الآيات 31 - 37

﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَآئِقَ وَأَعْنَـباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْسَاً دِهَاقاً (34) لاّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوَاً ولاَ كِذَّاباً (35) جَزَآءً مِن رَبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً (36) رَبِّ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهَمَا الرَّحْمَـنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37)﴾

التفسير:

ممّا وعد اللّه المتقين:

كان الحديث في الآيات السابقة منصباً حول خاتمة المجرمين والطغاة وما يلاقونه من أليم العذاب وموجباته، وينتقل الحديث في الآيات أعلاه لتفصيل بعض ما وعد اللّه المؤمنين والمتقين من النعم الخالدة والثواب الجزيل، عسى أن يرعوي الإنسان ويتبع طريق الحق من خلال مقايسته لما يعيشه كلّ من الفريقين، على ضو تفكيره بمصيره الأبدي.

وكذا هو الحال في الاُسولب القرآني، كما في بقية السور الاُخرى، فهو يضع متضادات الحالات والأحوال في طبق واحد، ليتمكن الإنسان بسهولة من اكتشاف خصائص وشؤون أيّاً منها.

فيقول، مبتدءً الحديث: (إنّ للمتقين مفازاً).

"المفاز": اسم مكان، أو مصدر ميمي من (الفوز) بمعنى الوصول إلى الخير بسلام، ويأتي بمعنى النجاة أيضاً وهو من لوازم المعنى الأوّل.

وقد جاءت "مفازاً" بصيغة النكرة للإشارة إلى الفتح العظيم والوصول إلى خير وسعادة لا يعلم قدرهما إلاّ اللّه عزّوجلّ.

ومن مفردات الفوز والسعادة: (حدائق وأعناباً) (1).

"الحدائق": جمع "حديقة"، وهي قطعة أرض مزروعة بالورود والأشجار ومحاطة بسور لحفظها، ويقول الراغب في مفرداته "الحديقة" قطقة من الأرض ذات ماء، سمّيت تشبيهاً بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها.

أمّا ذكر "العنب" دون بقية الفواكه فلما له من مزايا تفضله على بقية الفواكه، ويقول علماء التغذية في هذا المجال: إضافة لكون العنب غذاءً كاملاً من حيث الخاصية الغذائية الموجودة فيه والتي تشبه حليب الاُم في كونه ثري بالمواد الغذائية اللازمة للإنسان، إضافة لكل هذا، فهو يعطي للبدن ضعف ما يعطيه اللحم من سعرات حرارية، حتى وصف بصيدلية متكاملة لما يحويه من مواد مفيدة.

ومن خواص وفوائد العنب، أنّه: مقاوم للسموم، مفيد لتصفية الدم، يقي من الروماتيزم والنقرس، مضاد فعّال ضد زيادة السموم الحاصلة في الدم، مقو للأعصاب ومنشط ويعطي للإنسان القوّة والقدرة الكافية لما فيه من كميات مناسبة لأنواع (الفيتامينات).

وقد روي عن النّبي (ص) في خصوص العنب أنّه قال: "خير فواكهكم العنب".

ويتطرق القرآن إلى نعمة اُخرى ممّا وعد اللّه به المتقين في الجنّة، فيقول: (وكواعب أتراباً).

"الكواعب": جمع "كاعب"، وهي البنت حديثة الثدي، للإشارة إلى شباب زوجات المتقين في الجنّة.

"الأتراب": جمع "ترب"، ويطلق على مجموعة الأفراد المتساويين في العمر، واستعماله في الإناث أكثر، قيل: إنّها من "الترائب" وهي: اضلاع الصدر، وذلك لما بينهما من شبه من حيث التساوي والتماثل.

ويحتمل أن يكون المراد من "أتراب" التساوي بين نساء أهل الجنّة في العمر، فيكون شابات متساويات في القد والقامة والجمال، أو تساوي العمر بينهن وبين أزواجهن من المؤمنين، لأنّ للتساوي في العمر له أثره النفسي على إدراك مشاعر الطرف الآخر... إلاّ أن المعنى الأوّل أكثر تناسباً.

وتأتي النعمة الرابعة: (وكأساً دهاقاً).

شراب ليس كأي شراب، فلا يُهب بالعقول ولا يحدر الإنسان إلى دركات الحيوانية، بل هو مُذك للعقل، منشط للروح ومنعش للقلب.

"الكأس": هو القدح المملوء بالشراب، وقد يطلق على القدح دون الشراب أو على شراب القدح.

"دهاقاً": بمعنى الإمتلاء، عند أكثر المفسّرين وأهل اللغة، لكنّ (ابن منظور) قد ذكر معنيين آخرين هما: التتابع على شاربيها، صافية.

وعليه... فيمكن حمل معنى الآية، على ضوء ما ذكر من معان، على أنّ لأهل الجنّة أقداح مملوءة بشراب زلال طاهر.

ودفعاً لما يتبادر إلى الأذهان من تبعات شراب الدنيا الشيطاني، يقول القرآن: (لا يسمعون فيها لغواً ولا كذّاباً).

إنّ شراب الدنيا...يُذهب العقل، يفقد الإحساس، يوقع شاربه بالهذيان واللغو... وأمّا شراب الآخرة فنفحاته الطاهرة تضفي على العقل والروح نوراً وصفاء.

وثمّة احتمالات بخصوص ضمير "فيها".

الأوّل: إنّه يعود إلى الجنّة.

الثّاني: إنّه يعود إلى الكأس.

فعلى الإحتمال الأوّل، يكون معنى الآية إنّ أهل الجنّة لا يسمعون فيها لغواً، كما جاء في الإيتين (10 و 11) من سورة الغاشية: (في جنّة عالية لا تسمع فيها لاغية).

وعلى الإحتمال الثّاني، يكون معنى الآية: إنّه سوف لا يصدر اللغو والهذيان والكذب من أهل الجنّة بعد شرابهم ما في كأس الجنّة من شراب، كما جاء في الآية (23) من سورة الطور: (يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم).

وعلى أيّة حال، فالجنّة خالية من: الأكاذيب، الهذيان، التهم، الإفتراءات، تبرير الباطل، بل وكلّ ما كان يؤذي قلوب المتقين في الحياة الدنيا... إنّها الجنّة! وخير تصوير لها ما جاء في الآية (62) من سورة مريم: (لا يسمعون فيها لغواً إلاّ سلاماً).

وفي آخر المطاف يذكر القرآن الكريم تلك النعمة المعنوية التي تفوق كلّ النعم علوّاً: (جزاءً من ربّك عطاءً حساباً).(2)

وأيّة بشارة ونعمة أسمى وأجل، من أن أكون وأنا العبد الضعيف، موضع ألطاف وإكرام اللّه جلّ وعلا، فيطعمني ويكسوني ويغرف عليّ بنعمه التي لا تحصى عدداً ولا تضاهى حبّاً وكرماً، وفطوبى للمؤمنين في دار الخلد وهم منعمون بكل ما لذّ وطاب.

والتعبير بكلمة "ربّ" مع ضمير المخاطب، وكلمة "عطاء"، لتبيان ما اُودع من لطف خاص في النعم التي وعِدَ بها أهل التقوى.

"حساباً": يعتقد الكثير من المفسّرين إن معناها هنا (كافياً): من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي (3).

وروي عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "حتى إذا كان يوم القيامة حسب لهم حسناتهم ثمّ أعطاهم بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال اللّه عزّوجلّ: (جزاء من ربّك عطاءً حساباً) " (4).

ونستفيد من الرواية المذكورة أنّ نعم اللّه في الآخرة وإن كانت بصفة الفضل.

واللطف والزيادة، إلاّ أن مقدمتها الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان في حياته الدنيا، وعليه... فيمكن تفسير "حساباً" في الآية بمعنى (الحساب)، ولا مانع من إرادة كلا المعنيين - فتأمل.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة، يضيف: (ربّ السموات والأرض وما بينهما الرحمن).

نَعم: إنّه مالك العالم، ومدبّر ما فيه، وموجه كلّ حركاته وسكناته، إنّه الرحمن الذي شملت رحمته كلّ شيء، وهو واهب الصالحين ما وعدهم به القرآن الكريم.

وبما أنّ صفة "الرحمن" تشمل رحمة اللّه العامّة لكلّ خلقه، فيمكن حمل إشارة الآية إلى أنّ اللّه تبارك وتعالى يشمل برحمته أهل السماوات والأرض في الحياة الدنيا، إضافة لما وعد به المؤمنين من عطاء دائم في الجنّة.

وذيل الآية، يقول: (لا يملكون منه خطاباً).

ويمكن شمول "لا يملكون" جميع أهل السماوات والأرض، أو جميع المتقين والعاصين الذين يجمعون في عرصة المحشر للحساب والجزاء.

وعلى أيّ القولين... فالآية تشير إلى عدم القدرة على الإعتراض أو الردّ من قبل كلّ المخلوقات أمام محكمة العدل الإلهي، لأنّ حسابه جلّ اسمه من الدقّة والعدل واللطف ما لا يفسح المجال أمام أي اعتراض.

بل ولا يسمح في ذلك اليوم بالتشفع لأيٍّ كان إلاّ بإذن خاص منه جلّت عظمته، وهو ما تشير إليه الآية (255) من سورة البقرة: (مَن ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه).

بحثان

1 - ثواب المتقين وعقاب العاصين

يلاحظ ثمّة مقايسة بين الآيات المبحوثة وما سبقها من آيات... فقد تحدثت الآيات السابقة عن نوعين من الجزاء لكلّ من المجرمين والمؤمنين، فالآيات محل البحث تحدثت عن بعض ما للمؤمنين من ثواب ونعيم، وفيما تقدمها من آيات تحدثت عن بعض ما للمجرمين من عقوبات.

فهنا تحدثت عن "المفاز" وهناك عن "المرصاد"...وهنا تحدثت عن "حدائق وأعناباً" وهناك عن التخبط بالعذاب إلى مدّة لا متناهية "أحقاباً"...وهنا كان الحديث عن "الشراب الطهور" وهناك عن الماء الحارق "حميماً وغساقاً"...وهنا تحدثت الآيات عن عطايا ومواهب "الرحمان"، وهناك عن الجزاء العادل "جزاءً وفاقاً"...وهنا الحديث عن زيارة "النعمة" وهناك زيادة "العذاب"...والخلاصة: إنّ هذين الفريقين يقعان في قطبين متنافرين من كلّ الجهات نتيجة لما كانا يعيشانه في الحياة الدنيا من تنافر وتباعد من حيث الإيمان والعمل.

2 - أشربة الجنّة!

أوردت الآيات الشريفة أوصافاً متنوعة لأشربة الجنّة، ويظهر أنّ لشاربيها من اللذّة الروحية المعنوية ما لا يمكن وصفه أو خطّه بقلم.

فالآية (21) من سورة الدهر، تصفه بالطهور: (وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً).

والآيات (45 - 47) من سورة الصافات، تصفه بالزلال واللذّة والصفاء، وأنّه لا يؤدي لأذىً ولا يذهب بالعقول: (يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذّة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون).

والآية (رقم 5) من سورة الدهر، تصفه بأنّه مخلوط بمادة باردة ملطفة (الكافور): (يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً).

والآية (17) من سورة الدهر، تقول عنه بأنّه مخلوط بالزنجبيل: (ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً).

وجاء في الآيات المبحوثة: (وكأساً دِهاقاً) أي: زلالاً صافياً.

وفوق كلّ هذا وذاك، فمن هو الساقي... إنّه اللّه تعالى!! يسقيهم بيد قدرته وعلى بساط رحمته، تقول الآية (21) من سورة الدهر: (وسقاهم ربّهم...).

اللّهمّ! اشملنا بعفوك، واسقنا من فيض شربك يا أرحم الراحمين...


1- "الحدائق": بدل "مفازة"، أو عطف بيان لها.

2- "جزاء": حال لإعطاء النعم التي ذكرت في الآيات السابقة، فيكون التقدير: أعطاهم جميع ذلك جزاء من ربّك، واحتمل البعض: إنّه مفعول مطلق لفعل محذوف. واعتبره آخرون: إنّه مفعول لأجله، لكنّ التّفسير الأوّل أقرب.

3- تفسير البيضاوي في ذيل الآية المبحوثة.

4- تفسير نور الثقلين، ج5، ص495، ح29.