الآيات 34 - 41

﴿فَإِذَا جَآءَتِ الطَّامَةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الاِْنْسَـنُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغى (37) وَءَاثَرَ الْحَيـوةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هَىَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى الْنَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى (41)﴾

التفسير:

التنزّه عن الهوى:

وتتجه عدسة آيات القرآن الكريم لتعرض لنا جوانباً من صور عالم القيامة، وتبدأ بتصوير تلك الداهية المذهلة التي تصيب مَن عبد أهواءه في الحياة الدنيا: (فإذا جاءت الطامة الكبرى) (1).

"الطامة": من (الطم) - على زنة فنّ - وهو في الأصل بمعنى ملء الفراغ والحفر، ويطلق بالطامة على كلّ شيء بلغ حدّه الأعلى، ولهذا فقد اُطلقت على الحوادث المرّة والصعاب الكبار، وهي في الآية تشير إلى يوم القيامة لما فيها من دواهي تغطي بهولها كلّ هول، واُتبعت بـ "الكبرى" زيادة في التأكيد على أهمية وخطورة يوم القيامة.

ويضيف: حال حلول الحدث... سيفلت الجميع من نياط غفلتهم، ويتذكروا ما زرعوا لحياتهم: (يوم يتذكر الإنسان ما سعى).

وأنى للتذكر بعد فوات الأوان!

وإذا طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدوا ويتداركوا الأمر، فسيقرعون بـ (كلاّ).

وإذا ما اعتذروا تائبين، فلا محيص عن ردّهم، بعد أن أوصدت أبواب التوبة بأمر الجبّار الحكيم.

وعندها: لا يبقى لهم إلاّ الحسرة والندامة، والهم والغم، وكما تقول الآية (27) من سورة الفرقان: (يوم يعضّ الطالم على يديه).

وثمّة نكتة في الآية ترتبط بصيغة الفعل "يتذكر"، فقد جاء الفعل مضارعاً ليدل على استمرارية التذكر، فالإنسان أمام ذلك المنظر الرهيب، وقد اُزيلت الحجب عن قلبه وروحه، سيرى الحقائق بعينها شاخصة أمامه، ولا ينسى حينها ما اكتسبت يداه من أعمال.

وتشخص الآية التالية ما سيقع: (وبرزت الجحيم لمن يرى).

فالجحيم موجودة، كما تشير إلى ذلك الآية (54) من سورة العنكبوت: (وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين)، ولكن حجب الدنيا تمنعنا من رؤيتها، وأمّا في يوم الفصل، يوم البروز، فسيبرز كلّ شيء ولا يستثنى من ذلك جهنّم.

وجملة "لمن يرى"، تشير إلى رؤية جهنّم من قبل الجميع بلا استثناء (الصالح والطالح)، فهي غير خافية عن الأنظار.

وقيل: إنّها لمن سيكون له نظر في يوم القيامة، لأنّ الآية (124) من سورة طه قد صرّحت بأنّ البعض سيحشر أعمى: (ونحشره يوم القيامة أعمى)، ويعتمد ستكون أكثر المفسّرين على التّفسير الأوّل لمناسبته للمقام، لأنّ رؤية جهنّم من قبل العاصين ستكون أكثر إيلاماً لهم، إضافة إلى أنّ العمى المشار إليه، ربّما يكون في موقف معين من مواقف يوم القيامة، وليس دائماً (2).

وفي الآيات الثلاثة التالية، يشير القرآن إلى حال المجرمين والطغاة يوم القيامة: (فأمّا مَن طغى وآثر الحياة الدنيا فإنّ الجحيم هي المأوى) (3).

والآية الاُولى تشير إلى فساد عقائد الطغاة، لأنّ الطغيان ينشأ من الغرور، والغرور من نتائج عدم معرفة الباري جّل شأنه.

وبمعرفة عظمة وجلال اللّه يتصاغر الإنسان ويتصاغر حتى يكاد لا يرى لنفسه أثراً، وعندها سوف لن تزل قدمه عن جادة العبودية الحقة، ما دام سلوكه يصب في رافد معرفة اللّه.

والآية الثانية تشير إلى فسادهم العملي، لأنّ الطغيان يوقع الإنسان في شراك اللذائذ الوقتية الفانية ذروة الطموح ومنتهى الأمل، فينساق واهماً لأنّ يجعلها فوق كلّ شيء!

والأمران في واقعهما كالعلة والمعلول، فالطغيان وفساد العقدة مفتاح فساد العمل وحبّ الدنيا المفرط، ولا يجران إلاّ إلى سوء عقبى الدار، نار جهنّم خالدين فيها أبداً.

وعن أمير المؤمنين علي (ع)، أنّه قال: "ومَنْ طغى ضل على عمل بلا حجّة" (4)، فالغرور يُرى صاحبه الهوى حقّ: على الرغم من عدم امتلاكه الدليل أو الحجّة، وبالرغم من مخالفة المنطق له!.

ويأتي الدور في الآيتين التاليتين لوصف أهل الجنّة: (وأمّا مَنْ خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى).

فالشرط الأوّل للحصول على نعم الجنّة والإستقرار بها هو الخوف من اللّه من خلال معرفته (معرفة اللّه والخوف من التمرد والعصيان على أوامره)، والشرط الثاني هو ثمرة ونتيجة الشرط الأوّل أي الخوف والمعرفة ويتمثل في السيطرة على هوى النفس وكبح جماحها، فهوى النفس من أقبح الأصنام المعبودة من دون اللّه، لأنّه المنفذ الرئيسي لدخول معترك الذنوب والمفاسد، ولذا فـ "أبغض إله عُبِدَ على وجه الأرض: الهوى".

وهوى النفس هو الطابور الخامس في قلب الإنسان، نعم... فالشيطان الخارجي لا يتمكن من النفوذ إلى داخل الإنسان ما لم يوافقه الشيطان الداخلي في منحاه، ويفتح له أبواب الدخول، كما تشير إلى ذلك الآية (42) من سورة الحجر: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ مَنْ اتبعك من الغاوين).

ملاحظات

1 - مقام الرّب؟

جاء في الآية (40) (... مَنْ خاف مقام ربّه...)، ولم يقل (مَنْ خاف ربّه)،، فماذا يقصد بهذا المقام؟

طرحت احتمالات عديدة في جواب السؤال المذكور:

1 - المقام: مواقف القيامة، وهي المقامات التي سيقف فيها الإنسان بين يدي ربّه للحساب، فسيكون "مقام ربّه" - على ضوء هذا الإحتمال - بمعنى (مقامه عند ربّه).

2 - المقام: علم اللّه ومقام مراقبته للإنسان، بدلالة الآية (33) من سورة الرعد: (أفَمَن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت).

وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق (ع): قوله: "مَن عَلِمَ أنّ اللّه يراه، ويسمع ما يقول، ويعلم مِن خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى" (5).

3 - مقام العدالة الإلهية، لأنّ العبد لا يخاف من ذات اللّه المقدّسة بل خوفه من عدل اللّه حسابه وفي الحقيقة إنّ هذا الخوف ناشيء من قياس أعماله بميزان العدل، فالمجرمون ترتعد فرائصهم وتهتزّ دواخلهم حين رؤية القاضي العادل، ولا يتحملون سماع اسم المحكمة والمحاكمة، بعكس مَن لم يقم بأي ذنب، فرؤيته للقاضي ستكون مغايرة لما داخل المجرم من إحساسات... ولا تباين بين هذه التفسيرات الثلاثة، ويمكن ادغامها في معنى الآية.

2 - علاقة الطغيان بعبادة الدنيا

رسمت الآيات المبحوثة وباُسلوب رائع اُصول سعادة وشقاء الإنسانية، فجسدت بريشتها البيانية زبدة تعاليم الأنبياء والأولياء عليهم السلام.

فشقاء الإنسان يكمن في طغيانه وعبادته لجواذب الدنيا، وسعادته في خوفه من اللّه وتركه ما يُبعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى.

روي عن أمير المؤمنين (ع)، أنّه قال: "إنّ أخوف ما أخاف عليكم إثنان: إتّباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتّباع الهوى فيصد عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة" (6).

و... هوى النفس: يضع حجاباً على عقل الإنسان، يزيّن له الأعمال القبيحة، يُشغل الإنسان بنفسه، يسلبه قدرة التمييز بين الصالح والطالح والتي هي أعظم نعمة على الإنسان، وبها يتميزّ الإنسان عن الحيوان، وهذا هو ما أشارت إليه الآية (18) من سورة يوسف في وقول نبيّ اللّه يعقوب (ع) لأولاده: (بل سولت لكم أنفسكم أمراً) وباب الحديث أوسع بكثير من أن يلخص بوريقات، ولكننا سنكتفي بذكر حديثين عن أئمّة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام)، لتناولهما مختلف جوانب الموضوع:

فعن الإمام الباقر (ع)، أنّه قال: "الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دحل الجنّة، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النّار" (7).

وعن الإمام الصادق، أنّه قال: "لا تدع النفس وهواها، فإنّ هواها في رداها، وترك النفس وما تهوى داؤها، وكفّ النفس عمّا تهوى دواؤها" (8).

ولا يُدخِلَ اتباع الهوى جهنّم فقط، فله من الآثار السلبية حتى في الحياة الدنيا، ومن نتائجه: فقدان الأمن، وتخلخل النظام، ونشوب الحروب، وسفك الدماء، وإثارة النزاعات والأحقاد...

3 - فريقان لا ثالث لهما

تحدثت الآيات محل البحث عن فريقين من الناس، أمّا من طغى وعبد هواه فمأواه جهنّم خالداً فيها، وأمّا من اتقى وخاف مقام ربّه فالجنّة مأواه أبداً.

وثمّة فريق ثالث لم تتطرق له الآيات، وهم المؤمنين الذين قصروا في أداء بعض الأعمال والوظائف، أو أصابهم بعض تلوثات هوى النفس الأمارة بالسوء، فهؤلاء وإن كانوا فريقاً ثالثاً - حسب لظاهر - إلاّ أنّهم سرعان ما يلتحقون بأحد الفريقين، فأمّا مَن يحمل أرضية شموله بالعفو الإلهي فسيلتحق بركب المتقين، وأمّا مَن ثقلت كفة ذنوبه فسيحشر مع القابعين في أودية النّار، ولكنها لا تكون مكانهم ومأواهم الأبدي.


1- يقول بعض المفسّرين، إنّ جواب الشرط في "إذا" الشرطية، يأتي في الآيات (فأمّا مَن طغى... وأمّا مَن خاف مقام ربّه...)ولكن الأفضل أن نقول: إنّ الجزاء محذوف يدل عليه ما في الآيات التالية، والتقدير: (فإذا جاءت الطامة الكبرى، يجز كلّ إنسان بما عمل)، وقيل: يستفاد جزاء الشرط من "يوم يتذكر الإنسان" - ولكنّه بعيد.

2- لزيادة التوضيح، راجع ذيل الآية (124) من سورة طه.

3- تقدير الآية الثالثة مع محذوفها: (هي المأوى له) أو(هي مأواه)، وحذف الضمير لوضوحه.

4- نور الثقلين، ج5، ص506، الحديث 43.

5- نور الثقلين، ج5، ص197.

6- نهج البلاغة، الخطبة 42.

7- نور الثقلين، ج5، ص507، الحديث 45.

8- المصدر السابق، الحديث 46.