الآيات 30 - 37
﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِى سِلْسِلَة ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (33)وَلاَ يُحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَـهُنَا حَمِيمٌ(35) وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِين (36) لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَـطِئُونَ(37)﴾
التّفسير:
خذوه فغلّوه:
إستمراراً للآيات السابقة التي كانت تتحدّث عن (أصحاب الشمال) الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى، فتنطلق الآهات والأنّات، ويتمنّى أحدهم الموت - يشير تعالى في الآيات أعلاه إلى قسم من العذاب الذي يلاقونه يوم القيامة فيقول: (خذوه فغلّوه).
"غلّوه" من مادّة (غلّ)، وكما قلنا سابقاً أنّ المراد هو السلسلة التي كانوا يربطون بها أيدي وأرجل المجرمين إلى أعناقهم مقترن بالكثير من المشقّة والألم.
(ثمّ الجحيم صلّوه ثمّ في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه).
"السلسلة" في الأصل مأخوذة من مادّة (تسلسل) بمعنى الإهتزاز والإرتعاش، لأنّ حلقات السلسلة الحديدية تهتزّ وتتحرّك.
التعبير بـ (سبعون ذراعاً) يمكن أن يكون من باب (الكثرة) إذ أنّ العدد سبعين كثيراً ما يستعمل للكثرة، كما يمكن أن يكون المقصود هو العدد (سبعون) نفسه، وعلى كلّ حال، فإنّ مثل هذا الزنجير يطوق به المجرمون بحيث يربطون به من كلّ جانب.
وقال بعض المفسّرين: إنّ هذه السلاسل الطويلة ليست لشخص واحد.
بل لمجاميع يربط كلّ منها بسلسلة، وذكر هذه العقوبة بعد ذكر الغلّ في الآيات السابقة يتناسب أكثر مع هذا المعنى.
"ذراع": بمعنى الفاصلة بين الساعد ونهاية الأصابع، (وقياسها بحدود نصف متر) وكانت وحدة الطول المستعملة عند العرب، وهي قياس طبيعي، وقال البعض إنّ (الذراع) الوارد في الآية الكريمة هو غير الذراع المتعارف عليه، حيث أنّ كلّ وحدة منه تمثّل فواصل عظيمة، ويربط بهذا الزنجير جميع أهل جهنّم.
ونكرّر هنا مرّة اُخرى قولنا أنّ المسائل المرتبطة بالقيامة لا نستطيع تصويرها بالكامل بواسطة بياننا نحن سكّان الدنيا، إلاّ أنّنا نعكس شبحاً - فقط - من خلال ما جاء في الآيات والروايات.
التعبير بـ (ثمّ) في هذه الآية يوضّح لنا أنّ المجرمين بعد دخولهم في النار يربطون بالسلسلة ذات السبعين ذراعاً، وهذه عقوبة جديدة لهم.
كما يوجد إحتمال أنّ هذه السلاسل الفردية أو الجماعية تكون قبل الدخول في جهنّم، و (ثم) جاءت للتأخير في الذكر.
وتتطرق الآيتان التاليتان لبيان السبب الرئيسي لهذا العذاب العسير، فيقول تعالى: (إنّه كان لا يؤمن بالله العظيم).
وكلّما كان الأنبياء والأولياء ورسل الله تعالى يدعونه للتوجّه إلى (الواحد الأحد) لم يكن ليقبل، ولذا فإنّ إرتباطه بالخالق كان مقطوعاً بصورة تامّة.
(ولا يحضّ على طعام المسكين).
وبهذا الشكل فإنّ هؤلاء قد قطعوا علاقتهم مع (الخلق) أيضاً.
وبهذا اللحاظ فإنّ العامل الأساسي لبؤس هؤلاء المجرمين هو قطع علاقتهم مع (الخالق) و (الخلق).
ويستفاد من التعبير السابق - بصورة واضحة - أنّه يمكن تلخيص أهمّ الطاعات والعبادات وأوامر الشرع بهذين الأساسين: (الإيمان) و (إطعام المسكين) وهذا يمثّل إشارة إلى الأهميّة البالغة لهذا العمل الإنساني العظيم والحقيقة كما يقول البعض: إنّ أردأ العقائد هو (الكفر) كما أنّ أقبح الرذائل الأخلاقية هو (البخل).
والطريف في التعبير أنّه لم يقل (كان لا يطعم)، بل قال: كان لا يحثّ الآخرين على الإطعام، إشارة إلى:
أوّلا: إنّ حلّ مشكلة المحتاجين وإشباع الجائعين لا يمكن أن يتغلّب عليها شخص واحد، بل يجب دعوة الآخرين أيضاً للمساهمة بمثل هذا العمل، ليعمّ الخير والفضل والإحسان جميع الناس.
ثانياً: قد يكون الشخص عاجزاً عن إطعام المساكين، ولكن الجميع بإمكانهم حثّ الآخرين على ذلك.
ثالثاً: محاربة صفة البخل، حيث أنّ من صفات البخيل أنّه يمتنع عن العطاء والبذل، ولا يرغب أو يرتاح لبذل وعطاء الآخرين أيضاً.
وينقل أنّ شخصاً من القدماء كان يأمر زوجته بأن تطبخ طعاماً أكثر من حاجتهم لإعطاء المساكين، ثمّ كان يقول: (أخرجنا نصف السلسلة من أعناقنا وذلك بالإيمان بالله، والنصف الآخر بالإطعام)(259).
ثمّ يضيف تعالى: (فليس له اليوم ههنا حميم) أي صديق مخلص وحميم (ولا طعام إلاّ من غسلين) أي القيح والدم.
والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ (الجزاء) و (العمل) لهؤلاء الجماعة متناسبان تماماً، فبسبب قطع علاقتهم بالله، فليس لهم هنالك من صديق ولا حميم، كما أنّ سبب إمتناعهم عن إطعام المحتاجين فإنّ طعامهم في ذلك اليوم لن يكون إلاّ القيح والدم، لأنّهم حرموا المساكين من الإطعام وتركوهم نهباً للجوع والألم في الوقت الذي كانوا يتمتّعون لسنين طويلة بألذّ وأطيب الأطعمة.
يقول الراغب في المفردات: "غسلين" غسالة أبدان الكفّار في النار، إلاّ أنّ المتعارف عليه أنّ المقصود به هو الدم والقيح النازل من أجسام أهل النار، ويحتمل أنّ (الراغب) قد قصد هذا المعنى أيضاً.
كما أنّ التعبير بـ (الطعام) يناسب هذا المعنى كذلك.
وهنا يطرح سؤال، وهو متعلّق بما ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلاّ من ضريع)(260)، وقد فسّروا (الضريع) بأنّه نوع من الشوك.
وكذلك ما ورد بهذا الشأن في قوله تعالى: (إنّ شجرة الزقّوم طعام الأثيم)(261)، وقد فسّروا (الزقوم) بأنّه نبات مرّ غير مستساغ الطعم ذو رائحة نتنة حيث يكثر وجود مثل هذا النبات في أرض (تهامة) وهو مرّ وحارق وذو صمغ.
والسؤال هو: كيف يمكن الجمع بين هذه الآيات والآية مورد البحث؟
قال البعض في الجواب: إنّ هذه الكلمات الثلاث (الضريع، والزقوم، والغسلين) إشارة إلى موضوع واحد وهو (نبات خشن غير مستساغ الطعم يكون طعام أهل النار).
وقيل: إنّ أهل النّار في طبقات مختلفة، وإنّ كلّ صنف من هذه النباتات والأطعمة يكون غذاء لمجموعة منهم، أو طبقة من طبقاتهم.
وقيل: إنّ غذاء أهل النار هو (الزقوم والضريع)، وشرابهم (الغسلين)، والتعبير بـ (الطعام) عن الشراب في هذه الآية ليس بالجديد.
ويضيف سبحانه في آخر آية مورد البحث في قوله تعالى للتأكيد: (لا يأكله إلاّ الخاطئون).
قال بعض المفسّرين: إنّ (خاطىء) تقال للشخص الذي يرتكب خطأً عمداً، أمّا (المخطىء) فتطلق على من ارتكب خطأ بصورة مطلقة (عمداً أو سهواً) وبناءً على ما تقدّم فإنّ طعام أهل جهنّم خاصّ للأشخاص الذين سلكوا درب الشرك والكفر والبخل والطغيان تمردّاً وعصياناً وعمداً.
ملاحظة:
بداية وضع الحركات على حروف القرآن الكريم:
أخرج "البيهقي" في شعب الإيمان عن "صعصعة بن صوحان" قال: جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف "لا يأكله إلاّ الخاطون" كلّ والله يخطو؟ (أي إنّ جميع الناس تخطو وتمشي فهل انّ الجميع سوف يأكل من هذا الطعام؟) فتبسّم علي وقال: ياأعرابي (لا يأكله إلاّ الخاطئون) قال: صدقت والله ياأمير المؤمنين ما كان الله ليسلّم عبده، ثمّ التفت علي (ع) إلى أبي الأسود فقال: "إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم، فرسم لهم الرفع والنصب والخفض"(262).