الآيات 1 - 4
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَـنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَـنَ مِن نُّطْفَة أَمْشَاج نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـهُ سَمِيعَاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ سَلَـسِلاَْ وَأَغْلَـلاً وَسَعِيراً (4)﴾
التفسير:
الانسان مخلوق من النطفة التافهة:
تتحدث الآيات الأُولى عن خلق الإنسان، بالرغم من أنَّ أكثر بحوث هذه السورة هي حول القيامة ونِعَمِ الجنان، فتحدثت في البدء عن خلق الإنسان، لأنَّ التوجه والإلتفات إلى هذا الخلق يهيء الأرضية للتوجه إلى القيامة والبعث كما شرحنا ذلك سابقاً في تفسير سورة القيامة.
فيقول تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) (1).
نعم، كانت ذرات وجود هذا الانسان متناثرة في كلّ صوب وبين الأتربة، بين أمواج قطرات ماء البحر.
في الهواء المتناثر في جو الأرض، وهكذا اختفت المواد الأصلية لوجوده في كلّ زاوية من زوايا هذه المحيطات الثلاثة، وقد ضاع بينها ولا يمكن ذكره مطلقاً.
ولكن هل أنَّ المراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان، ويشمل بذلك عموم البشر، أم أنَّ هذا الإنسان يختص بالنبي آدم (ع) ؟
الآية الأُخرى التي تقول: (إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة) قرينة واضحة على المعنى الأوّل، وإن كان البعض يرى أنَّ الإنسان في الآية الأُولى يراد به آدم (ع)، والإنسان في الآية الثّانية يراد به أولاده، ولكنَّ هذا الاختلاف في هذه الفاصلة القصيرة مستبعدٌ جدّاً.
وهناك أقوال في تفسير (لم يكن شيئاً مذكوراً) منها: إنَّ الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً عندما كان في عالم النطفة والجنين، وإنّما أصبح ممّن يذكر عندما طوى مراحل التكامل فيما بعد; ففي حديث ورد عن الإمام الباقر (ع) "كان الإنسان مذكوراً في علم الله ولم يكن مذكوراً في عالم الخلق" (2).
وجاء في بعض التفاسير أنَّ المراد بالإنسان هنا هم العلماء والمفكرون الذين لم يكونوا مذكورين قبل انتشار العلم، وعند وصولهم إلى العلم وانتشاره بين الناس أصبح ذكرهم مشهوراً في حياتهم وبعد موتهم.
وقيل "إنَّ عمر بن الخطاب" قد سمع أحداً يتلو هذه السورة فقال: "ليت آدم بقي على ما كان فكان لا يلد ولا يبتلي أولاده" (3) وهذا من عجائب القول، لاعتراضه على مسألة الخلق.
ثمّ يأتي خلق الإنسان بعد هذه المرحلة، واعتبار ذكره، فيقول تعالى (إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً).
"أمشاج": جمع مَشَجْ، على وزن (نسج) أو (سبب)، أو أنه جمع "مَشِيجْ" على وزن (مريض) بمعنى المختلط.
ولعل ذكر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذكور والإناث، وقد أُشير إلى ذلك في روايات المعصومين (عليهم السلام) بصورة إجمالية، أو أنّها إشارة إلى القابليات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحية العوامل الوراثية عن طريق الجيّنات، أو أنَّها إشارة إلى اختلاط المواد التركيبية المختلفة للنطفة، لأنَّها تتركب من عشرات المواد المختلفة، أو اختلاط جميع ذلك مع بعضها البعض، والمعنى الأخير أجمع وأوجه.
ويحتمل كون "الأمشاج" إشارة إلى تطورات النطفة في المرحلة الجنينية (4).
"نبتليه": إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التكليف والتعهد وتحمل المسؤولية والإِختبار والإمتحان، وهذه هي إحدى المواهب الإلهية العظيمة الذي أكرم بها الإنسان وجعله أهلاً للتكليف وتحمل المسؤولية، وبما أنَّ الإختبار والتكليف لا يتمّ إلاَّ بعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار في آخر الآية إلى وسائل المعرفة، والعين والأُذن التي أودعها سبحانه وتعالى في الإنسان وسخرها له.
وقيل المراد بالإبتلاء هنا التطورات والتحولات الحاصلة في الجنين من النطفة حتى ينشئه إنساناً كاملاً، ولكن التمعن في عبارة "نبتليه"، وكذلك في كلمة "الإنسان" نجد أنَّ المعنى الأوّل هو الأوجه.
وممّا يستفاد من هذه العبارة أنَّ منبع جميع إدراكات وعلوم الإنسان هي إدراكاته الحسية، وبعبارة أخرى إنَّ الإدراكات الحسية هي أُمُّ المعقولات، وهذه هي نظرية كثير من فلاسفة المسلمين ومن بين فلاسفة اليونان يذهب أرسطو إلى هذه النظرية أيضاً.
إنَّ اختبار الإنسان بحاجة إلى عاملين آخرين، هما: "الهداية" و"الإختبار" بالإضافة إلى المعرفة ووسائلها، فقد أشارت الآية التالية إلى ذلك: (إنَّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً) (5).
إنّ للهداية هنا معنى واسعاً، فهي تشمل "الهداية التكوينية" و"الهداية الفطرية" وكذلك "الهداية التشريعية" وإن كان سياق الآية يؤكّد على الهداية التشريعية.
توضيح:
إنّ الله قد خلق الإنسان لهدف الإبتلاء والإختبار والتكامل، فأوجد فيه المقدمات لكي يصل بها إلى هذا الهدف، ووهبه القوى اللازمة لذلك، وهذه هي (الهداية التكوينية)، ثمّ جعل في أعماق فطرته عشقاً لطي هذا الطريق، وأوضح له السبيل عن طريق الإلهام الفطري، فسمي ذلك بـ (الهداية الفطرية)، ومن جهة أُخرى بعث القادة السماويين والأنبياء العظام لإراءة الطريق بالتعليمات والقوانين النيّرة السماوية، وذلك هو "الهداية التشريعية"، وجميع شعب الهداية الثلاث هذه لها صبغة عامّة، وتشمل جميع البشر.
وعلى المجموع فإنّ الآية تشير إلى ثلاث مسائل مهمّة مصيرية في حياة الإنسان: "مسألة التكليف"، و"مسألة الهداية"، ومسألة "الإرادة والإختيار" والتي تعتبر متلازمة ومكمّلة بعضها للبعض الآخر.
التعبير بـ (شاكراً) و (كفوراً) يعتبر أفضل تعبير ممكن في هذه الآية، لإنّه مَنْ قابل النِعَمِ الإلهية الكبيرة بالقبول واتخذ طريق الهداية مسلكاً، فقد أدّى شكر هذه النعمة، وأمّا من خالف فقد كفرها.
وبما أنَّ الإنسان لا يتمكن من تحقيق الشكر الحقيقي، فقد عبّر عن الشكر باسم الفاعل، والحال أنّ الكفران جاء بصيغة المبالغة فقال: (كفور)، لأنّ عدم اهتمامهم بهذه النعم الكبيرة يعتبر كفراناً شديداً منهم باعتبار أنَّ الله عزَّ وجلّ وضع وسائل الهداية تحت تصرفهم، ولذا فإنَّ إهمال هذه الوسائل والمواهب والغضّ عنها واتخاذ السبيل المنافي لها يعتبر كفراناً شديداً.
والجدير بالذكر أنّ كلمة (كفور) تستعمل لكفران النعمة، وكذلك للكفر الإعتقادي، وهو ما أورده الراغب في مفرداته.
وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إشارة قصيرة وغنية بالمعنى إلى الذين سلكوا طريق الكفر والكفران فتقول: (إنّا اعتدنا للكافرين سلاسلاْ وأغلالاً وسعيراً).
التعبير بـ (اعتدنا) تأكيد على حتمية مجازاة هذه الثلّة، وبالرغم من أنَّ تهيئة الشيء مسبقاً هو عمل من له قدرة محدودة ويحتمل أن يعجز بعد ذلك من إنجاز العمل، ولكن هذا المعنى لا يصدق على الله تعالى، لأنّه إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون، وفي الوقت نفسه يبيّن للكافرين أنَّ هذه العقوبات حتمية ووسائلها جاهزة.
"سلاسل": جمع (سلسلة)، وهي القيد الذي يقاد به المجرم، و"الأغلال" جمع غل، وهي الحلقة التي توضع حول العنق أو اليدين وبعد ذلك يُقفل بالقيد (6).
على كلّ حال فإنّ ذكر الأغلال والسلاسل ولهيب النيران المحرقة تبيان للعقوبات التي يعاقب بها المجرمون، وهو ما أُشير إليه في كثير من آيات القرآن ويشمل ذلك العذاب والذل، إنَّ إطلاقهم لعنان الشهوات يسبب في تعاستهم في الآخرة، وإشعالهم للنيران في الدنيا تتجسَّد لهم في الإخرة لتلهب أطرافهم.
ملاحظة:
عالم الجنين الصاخب:
من الواضح أنَّ نطفة الإنسان مركّبة من ماء الرجل والمرأة، ويسمى الأوّل (الحيمن) والثّاني (البويضة) فالأصل وجود (النطفة) ثمّ تركيبها، وبعد ذلك تتمّ المراحل المختلفة للجنين، وهذا هو من العجائب العظيمة لعالم الخلق، وتطور العلم (علم الأجنَّة) قد كشف الكثير من أسراره وإن كانت هناك أسرار كثيرة لم يتمّ كشفها لحدّ الآن، ونذكر هنا قسماً من العجائب والتي تعدّ زاوية صغيرة من عالم الجنين:
1 - "الحيمن" وهو ما يخرج مع ماء الرجل، وهو كائن حي متحرك صغير لا يرى بالعين المجرّدة، وله رأس وعنق وذنب متحرك، وممّا يثير العجب أنّ الرجل في كلّ إنزال يضم ماؤهُ من الحيامن المليونين إلى 500 مليون حيمن، وهو ما يعادل نفوس عدّة دول، ولكن لا يدخل من هذا العدد الهائل إلى البيضة إلاّ واحد أو عدّة حيامن لإخصاب البيضة، وسبب وجود هذا العدد من الحيامن يكمن في الخسائر التي تلحق بها في طريقها إلى البيضة وتلقيحها، ولو لم يتوفر مثل هذا العدد لكان أمر الحمل صعباً.
2 - إنّ حجم "الرحم" قبل الحمل يكون بحجم الجوزة الواحدة، وعند انعقاد النطفة ونمو الجنين يتسع الرحم بشكل ملحوظ ليشغل مكاناً واسعاً، والعجب أنّ جدار الرحم يكون مطاطياً إلى حد يكون قادراً على استيعاب حجم الطفل وحركاته.
3 - إنَّ الدم لا يجري في الرحم بواسطة العروق والشرايين، بل يجري بين
عضلات الرحم بصورة ميزاب، لأنَّ الرحم في اتساع مستمر فإذا ما وجد العِرقْ فإنّه لن يتحمل السحب والتمدد الكبير.
4 - يعتقد بعض العلماء أنّ لبيوض المرأة شحنة موجبة، وإنَّ للحيمن شحنة سالبة، ولذا يجذب أحدهما الآخر، ولكن عند تخصيب الحيمن للبيضة فإنَّ شحنة النطفة المتشكلة تكون سالبة.
وتطرد بذلك بقية الحيامن الموجودة، وقال آخرون: عندما يدخل الحيمن في البيضة تترشح مادة كيميائية خاصّة لتطرد بقية الحيامن.
5 - إنّ الجنين يسبح في كيس كبير فيه ماء غليظ يدعى بـ "آمني بوس" له خاصية مقاومة ما يقع على بطن المرأة من الضربات، وتحمل ما يقع من حركات الأم الشديدة، بالإضافة إلى ذلك فإنّه يحفظ الجنين بمعدل حراري ثابت، ولا تؤثر فيه تغيرات الحرارة الخارجية بسرعة، والجدير بالذكر أنّ الكيس يجعل الجنين عديم الوزن، ويمنع من حدوث الضغط على أعضاء الجنين بعضها على بعض ممّا يسبب ذلك ضرراً على الجنين!
6 - تتمّ تغذية الجنين عن طريق المشيمة وحبل السرّة، أي أنّ دم الأُم والمواد الغذائية والأوكسجين يدخل إلى المشيمة ثمّ يبدأ حبل السرّة بتصفية هذه المواد لتدخل إلى قلب الجنين وتتوزع منه إلى بقية أعضاء البدن، والطريف أنّ البطين الأيسر والأيمن لقلب الجنين مترابطان مع بعضهما الآخر، لأنّ التصفية هنا لا تتمّ إلاَّ عن طريق الرئة، وذلك لأنّ الجنين لا يتنفّس ولكنّه عند تولده تنفصل الأوعية بعضها عن البعض الآخر، ويبدأ جهاز التنفس عندئذ بالعمل.
1- المصدر السابق.
2- "هل": يراد بها (قد) أو أنّها بمعنى الإستفهام التقريري أو الإنكاري، ولكن الظاهر فيها الإستفهام التقريري، فيكون معنى الجملة: (أليس قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً).
3- مجمع البيان، ج 10، ص 406.
4- المصدر السابق.
5- يجب الإلتفات إلى أن النطفة جاءت بصيغة المفرد، وجاءت صفتها بصورة الجمع، وهي "أمشَاج"، باعتبار أنَّ النطفة تركبت من أجزاء مختلفة، وأنّها في حكم الجمع، ويعتقد البعض كالزمخشري في الكشاف أنَّ "أمشَاج" مفرد رغم أنَّها من أوزان الجمع.
6- "شاكراً" وكفوراً" يعتقد الكثير أنّهما حال لضمير المفعول في (هديناه) ويحتمل أن يكون خبراً لـ (يكون) محذوف وتقديره (إمّا يكون شاكراً وإمّا يكون كفوراً).