر واستحى من فعل المعاصي أمامه.

وعلّة ذكر "كاتبين" للتأكيد على إنّهم لا يكتفون بالمراقبة والحفظ دون تسجيل ذلك بدقّة متناهية.

وذكر: (يعلمون ما تفعلون) تأكيد آخر على كونهم مطلعين على كلّ الأعمال وبشكل تام، واستناداً إلى اطلاعهم ومعرفتهم يسجلون ما يكتبونه.

فالآيات تشير إلى حرية إرادة الإنسان، وتشير إلى كونه مختاراً، وإلاّ فما قيمة تسجيل الأعمال؟ وهل سيبقى للحذير والإنذار من معنى؟

وتشير أيضاً إلى جدّية ودقّة الحساب والجزاء والإلهي.

ويكفي فهم واستيعاب هذه الإشارات البيانية الرّبانية لإنقاذ الإنسان من وقوعه في هاوية المعاصي، وتكفيه الإشارات عظةً ليزكي ويعرف مسؤوليته ويعمل بدروه.

بحث

كتبة صحائف الأعمال:

لم تكن الآيات المبحوثة الدليل الوحيد على وجود المراقبين لأعمال الإنسان، والكاتبين لها بخيرها وشرّها، بل ثمّة آيات كثيرة وروايات عديدة تناولت ذلك... ومن جملة ما ورد من الأحاديث بهذا الشأن.

1 - سؤال عبد اللّه بن موسى بن جعفر (ع) لأبيه عن الملكين... هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أنْ يفعله، أو الحسنة؟

فقال الإمام (ع): "ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟".

قال: لا.

قال: "إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نَفسه طيّب الريح، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال: قم فإنّه قد همّ بالحسنة، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده، فأثبتها له، وإذا همّ بالسيئة خرج نَفَسه منتن الريح، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين، قف فإنّه قد همّ بالسيئة، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده، وأثبتها عليه" (15).

فالرواية تبيّن ما للنيّة من أثر على كامل وجود الإنسان، وأنّ الملائكة يسجلون ما وقع من فعل من الإنسان ولكنّهم مطلعين على فعل الواقع قبل وقوعه، وعليه فتسجيلهم لأعمال الإنسان دقيق جدّاً، ولا يفوتهم شيئاً إلاّ وكتبوه في صحيفته.

والرواية أيضاً، تأتي في سياق الحديث النبوي الشريف: "إنّما الأعمال بالنيات" للتأكيد على ما لنيّة الإنسان من أثر على فعله الحسن أو السيء.

وتبيّن أيضاً، بأنّ وسائل الكتابة هي جوارح الإنسان الناوي للفعل، فلسانه القلم وريقه المداد!

2 - وثمّة روايات تؤكّد على أنّ الملائكة مأمورة بتسجيل النوايا الحسنة دون النوايا السيئة، ومنها: "إنّ تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته مَن هَمَّ بحسنة ولم ويعملها كتبت له حسنة، ومَنْ هَمَّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشراً، ومَن هَمَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب له، ومَن هَمَّ بها وعملها كتبت عليه سيئة".(16)

فالرواية تبيّن منتهى اللطف الرّباني الفصل الإلهي على الإنسان، وتحث الإنسان على الأعمال الصالحة... فنيّته السيئة لا تسجل عليه، وفعله السيء يكتب عليه وفق موازين العدل، في حين أنّ نيّته الحسنة وفعله الحسن يسجلان له وفق اللطف والتفضل الإلهي...

3 - وروي عن رسول اللّه (ص)، أنّه قال: "يهمُّ العبد بالحسنة فيعملها، فإنْ هو لم يعملها كتب اللّه له حسنة بحسن نيّته، وإنْ هو عملها كتب اللّه له عشراً، ويهمُّ بالسيئة أنْ يعملها، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإنْ عملها اُجّل سبع ساعات، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أنْ يتبعها بحسنة تمحوها، فإن اللّه عزّوجلّ يقول: (إنّ الحسنات يذهبن الشيئات)، أو الإستفغار فإنّ هو قال: استغفر اللّه الذي لا إله إلاّ هو، عالم الغيب والشهادة، العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه، لم يكتب عليه شيء، وإنْ مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة أو استغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات: اُكتب على الشقي المحروم" (17).

4 - وروي عن الإمام الصادق (ع): "إنّ المؤمنين إذا أقبلا على المساءلة قالت الملائكة بعضها لبعض: تنحوا عنهما فإنّ لهما سرّاً وقد ستر اللّه عليهما"! (18)

5 - وفي خطبة لأمير المؤمنين (ع)، قال فيها بعد أنْ دعى الناس فيها لتقوى اللّه: "اعلموا عباد اللّه، إنّ عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم، وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج "أي إحكام)، وإنّ غداً من اليوم قريب" (19).


1- مجمع البيان، ج10، ص449; والدر المنثور، وروح المعاني، وروح البيان، والقرطبي، عند تفسير الآية المبحوثة.

2- المصدر السابق.

3- نهج البلاغة، الخطبة 223.

4- "ما": زائدة، واحتملها البعض (شرطية)، ولكنّ الرأي الأوّل أقرب للصواب.

5- "كلاّ" حرف ردع لإنكار شيء ذكر وتوهم، لكن... أيُّ إنكار قصدته الآية؟ ثمة احتمالات عديدة للمفسّرين في ذلك، وأهمها ما ذكر أعلاه، أي أنّ "كلاّ" جاءت لتنفي كلّ أسباب ومنابع الغرور والغفلة وتجعلها في إنكار القيامة والتكذيب به فقط، وهو ما ورد بعد "بل" وهذا ما اختاره الراغب في مفردات (في مادة: بل)، وقال بعد ذكره للآية: قيل ليس ههنا ما يقتضي أنْ يغرهم به تعالى ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه.

6- قيل: إن "الواو" هنا حاليّة، كما في روح المعاني وروح البيان، ولكنّ احتمال كونها (استئنافية) أقرب للحال.

7- يونس، الآية 61.

8- النساء، الآية 41.

9- النور، الآية 24.

10- فصّلت، الآية 21.

11- سورة ق، الآية 21.

12- الزلزال، الآية 4.

13- سفينة البحار، ج2، ص739 (مادة: يوم).

14- نور الثقلين، ج5، ص522.

15- اُصول الكافي، ج2، ص429، باب "من يهمّ بالحسنة أو السيئة" الحديث 3.

16- المصدر السابق، الحديث 1 - 2.

17- المصدر السابق، الحديث 4.

18- اُصول الكافي، ج2، ص184، الحديث 2; وعنه نور الثقلين، ج5، ص110.

19- نهج البلاغة، الخطبة 157.