الآيات 26 - 30

﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاق (27) وَظَنَّ أَنَهُ الْفِرَاقُ (28) والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذ المَسَاقُ (30)﴾

التفسير:

إتماماً للأبحاث المرتبطة بالعالم الآخر ومصير المؤمنين والكفّار يأتي الحديث في هذه الآيات عن لحظة الموت المؤلمة والتي تعتبر باباً إلى العالم الآخر فيقول تعالى: (كلاّ إذا بلغت التراقي) (1) أي كلاّ إنّه لا يؤمن حتى تصل روحه التراقي.

هو ذلك اليوم الذي تنفتح فيه عينهُ البرزخية، وتزال عنها الحجب، ويرى فيها علامات العذاب والجزاء، ويوقف على أعماله، ففي تلك اللحظة يقرّ بالإيمان ولكن إيمانه لا ينفعهُ ولا يفيد حاله أبداً.

"تراقي": جمع "ترقوة"، وهي العظام المكتنفة للنحر عن يمين وشمال، وبلوغ الروح إلى التراقي كناية عن اللحظات الأخيرة من عمر الإنسان، وذلك عندما تخرج الروح من البدن، تتوقف الأعضاء البعيدة عن القلب (كاليدين والرجلين) قبل غيرها، كأن الروح تطوي نفسها في البدن تدريجياً حتى تصل إلى الحلقوم.

وفي هذه الفترة يسعى أهله وأصدقائه مستعجلين قلقين لانقاذه، يقول تعالى: (وقيل من راق) أي هل هناك من منقذ يأتي لإنقاذ هذا المريض؟

ويقولون هذا الحديث عن وجه العجز واليأس، والحال أنّهم يعلمون أنَّه قد فات الآوان ولا ينفع معه طبيب.

"راق": من مادة (رقي) على وزن (نهي) و (رقيه) على وزن (خفيه) وهو الصعود، ولفظة (رقيه) تطلق على الأوراد والأوعية التي تبعث على نجاة المريض، وقيل للطبيب الذي ينجي المريض ويخلصه مما هو فيه "راقي"، فيكون مفهوم الآية: ينادي أهل المريض، وأحياناً المريض نفسه من شدّة الضجر: ألا هل من داع يدعو بدعاء لينجي هذا المريض؟

وقال البعض: إنّ المعنى قول الملائكة بعضها لبعض: من يرقي بروحه من الملائكة، أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب؟

وأضاف البعض إنّ ملائكة الله تكره قبض روح غير المؤمن، ولذا يقول ملك الموت: من يرقي بروحه، والمعنى الأوّل أوجه وأنسب.

وفي الآية التالية إشارة إلى اليأس الكامل للمحتضر فيقول تعالى: (وظن أنّه الفراق) أي في هذه الحالة يصاب باليأس من الحياة واليقين بالفراق، ثمّ: (والتفت الساق بالساق) وهذا الإِلتفاف إمّا لشدّة الأذى لخروج الروح، أو لتوقف عمل اليدين والرجلين وتعطيل الروح منها.

وذكرت تفاسير أُخرى لهذه الآية، منها ما نقرأ في حديث عن الإمام الباقر (ع) قال: (التفت الدنيا بالآخرة) (2) ومثله عن علي بن إبراهيم (3).

ونقل عن ابن عباس كذلك من المراد من الآية: التفاف أمر الآخرة بأمر الدنيا.

وقال البعض: هو التفاف شدائد الموت بشدائد القيامة.

والظاهر رجوع جميع هذه المعاني إلى ما أوردناه في قول الباقر (ع)، واتخذ هذا التفسير لكون أحد معاني "الساق" في لغة العرب هو الحادثة الشديدة والمصيبة والبلاء العظيم.

وقال آخرون هو التفاف الساق في الكفن.

ويمكن جمع هذه التفاسير في معنى الآية إذ لا منافاة بينها.

ثمّ يقول تعالى في آخر آية من آيات البحث: (إلى ربّك يومئذ المساق).

أجل إلى الله تعالى المرجع حيث يحضر الخلائق عند محكمة العدل الإلهية، وهكذا ينتهي المطاف إليه، وهذه الآية أيضاً تأكيد على مسألة المعاد والبعث الشامل للعباد، ويمكن أن تكون إشارة إلى الحركة التكاملية للخلائق وهي متجهة نحو الذات المقدّسة واللامتناهية.

ملاحظة:

لحظة الموت المؤلمة:

كما نعلم أنَّ القرآن كثيراً ما أكّد على مسألة الموت خصوصاً عن الإحتضار، وينذر الجميع أنَّهم سيواجهون مثل هذه اللحظة، وقد عبّر عنها أحياناً (بسكرة

الموت) (4) وأحياناً أُخرى (بغمرات الموت) (5) وكذلك ببلوغ الحلقوم (6) و يعبر عنه أيضاً ببلوغ الروح إلى التراقي، أي العظام المكتنفة للنحر كما في الآيات مورد البحث، ويستفاد من مجموع ذلك أنَّ تلك اللحظة على خلاف ما يقوله الماديون، لحظة صعبة ومؤلمة، ولِمَ لا يكون كذلك والحال أنّها لحظة انتقال من هذا العالم إلى عالم آخر، أي إنَّ الانسان كما ينتقل من عالم الجنين إلى عالم الدنيا مصحوباً بألم شديد، فكذلك الإنتقال إلى العالم الآخر بهذا الشكل.

والمستفاد من الرّوايات أنَّ هذه اللحظة سهلة على المؤمنين، وصعبة ومؤلمة على فاقدي الإيمان، وذلك لشوق المؤمنين للقاء الله ورحمته ونِعَمِهِ السرمدية بحيث لا يشعرون بآلام لحظة الإنتقال.

وأمّا المجموعة الثانية فإنّ الآلام تتضاعف عليهم لحظة الإنتقال لخوفهم من العقوبات من جهة، ولمصيبة فراق الدنيا التي يحبونها من جهة أُخرى.

نقل في حديث للإمام علي بن الحسين (ع) عندما سئل عن الموت، فقال: "للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفك قيود وأغلال ثقيلة، والإستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح، وأوطىء المراكب، وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والإِستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظم العذاب" (7).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (ع) عندما طلب شخص منه أن يوصف له الموت فقال الإمام (ع): "للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كلّه عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ"! (8).

على كل حال فإنَّ الموت باب يؤدي إلى عالم البقاء، كما في حديث عن الإمام أمير المؤمنين إذ قال: "لكل دار باب وباب دار الآخرة الموت" (9).

أجل، إنَّ ذكر الموت له الأثر البالغ والعميق في كسر الشهوات وإنهاء الآمال الطويلة والبعيدة ومحو آثار الغفلة عن مرآة القلب، لذا ورد في حديث عن الإمام الصادق (ع) قال: "ذكر الموت يميت الشهوات في النفس ويقلع منابت الغفلة، ويقّوي القلب بمواعد الله ويرقّ الطبع، ويكسر أعلام الهوى، ويطفىء نار الحرص، ويحقّر الدنيا، وهو معنى ما قال النّبي: "فكر ساعة خير من عبادة سنة" (10).

وبالطبع المراد من ذلك هو بيان أحد المصاديق الواضحة للتفكر ولا ينحصر موضوع التفكر بذلك.

وأوردنا في ما مضى بحثاً آخراً لهذا الموضوع في ذيل الآية (19) من سورة (ق).


1- "فاقرة": صفة الموصوف محذوف وتقديرهُ (داهية فاقرة) و(تظن) فعلٌ و(وجوه) فاعله، وفي التقدير (أرباب الوجوه) أو (ذوات الوجوه).

2- "إذا": أداة شرطية وجزاؤه محذوف، والتقدير (إذا بلغت التراقي انكشف لهُ حقيقة الأمر، ووجد ما عمله)، والفاعل في (بلغت) هو (النفس) وهو محذوف ويعرف بقرينة الكلام.

3- نور الثقلين، ج 5، ص 465.

4- المصدر السابق.

5- (وجاءت سكرة الموت بالحق) سورة ق آية 19.

6- الأنعام، الآية 93.

7- (فلولا إذا بلغت الحلقوم) سورة الوقعة آية 83.

8- بحار الأنوار، ج 6، ص 155.

9- بحار الأنوار ج 6 ص، 152.

10- شرح النهج لابن أبي الحديد، ج 2، ص 345.